حديث الإصلاح (1)
حسن عبدالحي
في الوقت الذي تَخْتلف فيه قلوب أهل الإيمان، وتنقلب أُخُوَّته إلى عداوة، ويتنكَّر رفيقُ العمل والنُّصرة والبَذْل والتضحية لرفيقه، ويجتهد فيه الأَخُ لِيُسقِط أخاه بالزلَّة يبحث عنها أو يَفْتريها، في الوقت الذي نفتقر فيه إلى صوت الإيمان، وصوت العقل الراجح، وصوت القلب النابض، في هذا الوقت نتَلمَّس مواقع الحكمة من مظانِّها؛ لعلَّنا نرشد بسماعها، أو نوفَّق بِهُدى أهلها.
ولقد تعرَّضَتْ دعوةُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كثيرٍ من الأحيان لِضُغوط تشبه بعض ما نتعرَّض له اليوم، لكنَّه - صلَّى الله عليه وسلم - كان خيْرَ مصلح يقود دعوته لغاياتها بحكمة ورشد، فلقد واجه أعداء له يُظْهِرون عداوتهم، ويعلنون حَرْبه، وآخَرين يبطنونها، ويُعمِلون دسائسهم ومَكْرهم في ضرب الصفِّ المؤمن، كما كان يُعالج مِن نفوس أصحابه ما قد يُعالجه اليوم الدُّعاةُ والمُصْلحون من نفوس أتباعهم وإخوانِهم الدُّعاة.
فكيف نجح - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخفق غيره؟
لقد وُفِّق - صلَّى الله عليه وسلَّم - بفضل صفاته وأخلاقه، التي أيَّده الله بهما لتقوم دعوته أوَّلاً، ثم لِتُمكَّن في الأرض بعد ذلك، ويتوالى من بعده أصحابُه على منهاجه، ثم أخفَقْنا؛ لأنَّنا لم نُحْسِن الاقتداء به، وإن خُيِّل لنا أنَّنا على سيرته وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم!
إنَّ أعظم ما يهدِّد الدَّعوة الإسلامية اليومَ حالةُ الارتباك التي خلَّفَتْها الخلافاتُ والاختلافات بين أبناء الدَّعوة الإسلامية، ولو لم يَهْتد القائمون على الدَّعوة إلى حلولٍ واقتراحات تُقوِّي رابطة الإيمان بين العلماء والدُّعاة والمصلحين، لذهبَتْ جهود السِّنين هدرًا، ولتَجرَّأ العدوُّ في الداخل والخارج على الدعوة وأصحابها.
ونحن في هذا التِّيه من الاختلاف والشِّقاق يتوجَّب علينا مزيدٌ من تلَمُّس مَواقع حِكْمة النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مُعالجة نُفُوس أصحابه في أحْلَك المواقف والظروف، نتلمَّس حكمته وحُكمه لنعمل على وفقهما، فنَنْجو جَميعًا من مهالك النفس والشيطان والعدوِّ.
من هذا ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "لَمَّا أعطى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما أعطى من تلك العطايا في قُرَيش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيءٌ، وجَد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم، حتَّى كثرت فيهم القالة، حتَّى قال قائلهم: لَقِي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قومَه! فدخل عليه سعدُ بن عُبَادة فقال: يا رسول الله، إنَّ هذا الحيَّ قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفَيْء الذي أصبْتَ، قسمت في قومك وأعطيتَ عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولَم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء! قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلاَّ امْرُؤٌ من قومي، وما أنا؟ قال: ((فاجْمَع لي قومك في هذه الحظيرة))، فخرج سعْدٌ فجمَع النَّاسَ في تلك الحظيرة، فجاء رجالٌ من المهاجرين، فتركهم فدخَلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتاه سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فحَمِد الله وأثْنَى عليه بالَّذي هو له أهلٌ، ثُم قال: ((يا معشر الأنصار، ما قالَةٌ بلغَتْني عنكم؟ وجِدَة وجدْتُموها في أنفسكم؟ ألَم آتِكُم ضُلاَّلاً فهداكم الله؟ وعالةً فأغناكم الله؟ وأعداء فألفَ الله بين قلوبكم؟)) قالوا: بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل، قال: ((ألا تُجيبونني يا معشر الأنصار؟)) قالوا: وبماذا نُجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: ((أمَا والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتُم، وصُدِّقْتم: أتيتَنا مُكَذَّبًا فصدَّقناك، ومَخْذولاً فنصَرْناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، أوجدْتُم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعَاعة من الدُّنيا تألَّفْتُ بها قومًا لِيُسلموا، ووكلْتُكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضَوْن يا معشر الأنصار أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير، وترجعون برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رِحالكم؟ فوالَّذي نفْسُ محمَّد بيده، لولا الهجرةُ لكنتُ امرَأً من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعْبًا وسلكَت الأنصار شعبًا لسلَكْت شعب الأنصار، اللَّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار))، فبكى القوم حتَّى أخضلوا لِحَاهم، وقالوا: رَضِينا برسول الله قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرَّقْنا"؛ أخرجه أحمد بسياقه من حديث أبي سعيد، ورواه الشيخان مُخْتصرًا من حديث عبدالله بن زيد.
واقعة فريدة تَجلَّتْ فيها رِفْعة أخلاق هذا النبِيِّ الأُمِّي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعظَمَة حكمتِه، يترفَّق بالقوم ويطيِّب خاطِرَهم، ويصرفهم بعد أن أتْحَفَهم بنفسه الكريمة مَسْرورين فَرِحين، فهل كانوا يَبْكون فرحًا به؟ أم تأثُّرًا بحديثه؟ أم وَحْشة من أنفسهم بعد أن راجعوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -؟ حتَّى لكأنَّ القارئ والمستمع يبكي ولا يدري ما يُبْكِيه أو ما أبكاهم!
صلى الله وسلَّم على المربِّي العظيم، والمعلِّم الجليل، صاحبِ الخلُق الرَّفيع، والعقل الرَّشيد، والقلب الرَّحيم، قد كان له وهو الرسول، وهو القائد، وهو المنتَصِر الْمُمَكَّن، وهُو، وهو، وهو.. أن يتجشَّم لِمَقولتهم، أو يَغْضب لمقامه، أو يتجاهل حديثَهم، كلاَّ، لَم يفعل أيَّ شيء من هذا، بل خاطَبَ عقولَهم، ثُمَّ قلوبَهم، ثم أَتْحَفهم بأعظمَ مِن كلِّ ما ينتظرون، أتْحفهم بنفسه، بأبي هو وأُمِّي - صلى الله عليه وسلم.
تصوَّر وجود الفهم الخاطئ عند ذوي الْهَيئات من الدُّعاة والعاملين لدين الله: فأنت ترى الأنصار أخطَؤوا في تصوُّرِهم لتقسيم النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الغنائم، حتى ظنَّ بعضُهم أنَّه أعطى لقرابة أو عصبيَّة! وإنَّما كان تقسيمُه مَبْناه على تأليف القلوب، ووكلَ أصحاب الإيمان والْمَقامات العالية لِمَا حباهُم الله تعالى به من العلم والتقوى.
والأنصار هم الأنصار، الذين بايَعوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على حِمايته ونُصْرته، فأوفوا وصدَّقوا، ومع ذلك وقع منهم ما وقع.
ونَحْن كثيرًا ما نتجاهل غفلات الأفاضل من الدُّعاة والمُصْلِحين وطُلاَّب العلم، فنعاملهم بِمَبدأ العصمة في الفَهْم أو التصوُّر، فيصعب علَيْنا تصوُّر خطَئِهم، كبشَرٍ يَرِد عليهم سوءُ الفهم، أو سوء المقصد.
وإنَّما نَحْتاج إلى نَشْر هذا التصوُّر، تصوُّر إمكانية وقوع الخطأ من الأفاضل، حتَّى تَعُمَّ بين الدُّعاة بعضهم مع بعض روحُ المسامَحة، وحتَّى لا نَغْلوا في تعظيم الخطأ إذا ما وقع، وإنَّما نَلْتمس لأنفسنا عُذْر القصور البشَريِّ في العلم والعمل.
المصارَحة والمناقَشة مطلب الاتِّفاق والوِفَاق:
لَم يُخْفِ سعد بن عبادة - رضي الله عنه - ما وجدَه قومُه على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - بل ذهب إليه وأخبره، ولو كتَم الأنصارُ شَكْواهم لَرُبَّما تسلَّل إليهم من المنافقين أو اليهود مَن يُؤَلِّبهم على المسلمين، وتكون فتنة تَعْصِف بالإيمان والإسلام، كما هو دأب اليهود والمنافقين.
ونلحظ أنَّ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَسْتنكِف عن مُناقشة الأنصار، بل وتَطْييب خاطرِهم، مع أنَّهم - في الجملة - أتَوْا بما يَكْرهه - صلى الله عليه وسلم - لكنَّ مصلحة توحيد الصفِّ، وإزالة كلِّ غبرة تعكِّر من صفائه - أعظمُ من كلِّ شيءٍ آخر.
ولَم يُظْهِر لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - غضبًا، أو مُجَرَّد تغيُّر، ولم يَقُل: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ بل هو مَن دعاهم إلى النِّقاش وتَبيُّن الأمور، وكلُّ قائد هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائدُه، فعَلام يغضب بعض الرُّؤوس من العلماء أو الدُّعاة إذا روجع، أو إذا خولف؟
إن مجرَّد استعدادنا لِفَتْح أبواب الحوار بيننا وبين إخواننا يسدُّ على الشَّيطان والنُّفوس الضعيفة أبوابًا أُخَر من الاختلاف والشِّقاق، فإنَّنا بِحَاجة لكي نتكلَّف رضا إخواننا، ونتكلَّف إزالة كلِّ ما من شأنه التأثيرُ على الجسد المؤمن الواحد.
رسل خير:
كان سَعْد بن عُبادة - رضي الله عنه - في تلك الواقعة رسولَ خَيْر، أزاح الله بِها غُمَّة الاختلاف بين الأنصار - رضي الله عنهم - وبين رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - عندما أتى النبِيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - وأخبره بِشَكْوى الأنصار، ولولاه لاتَّسَع الخرق، ولتفاقَم ما وجده الأنصارُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم.
وكثيرًا ما يكون لِتَوسُّط أهل الإصلاح بين الْمُتشاحنَيْنِ أو المختلفَيْن فضٌّ لنِزَاعات لو طالَتْ لنخرَتْ في الكيان الدَّعَوي الواحد، يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
وللحديث تتمَّة أخرى إن شاء الله، والحمد لله ربِّ العالَمين