تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: معالم على طريق التمكين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي معالم على طريق التمكين

    معالم على طريق التمكين (1/2)



    شريف عبدالعزيز



    التمكين كان ومازال أعظم وأكبر أهداف الدعاة في سبيل الله -عز وجل-، فهو جوهرة التاج وقلادة التتويج لجهود وعرق وتعب السنين، التمكين هو وعد الله -عز وجل- لعباده المؤمنين، وغاية رسله الأكرمين، ومسعى أنصاره الموحدين، التمكين طريقه شاق طويلة، ومسعاه غال نبيل، وزاده الصبر الجميل، وعلى طريق التمكين وإقامة الدين بذلت دماء وأرواح وتضحيات كبرى، فكم من نبي ومصلح وداعية وعالم قد سفك دمه وأزهقت روحه وابتلي ابتلاءً عظيمًا، فأشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم في الصلاح، ورغم كثرة الجراحات وقلة النجاحات، إلا أن الطريق ما زال بالدعاة عامرًا، والكثير على دربه سائرًا.
    ونظرًا لأهمية موضوع التمكين لإقامة هذا الدين، وأنه غاية منى الدعاة والمخلصين، كان لابد من معرفة أهم المعالم على طريق التمكين، والتي هي بمثابة المنارات والعلامات التي يهتدي بها السالكون ويتزود بها المجاهدون للوصول إلى نهاية الطريق، حيث الهدف الأسمى والغاية القصوى، ومن أهم هذه المعالم:
    أولاً: معلم العقيدة الصحيحة:
    فإن أول لبنة في بناء صرح التمكين، وأول معلم على درب التغيير؛ هو الاعتقاد الصحيح بتوحيد الله -عز وجل-، وإفراده بالعبادة التي هي غاية خلق العالمين، وأصل دعوة الرسل أجمعين، وأول ما يخاطب به الناس من أمور الدين، وسبب العصمة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وعندما نتكلم عن العقيدة كمعلم من أهم معالم التمكين فإننا نعني منها أمورًا كثيرة؛ منها:
    1- أن العقيدة الصحيحة هي التي تعلم صاحبها تلقي النصوص بالتسليم والتعظيم، وتعلم صاحبها سلامة صدره من أمراض الشك والريب وظن السوء.
    2- أن العقيدة الصحيحة هي العقيدة التي تستمد من مصادرها الأصلية النقية -الكتاب والسنة-، والخالية من كل شوب كلامي مردود أو فلسفي مدحوض أو بدعي ضال، وذلك بفهم السلف -رضوان الله عليهم- من الصحابة ومن سار على دربهم من التابعين والأئمة المهديين والعلماء الصالحين، الذين كانوا أعمق الناس علمًا بمعانيها، وأدقهم فهما بمراميها، وأقلهم تكلفًا، وأبعدهم عن الخلاف والافتراق في أصولها وقواعدها.
    3- أن العقيدة الصحيحة هي التي تجعل صاحبها يتثبت عند إطلاق الأحكام، ويحتاط أشد الاحتياط من تكفير وتفسيق وتبديع المخالفين من أهل القبلة، والعوام من أهل الملة، فضلاً عن دعاة وعلماء أهل السنة، ومراعاة التفريق بني القول وقائله، والفعل وفاعله، ومراعاة عوارض الأهلية من تأويل وجهل واشتباه.
    4- العقيدة الصحيحة هي العقيدة بمفهومها الشامل وفي كل أبوابها وأصولها المتلازمة، والتي لا يهجر أو ينكر منها شيء، بالجمع بين علمها ولوازم هذا العلم وآثاره في القلب والجوارح وفي سائر جوانب الحياة من العمل السلوكي والأخلاقي والتعبدي.
    5- هي العقيدة التي يسعى صاحبها لتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة غير منقوصة، وبيان وثيق الارتباط بين تحكيم الشريعة وبين الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً، العقيدة التي ترفض نقل مصدرية الأحكام ومرجعيتها من الوحي المعصوم إلى الهوى المشؤوم، وتعتبره اعتداءً سافرًا على مقام الألوهية، ونقضًا تامًّا لعقيدة الوحدانية.
    6- هي العقيدة التي تضع رابطة الولاء والبراء؛ تلكم الرابطة الربانية المعصومة من أهواء الاجتماع والاتفاق على حاجة من حاجات الدنيا، وتخلص الولاء بين الأتباع والمتبوعين من الموافقة على المخالفة أو اعتقاد التقديس أو العصمة، وتحقق البراء من كل من خالف صحيح الاعتقاد، وسار في طريق البدع والضلالات، مهما كانت قرابته أو صلته.
    7- هي العقيدة التي تظهر آثارها على سلوك أصحابها في أبرز وأجل صورها؛ وهي التضحية في سبيلها والصبر على ما يقع من أجلها، والبذل والعطاء الكامل في سبيل إقامة شعائرها وأصولها.
    المعلم الثاني: الإخلاص:
    طريق التمكين لا مكان فيه لغير المخلصين، فلا يقوى على السير فيه إلا من طلب وجه الله تعالى وحده، فالإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة النبيين، فلا يقبل الله -عز وجل- من الدين والعبادة إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، وهو شرط قبول الأعمال، والسر المبين بين العبد وخالقه، وبحسب قدره تتفاوت منازل العاملين، وهو مفتاح السرائر التي عليها مدار قبول الأعمال، والمخلصون هم طليعة الدرب وجند الدعوات وبناة التمكين، ولو كانوا فقراء مغمورين أو ضعفاء مجهولين، وفي الحديث "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"، والإخلاص الذي نعنيه هو:
    1- الإخلاص الذي يدفع صاحبه للشعور بالرحمة والشفقة على العالمين أجمعين، وهو يدعوهم ويبصرهم بطريق التمكين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وفي الحديث: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تقحّمون فيه".
    2- الإخلاص الذي يجعل صاحبه يفرح بكل كفاءة تبرز على ساحة التمكين، وتساهم في رقي الأمة وزيادة خيريتها، والتعاون والتأييد والدعم لها من أجل صالح الأمة، ونلمح هذا الإخلاص في قول الشافعي -رحمه الله-: "وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا ينسب إليّ منه شيء".
    3- الإخلاص الذي يعلم صاحبه قبول الحق وتعظيم أهله والدوران في فلكه والوقوف عنده، الإخلاص الذي يعلّم صاحبه قول الحق والجهر به، لا قول ما يطلبه المستمعون، الإخلاص الذي يحجب الأنانية وحب الذات، الإخلاص الذي يقي من الوقوع في المهاترات والخلافات التي تؤدي للطعن في الثقات والتلون تحت الرايات وكثرة الانتقال بين الاتجاهات والجماعات، لا بحثًا عن الحق ولكن لشهوة خفية من زعامة أو وجاهة أو منفعة دنيوية.
    4- الإخلاص الذي يمنع من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف، ويجعله يقيم ميزانًا للاعتدال، يذكر فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، دون تهويل أو تهوين، وبالجملة فالإخلاص هو روح العقيدة ولب الأخلاق وأصل أصول الدعوة إلى الله، فلا نصر أو تمكين لغير المخلصين.
    المعلم الثالث: العلم:
    فالعلم هو رفيق درب التمكين، وهو الكشاف الذي ينير الطريق، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، وهو العدة في البلاء، والزينة في الرخاء، والفصل بين الأخلاء، قال الزهري -رحمه الله-: "ما عبد الله بشيء أفضل من العلم"، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، أي أن العلم قبل القول والعمل، فالعلم أمام العمل وإمامه، ولكن يراعي في العلم كمعلم من معالم التمكين عدة أمور؛ منها:
    1- أن يكون العلم سبيلاً للوحدة والاتفاق، والقضاء على مظاهر التدابر والتشاحن.
    2- أن يورث العلم صاحبه الخشية من الله -عز وجل- كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب: 39].
    3- العلم الذي يقود صاحبه للفهم والاستنباط ليس مجرد الحفظ والرواية، فالطريق طويل وشاق، ونوازل الأمة كثيرة ومتشابكة، ولو غاب الفهم والاستنباط والبصيرة عن العالم، فستضطرب آراؤه وتخطئ قراراته، وتختل بوصلته، فيعادي من ينبغي أن يصالحه، ويهادن من يجب أن ينابذه.
    4- العلم الذي يركز على قضايا الأمة المهمة والحيوية والجوانب المثمرة، والذي يبعد عن الترف الفكري والجدل العقلي والمسائل التي قتلت بحثًا، وفرغ منها منذ آماد بعيدة، والبعد عن القضايا التي طوتها الأيام ولم يعد لها ذكر ولا أثر، والتمسك بالعلم عملاً وهديًا وسمتًا كما قال علي -رضي الله عنه-: "هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل".
    5- العلم الذي يعتني بمقاصد الشريعة ومراعاة التفريق بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وإدراك مراتب الأدلة والأحكام، ومعرفة مواضع الإجماع، ومواضع السعة والاختلاف، وضوابط هذا الاختلاف وأنواعه، العلم الذي يؤصل لفقه النوازل، دراسة السنن الربانية في التغيير وأسباب التمكين والاستخلاف، وعوامل السقوط وسنن الاستبدال.
    المعلم الرابع: الواقعية:
    الواقعية هي الوعي بالواقع، ويقصد به وجود حالة من اليقظة والانتباه تقتضي فهم الأشياء ومدلولاتها، وتجميع عناصرها السابقة وربطها في محاولة لإدراك الكل، وبعبارة أخرى؛ الاستعداد الذهني لاستيعاب الأحداث والتفاعل معها بشكل صحيح.
    وهذا الوعي بالواقع من أهم المعالم المعاصرة للتمكين، ذلك لأنه يستدعي أمورا مهمة وخطيرة؛ أبرزها:
    البحث في العوامل المؤثرة في المجتمعات الإسلامية والقوى المهيمنة على الدول، والبحث في الأفكار والمكائد الموجهة ضد الأمة، والتنظيمات والتكتلات والهيئات التي تعمل ضد الأمة، واستبانة سبيل المجرمين.
    الوعي بالواقع يحقق البصيرة بالمسيرة، ويؤدي لامتلاك رؤية صحيحة وواضحة عن المجتمعات الإسلامية ومشكلاتها ورغباتها وتطلعاتها وكيفية التعامل معها، ومن ثم اتخاذ القرارات الصحيحة، وتسديد الفتاوى في النوازل وما أكثرها في واقعنا المعاصر.
    الوعي بالواقع يحفظ الأمة من الافتتان بالبهرج والزيف، سواء من شخصيات مشبوهة أو كافرة، أو أفكار منحرفة، أو طوائف ضالة، أو أساليب وطرق غير شرعية، كما يحفظ من الواقع في أسر نظرية المؤامرة الشهيرة التي تسوغ الهزائم وتبرر الأخطاء والإخفاقات بلوم الأعداء في كل نازلة تصيب الأمة، ما تستتبعه من تهويل لقوة الأعداء وتهوين لإمكانات الأمة وقدراتها.
    وممن الخطأ البيّن الاستعاضة عن الوعي بالواقع والعلم بأمر آخر مهما كان، ولو كان بذل النفس والنفيس؛ لأن البذل وقتها سيكون بلا ثمرة، والتضحية بلا نتيجة، فمن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الحق، لم يعرف أحكام الله في عباده، أي كان عمله وقوله بجهل، والجهل أكبر معوق للتمكين، يفقد المرء بفقد الوعي بالواقع قدرته على النظر في المآلات، كما يقدم الداعية في صورة نظرية بحتة، في صورة المرء الذي يعيش في برج عاجي لا يدري عن أحوال الناس ومعايشهم وأحوالهم شيئًا، والناظر لأحوال الأنبياء مع أقوامهم خلال دعوتهم إلى الإيمان بالله ونبذ الشركيات والضلالات، كان الأنبياء في نفس الوقت يدعونهم إلى نبذ عاداتهم الاجتماعية والمعيشية السيئة والفاسدة مثل التطفيف في الميزان والانحراف الأخلاقي والاستبداد السياسي.
    ولكن الذي يجب أن نعرفه أن ثمة أمورًا مخالفة يقع فيها كثير من الدعاة بدعوى فقه الواقع والوعي به، وهي ليست من الواقعية في شيء؛ منها: الانحراف عن منهج النبوة تحت ضغط ووطأة الواقع، ومنها التنازل عن الأهداف الشرعية أو اليأس من تحقيقها تحت مطارق الواقع، ومنها التراجع عن الاستقامة والربانية استجابة لمؤثرات الواقع، ومنها دنو الهمة والرضا بالواقع المزري وتبرير القعود بدعوى فقه الواقع.

    وللحديث بقية...




  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: معالم على طريق التمكين

    معالم على طريق التمكين (2/2)



    شريف عبدالعزيز

    تكلمنا في الجزء الأول عن أهم المعالم على طريق التمكين لدين الله، وإقامة شريعته في الأرض، وقد تحدثنا عن معالم العقيدة الصحيحة والإخلاص والعلم والواقعية، ونواصل حديثنا عن باقي هذه المعالم.

    المعلم الخامس: التربية:
    التربية أحد من أهم معالم التمكين لدين الله -عز وجل- في الأرض، ونعني بها الرعاية الشاملة والكاملة للوصول لأرقى مستوى من الكمال البشري، وذلك بكل وسيلة مشروعة، فالتربية هي البناء والتكوين، وهي مهمة الأنبياء والمصلحين والدعاة المخلصين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]، فالتربية هي العصمة من الفتن وما أكثرها وتنوعها في هذه الأيام!! تارة بالسراء وتارة بالضراء، تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، وهي الواقية والحافظة من مفاسد الزمان وما يستجد فيه من تقنيات اللهو وفنون اللذة والعبث والمجون، والتي لم تدع بيتًا حتى دخلته، ولا بابًا إلا كسرته، فالتربية هي السبيل نحو التمكين، وكثير من فشل الدعوات في تحقيق أهدافها وحيازة التمكين يرجع في الأساس للخلل في التربية؛ إما ضعفًا أو استعجالاً أو ارتجالاً أو نقصانًا، فالتربية الجادة المتكاملة المنضبطة هي دعامة تحقيق الأهداف كلها.
    والتربية التي نريدها هي التربية التي تقوم بعدة مهام أساسية كالآتي:
    1ـ التربية التي تستوعب اتساع نطاق العمل الدعوي، فقوافل العائدين إلى ربهم -جل وعلا- كثيرة ومتتابعة، والجماهير العريضة متلهفة ومتعطشة للمنهج الإسلامي، وهي خليط متنافر من سلوكيات وأخلاقيات لا يجمع بينهما إلا البعد عن الإسلام، وهذا الخليط إذا انتقل بكل ما يحمله من رواسب الماضي وآفات ما قبل التوبة، إلى كيان الدعوة وقوافل السائرين على درب التمكين، ولم يجد من المنظومة التربوية ما يحتويه ويصحح أخطاءه ويعالج آفاته، كان دخولهم وبالاً على العمل الإسلامي، وعبئًا ثقيلاً على السائرين على درب التمكين.
    2ـ التربية التي تنشئ الكوادر، وتنتج الصفوف الثانية والكفاءات البديلة، والتي تضمن عملية بناء الأجيال وتعاقبها، فلا يصح ولا يصلح في الأمم الكبيرة، وفي الطريق المتسع، الاعتماد على القيادات الكبرى والرموز التاريخية فحسب؛ لأن وقتها تموت الدعوات والأمم بموتهم أو اختفائهم من الساحة لأي سبب آخر، والتربية تضمن تواصل الأجيال واستمرار المسيرة.
    3 ـ التربية التي تعلّم الربانية وتحقق الصلة الوثيقة والدائمة بالله -جل جلاله-، وتقيم في القلب حاجزًا وفرقانًا بين الحق والباطل، يصمد به صاحبه من الوقوع في مضلات الفتن وأتون الشهوات.
    4 ـ التربية المستقاة من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من خير القرون والذين يلونهم بإحسان إلى يوم الدين، من الذين حققوا المعاني وتمسكوا بالمباني، علمًا وحالاً، عملاً ومقالاً.
    5 ـ التربية الشاملة بكل ما تحويه وتعنيه من مجالات وأنواع، فتربية علمية تؤهل القادرين وذوي الملكات والكفاءات وتضبط قواعد العلم، وأخرى وجدانية تهتم بالمشاعر وترعى الخواطر وتوقظ الضمائر، وثالثة جهادية تشعل حماس الصادقين وتهيئ السعي نحو التمكين، وتذب عن ديار المسلمين، ورابعة إيمانية تتعاهد الإيمان الصادق وتصونه من حملات الإفساد والتحطيم، وتقوي وتقيم منار الدين.
    بالجملة فإن التربية أصل عظيم وضخم وأساس متين، لا يتم بدونه تمكين ولا تغيير، وليس له غاية ينتهي عندها، فهو المطلب الذي لا ينتهي أمره، ولا يستغني عنه كبير ولا صغير.
    المعلم السادس: الجهاد:
    الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وقدحه المعلى، وبيعته الماضية في أعناق المؤمنين إلى يوم الدين، وأربح صفقات الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]، وفي الحديث: "تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
    الجهاد أعظم وسائل التمكين، وأهم أدوات إزالة معوقات التمكين، فأعداء الإسلام لن يتنازلوا في الغالب عما احتلوه من أوطان وحقوق إلا إذا جبروا عليه جبرًا، ومهما قيل في تحقيق العمل السياسي لبعض المصالح أو تقليله لبعض المفاسد، فإن تحرير المقدسات وإقامة سلطان الشريعة لابد من أن يبذل في سبيله المهج والنفس والنفيس، فالجهاد ليس له غاية سوى النصر أو الشهادة.
    وهدف الجهاد الأعظم هداية الناس للإيمان، وتعبيدهم لرب العالمين، وإخلاء الأرض من الفساد والشرك، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال: 39]، كما يهدف أيضًا لرد عدوان المعتدين وإزالة الفتنة التي تحول بين سماع المدعوين لدعوة الحق، وإرهاب أعداء الدين، وتقوية دولة المسلمين، وفضح المنافقين وتمحيص المؤمنين، ولم يترك الجهادَ جيلٌ إلا ذل وخاب وخسر ووطأه الأعداء من كل جانب.
    ولما كان الجهاد في سبيل الله بهذه المنزلة فإن ترشيده وضبط أحكامه وتقدير مصالحه والفصل بين ثوابته التي لا يجوز التنازل عنها وموارد الاجتهاد التي لا مشاحة فيها، لهو من الأمور المفترضة التي لا تقل أهميتها وخطورتها عن قضية التمكين نفسها، فإن استيفاء شرعية هذه الشعيرة الكبيرة والعمل الجماعي الضخم هو أول ضابط ينضبط به، فلابد من استيفاء حكم الجواز من الشرع، وعدم الإضرار بالأمة، وحصر الجهاد ضد أعدائها الأصليين مع حسن ترتيب للأولويات في ذلك كله، مع وضوح الراية وسلامتها من الولاءات الأرضية، مع استصحاب الأهداف الأصلية للجهاد وعلى رأسها التمكين لهذا الدين وإعزازه وإعزاز أهله وإذلال أعدائه.
    وإذا أصبح الجهاد في سبيل الله بصورته الشرعية المطلوبة ليس في مقدور الأمة في وقت من الأوقات لضعف أو لعدم استيفاء شروطه، فإن الموقف الصحيح هو المضي قدمًا في السعي نحو الوصول إليه وتحقيقه وتربية الأمة والناشئة عليه، لا إلغاؤه وتعطيله بالكلية من مفردات العمل الإسلامي، وتنحيته من طريق التمكين تمامًا، وفي الحديث: "من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق".
    ويبقى التأكيد على الحذر من استعجال المواجهة قبل أخذ العدة، والاستجابة للاستفزازات المخططة، أو الانطلاق من ردود أفعال قبل تهيئة مختلف الأسباب والقوى، وعلى رأسها الإيمان والتقوى، فإن مَنْ فرّط في "حيَّ على الصلاة" أولى أن يفرّط في "حيَّ على الجهاد"، ومن سقط أمام المعاصي والموبقات جدير أن يسقط أمام الأعداء في المواجهات.
    المعلم السابع: الاتحاد والائتلاف:
    الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنى الأمة الإسلامية بناءً محكمًا، صاغه بأساسات متينة ومواثيق أكيدة، وإن أول أصل في ميثاق بناء الأمة الإسلامية أن هذه الأمة أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، كما يسعى بذمتهم أدناهم، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، والإسلام هو أساس وحدة الأمة، والشريعة هي سياج هذه الوحدة والائتلاف، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، فتحقيق الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف بين المسلمين عامة وطوائف الدعاة والعاملين خاصة من أهم مقاصد الدين وقواعده الكلية.
    وكما أن البدعة مقرونة بالفرقة، فإن السنة مقرونة بالجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة". والاتحاد والائتلاف الذي نعنيه له سمات معينة منها:
    1 ـ اتحاد وائتلاف الأصول:
    فليس المقصود بالوحدة والائتلاف ذوبان جميع الحركات الإسلامية في حركة أو جماعة واحدة مخصوصة من الدعاة، إنما يقصد به الاجتماع والاعتصام بأصول أهل السنة والجماعة عامة، والاجتماع على صحة المعتقد خاصة، وأيضًا الاجتماع على ما سبق ذكره من المعالم. والاتحاد بهذا الانتماء المبارك أنجح من الاجتماع على راية حزبية أو دعوة إقليمية؛ لأن الاتحاد بهذه الطريقة يؤدي حتمًا لتأليف القلوب وتوجيه الجهود، وتجميع كلمة أهل الحل والعقد في الأمة، وتزول معه الحواجز الوهمية بين الحركات الدعوية، وترشد معه النظرة تجاه تعددية العمل الإسلامي.
    2 ـ اتحاد التخصص:
    فالاتحاد الذي نعنيه هو الذي يضمن بقاء التنوع والتخصص الذي تنتفع به الأمة، وتحيا به معالم الدين وفرائضه كلها، وليس تعدد التعارض والتنازع الذي تشقى به الأمة وتتشرذم به صفوفها وتنقطع به العلائق، فإن لهذا الائتلاف العديد من القوادح والنواقض التي تؤثر فيه منها: العصبية لشيخ أو إمام أو حزب أو رأي اجتهادي أو مذهب فقهي، ومنها تقديم مصلحة الجماعة الحزبية على مصلحة الأمة المحمدية، وتقديم الانتماء للجماعة بمفهومها الضيق المحدود على جانب الانتماء للجماعة الأم أي أمة الإسلام، ومنها تقديم مصلحة شخص أو داعية بعينه على مصلحة الطائفة والأمة معًا، ومنها نصب رابطة الولاء والبراء للجماعة الضيقة وتقديمها على الولاء والبراء لجماعة المسلمين.
    وقيادات العمل الدعوي معنية بالحفاظ على هذا المعلم تحديدًا لنزوغ الشيطان عادة بينهم بسبب مداخله في تزيين الرئاسة والمنافسة بين الأقران، وللمسؤولية الواقعة على كاهلهم تجاه شيوع حالة الاختلاف والتناحر بين التيارات الإسلامية والصف الدعوي، فكم من قائد وشيخ وزعيم ومسؤول حشد الأتباع وأجج الخلافات وأزكى الصراعات لا لشيء إلا للحفاظ على مكاسب وهمية وزعامات فارغة، والخاسر في النهاية هي الأمة والدعوة.
    هذه كانت مجموعة من المعالم على طريق التمكين، من استمسك بها قولاً وعملاً، دعوة وهديًا، علمًا وحالاً، وصل إلى مبتغاه، ونال ما يرضاه، وسعد في الدارين، وقد يكون هناك غير ما ذكرنا من المعالم والآيات التي يجب أن يسلكها الدعاة، ولكننا اقتصرنا على أهمها التي لا يمكن أن يتحقق تمكين أو استخلاف بدونها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.




الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •