تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الذوق حياة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي الذوق حياة

    الذوق حياة ـ 1 ـ

    رشيد ناجي الحسن
    الحمد لله الَّذي خلق الإنسان وعلَّمه البيان، وفضَّله على جَميع مَن خلق بنطقِ اللسان، وجعله سميعًا بصيرًا، ثمَّ هداه السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا، وخلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، كوَّر الليل على النَّهار، وكوَّر النَّهار على اللَّيل، وخلق الخلْق أطْوارًا، وجعل الثَّقليْن فريقَين، فله الحكم والتدبير، فريقٌ في الجنَّة وفريق في السَّعير.

    أحمده حمدًا يُوافي نِعَمه، وأسأله المزيد من رفده؛ {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ثمَّ الصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم:



    مَا قَالَ لا قَطُّ إِلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ لَوْلا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاؤُهُ نَعَمُ

    وبعد:
    أيُّها الإخوة الأعزاء:
    المرء بفضيلتِه لا بفصيلته، وبكماله لا بماله، و بآدابه لا بثيابه، وبأخلاقه لا بِجماله، المرء من حيث يُثبِت لا من حيث يَثبُت؛ ومن حيث يوجد لا من حيث يولد.
    حَسَنُ الأدب ذو قرابة ولو عند الأجانب، وسيئ الأدَب أجنبي ولو عند الأقارب.
    قد يعجب الكثيرون من اختياري الحديثَ عن هذا الموضوع بالذَّات - أي: (الذَّوقُ) - في ظل ما تُعانيه الأمَّة من نكبات، بل قد يعتبِره الكثيرون أمرًا ثانويًّا.
    وليس الأمر بِهذه البساطة التي تجعلنا نسْتَتْفهُ الحديث عنْه؛ لأنَّ الذَّوق عنصر هامٌّ من عناصر السُّلوك الحياتيِ، سواءٌ ما كان بين الإنسان وربِّه، أم بين الإنسان وأخيه الإنسانِ من علاقات وصلات شتَّى.
    الذَّوق العامُّ، أو ما يسمَّى مجازًا "الإتكيت" اللَّفظي والفعلي ليس ترفًا؛ بل إنَّه ضرورة ملحَّة، وحاجةٌ في غاية الأهميَّة.
    والآن وبعد هذه المقدِّمة، ما رأيُكم أيُّها الإخْوة والأخوات أن نتعرَّف على معنى الذَّوق وبعض تعريفاته؟
    حقيقةً؛ لو أردت أن أعرِّفَ الذوق لقلت: إنَّ من الصعب وضعَ تعريفٍ شامل وافٍ له؛ ذلك لأنَّه أوسعُ وأشملُ من أن يُحْصَر في مجموعةٍ من الكلِمات.
    هناك ألفاظٌ لا تجِد لها في اللغة معنًى حقيقيًّا وافيًا، كالحبِّ مثلا: ما هو الحب؟ ما هي الرحمة؟ ما هي المُرُوءة؟
    واللُّغة العربيَّة لَم تشهد لفظة أوسعَ ولا أشملَ من لفظة الذَّوق، ولا أكون مبالغًا إذا قلت: إنَّ الذَّوق هو أسمى معنىً عرفتْه البشريَّة؛ لأنَّه يعني تَحقيق معاني الحقِّ والخير والجمال.
    الذَّوق: هو النفس المرهفة، هو الرُّوح الجميلة، هو الشعور بالجمال، هو النظافة، هو النظام، هو الحس المرهف، هو سلوك الروح، هو النَّفس الشفَّافة التي تدرك الخطأ بِسُرعة، هو الرِّفْق بالحيوان، هو فنُّ التَّعامُلِ مع الآخرين، وإدراكِ غضبهم أو سعادتهم بسرعةٍ من نظرة العين وتفاصيل الوجْه.
    الذَّوق: هو فن الاتِّصال بكل المحيطات الخارجيَّة للإنسان، سواءٌ أكان إنسانًا أم حيوانًا، أم نباتًا أم جمادًا.
    وأمَّا في اللُّغة فيقال:
    ذاق الشيء؛ أي: جرَّبه واختبره، وذاق الطعام: اختبر طعمه.
    وتذوَّق العمل الفنِّي: استمْتَع بما فيه من جمال.
    وفي "لسان العرب": أَمر مُستَذاقٌ؛ أَي: مُجَرَّبٌ معلوم.
    ويقال: ذُقْ هذه القوس؛ أَي: انْزَعْ فيها لتَخْبُر لِينها من شدَّتها.
    قال الشَّمّاخُ:


    فَذَاقَ فَأَعْطَتْهُ مِنَ اللِّينِ جَانِبًا كَفَى وَلَهَا أَنْ يُغْرِقَ النَّبْلَ حَاجِزُ



    أَي: لها حاجز يَمنع من إِغراقٍ؛ أي: فيها لين وشدَّة.
    وقوله - تعالى -: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9]؛ أَي: خبَرت.
    وفي "تاج العروس": "وقوله - تَعالَى -: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]، استعْمل الذَّوق مع اللباسِ من أجل أنَّهُ أُرِيدَ بهِ التَّجْرِبَةُ والاخْتِبارُ؛ أَي: جَعَلَها بحيث تمارِسُ الجُوعَ، وقِيلَ: إنَّ ذلكَ على تَقدِير كَلامَينِ، كأَنَّه قِيلَ: أذاقَها الجُوعَ والخوْفَ وألْبَسَها لِباسَهما.

    وفي القُرآن الكريم، وردت هذه اللفظة ثلاثًا وستِّين مرَّةً على اختِلاف مشتقَّاتِها، منها قولُه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} [الروم: 46].

    وأمَّا في السنَّة المطهَّرة:
    ففي الحَديثِ: ((ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد رَسُولاً))؛ رواه مسلم، فأخْبَر أَنَّ للإيمانِ طَعْمًا، وأنَّ القَلْبَ يَذُوقُه كما يَذُوقُ الفَمُ طَعْمَ الطَّعامِ والشَّراب، وقد عَبَّرَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن إدْراكِ حَقِيقَةِ الإيمان والإحْسانِ، وحصولهِ للقلبِ ومُباشرَتِه له، بالذَّوْقِ تارَةً، وبالطَّعام والشَّرابِ تارةً، وبوجْدان الحَلاوَةِ تارةً أُخرى.

    وفي الحَدِيثِ في صفَةِ الصَّحابَةِ - رضْوان الله عنْهم أجْمعين -: ((يَدْخلُونَ رُوَّادًا ولا يتَفَرَّقونَ إلاَّ عَنْ ذَواق))، قال القُتَيبيُّ: الذَّواقُ: أصْلُه الطَّعْمُ، ولم يُرِدِ الطَّعمَ ههُنا ولكنَّهُ ضَربَهُ مثلاً لما يَنالُونَ عِنْدَه من الخَيْرِ، وقالَ ابنُ الأنْبارِيِّ: أراد لا يَتَفَرَّقونَ إلاَّ عَن عِلْمٍ يتَعَلَّمُونَه يقومُ لهم مَقامَ الطَّعامِ والشَّرابِ؛ لأنَّه كانَ يَحْفَظُ أرْواحهُم كما كانَ يَحْفَظُ الطَّعامُ أجْسامَهُم.

    والحديث مرْوي في الشَّمائل.

    وقد قيل: الذَّوقُ هو الأدب، وهو حسنُ الخُلق من دون إفْراط ولا تفريطٍ، ولا غلوٍّ ولا جفاء.
    وقيل: حقيقةُ الذَّوق اجتماعُ الخير.
    وقيل: الذَّوق هو الفطرة، فإذا انتكست الفِطْرة ذهب الذَّوق وهلك النَّاس.
    وقيل: الذَّوق هو طريق الإيمان.
    ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس مَعْمَرِ بنِ سليمانَ، فقال: الأدب أدب الدِّين، وهو داعيةٌ إلى التَّوفيق، وسببٌ إلى السَّعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائعَ الإسلام، وأداءَ الفرائِض، وأن تأخُذ لنفسك بحظِّها من النَّافلة، وتزيدَ ذلك بصحَّة النية، وإخلاصِ النَّفس، وحبِّ الخير، منافسًا فيه، مبغِضًا للشَّرِّ نازعًا عنه، ويكونَ طلبُك للخير رغبةً في ثوابه، ومجانبتُك للشَّرِّ رهبةً من عقابه، فتفوزَ بالثواب، وتسلمَ من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسناتِ المنجيات.
    وأقول: الذَّوق هو فوقَ الفوق، بل هو أساس الخيْر، وخيْر الأساس، هو صورة العقل فصوِّرْ عقلك كيف شئت.
    وقد عَرَّفه الشيخ ابْنُ القيِّم - رحِمَهُ اللهُ - بقَولِه: "الأدَبُ: استِعْمَالُ الخُلُقِ الجَمِيل".
    فكأنَّه جَعَلَ الخُلُقَ مَادَّةً تَحْتَاجُ مِن العَبْدِ إلَى استِعمَالٍ لِتَظْهَر ثِمارُها، وثِمَارُ الخُلُقِ: الأدَب.
    وأمَّا عند الأطبَّاء، فحاسَّة التذوُّق وكذلك حاسَّة الشَّمِّ يؤثِّران على بعضِهما، ويُساعدان على التَّمييز بين الأطعِمة المختلفة وكذلك الشَّراب.
    وتنتشِر على اللِّسان حليمات التذوُّق مختلفة الشَّكل والحجْم، تَحتوى على خلايا حسيَّة تميِّز بين الحلو والقابض والمالح والمر، والخلايا حسَّاسة لواحد أو اثنين منْها، وتنتقل النَّبضات العصبيَّة إلى القِشْرة المخِّية حيث يتم إدراك الطَّعم.
    ومن عجبٍ - سبحان اللهِ! - أنَّ الله - سبحانَه وتعالى - أعطانا إشاراتٍ ذوقيَّةً من خلال انتشارِ الحليماتِ الذَّوقيَّةِ على اللسان؛ وذلك أنَّ علماء الطب يقولون: إنَّ مناطقَ التذوُّق تنتشر على النحو التالي:
    • طرفُ اللسان يميِّز طعم السكر.
    • جانبا اللِّسان يميزان الطعم القابض مثلَ الخلّ.
    • نهايةُ اللِّسان يدرك الطعم المر.
    أرأيتم - أيُّها الإخوة - الإشارةَ الذَّوقيةَ في هذا "التوضُّع"، فكأنَّ جعلَ طرفِ اللسان وبدايتِه لمعرفة الحلو إشارةٌ إلى أن يكونَ أوَّلُ ما يصدرُ من كلامِنا دائمًا حلوًا، وأن جعلَ معرفة المر في آخر اللسان إشارةٌ إلى أن يكون آخرُ ما يصْدر م




  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الذوق حياة

    الذوق حياة ـ 2 ـ

    رشيد ناجي الحسن


    الحمد لله الذي لا مانع لما وهب، ولا واهب لما سلب، طاعتُه أفضلُ مكتسب، وتقواه للمتقي أعلى نسب، هيأ قلوبَ أحبائه للإيمان وكتب، فتقربوا إليه بالتقوى والورع والأدب.

    وبعد:
    أيها الإخوة المؤمنون الأكارم، أحييكم بتحية الإسلام؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلني وإياكم ممَّن يستمعون القول فيتبعون أحسَنه، وأن يجعلَ لهذه الكلمات مستقرًّا في قلوبِكم.

    عُنوان حلقةِ اليوم هو:
    مصدر الذوق والمؤثرات الحقيقية فيه

    أيها الإخوة الأعزاء، السؤال المطروح اليومَ: ما الذي يحكم الذائقة أو الذوق؟ هل هي النشأة؟ أم الثقافة، أم الحسُّ والإدراكُ ؟ أم هي أمور مكتسبة يأخذها الشخص من المجتمع بما يتلاءم مع شخصه؟

    رُوي أن رسَّامًا رسم لوحةً لبيت وبجواره نهر صغير، فكان - في تقديره - آيةً في الإبداع، قرَّر الرسامُ أن يختبئَ وراءَ ستار ليراقبَ ويستمعَ إلى ملاحظات المارَّة؛ توقف أحدُهم معجبًا، لكنه ما لبث أن امتعض من بنية البيت، خرج الرسام من مخبئه، واستجلى حقيقة رأيه، وسأله عن صنعته، فأجابه الرجل أنه مهندس معماري، فسرعان ما عمل الرسام بنصيحة الرجل، وأجرى على الصورة تغييرًا ما.

    وبعد هنيهة - والهنيهةُ: المدة القصيرة، بعكس البَرهة أو البُرهة فهي: الزمان الطويل - مرَّ المهندس نفسُه ثانيةً من نفس المكان، وعلَّق قائلًا: لو كان النهر كيْت وكيْت!

    خرج الرسام إليه ثانيةً، ولكنه قال له هذه المرة: ليس هذا اختصاصَك، فامض لسبيلك.

    الذوق إذًا يحتاج إلى معرفة، وإلى تدريب، وإلى ممارسة، وإذا كان هناك مَن قال: مَن ذاق عرف، فإنني أقول: مَن عرف ذاق، فأنت لا تستطيع أن تحكم على جودة نسيج ما، إلا بعد شرح جزئي لآلاف القطع، تَكتسب منها تجاربَ وخبرةً ودرايةً تؤهلك للحكم، وإذا كانت الصعوبة في تمييز النسيج، وهو شيء ملموس حسي، فأحرى أن تكون الصعوبةُ في الأدب، ذلك الذي يعبِّر عن عاطفة إنسانية متشابكةِ العلائق والأثر.

    المعرفة هي الأساسُ والنبراس، ولكن حتى المعرفةُ يجب أن تكون موجَّهــةً، يوجهها نقاد ومعلمون تحلَّـوْا بذائقة سليمة لا سقيمة، وغذَّوا أنفسهم - باستمرار - من منابع الفكر الإسلامي النيِّر، مما يخدم الإنسان - أيًّا كان - على الصعيدين المعيشي والجمالي.

    فلنكفَّ إذًا عن القول العابر: يعجبني، ولا يعجبني، ولنأخذِ المسألة الذوقيةَ جِدًّا أيَّ جدٍّ، نحتاج فيها إلى المعرفة، وحسنًا نفعل، أن نعرف مقدار أهليتنا للخوض في بحر أيِّ موضوع، ورحم الله امرءًا عرف حدَّه، فوقف عنده.

    وأما دور الأسرة في إكساب الطفل الذوقَ والأدبَ، فيعد الدور الأهمَّ في ذلك، ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه))؛ والحديث في "الصحيحين".

    وتأتي أهمية دور الأسرة في تنمية الحس الذوقي والجمالي عند الطفل من حيثُ إنه يعيش في مرحلة نموه الأولى القابلةِ للتشكُّل والتكيُّف في كنف الأسرة، فلا ينافسها في تأثيرها أيةُ مؤسسة اجتماعية أو تربوية أخرى، ثم إن الطفل يُمضي في مرحلة تشكيله أطولَ فترة ممكنة، وهي السنوات الستُّ الأولى من عمره، وهو ليلَ نهارَ مع أفراد أسرته، وكذا خلالَ فترة المراهقة حتى نهاية المرحلة الثانوية، مما يجعل - هذا الاحتكاكُ الطويلُ - دورَ الأسرة يتعاظم في التأثير عليه، خصوصًا وأن العلاقةَ التي تربطه بأفراد أسرته هي علاقة محملة بشحنات عاطفية قويةٍ، فيزيدُ من قوة تأثيرها عليه، والطفلُ يعتبر أباه القدوةَ الأولى في حياته، وكما قيل في المثل: كل فتاة بأبيها معجبة، وإن القيام بهذا الواجب العظيم في بذر بذور الذوق والأدب في نفس الطفل لا يكون إلا في ظلِّ استقامة الوالدين والمربِّي.

    أما المعلمُ فلا يُنكَر دورُه في الذوق والأدب والتربية الجمالية، خصوصًا وأن التلميذ يقضي سنواتٍ طويلةً في التعليم، قد تصل إلى ستَّ عشرةَ سنةً في حال أتم دراسة المرحلة الجامعيةِ، مما يجعل من المعلم مصدرًا مهمًّا في تعليم الذوق والآداب، فهو بالنسبة للطالب قدوةٌ أيُّ قدوةٍ، إذ المعلم مُرَاقبٌ من طلابه دائمًا، ودون أن يشعر.

    ولا ننسى أيضًا صحبةَ العلماء العاملين والفضلاءِ والصالحين، فإن لها أثرَها البارزَ في صقل الذائقة وتصفيتِها، وتحلي المرء بأعلى درجات الذوق وأكملها، ورحم اللهُ القائلَ:


    مَنْ عَاشَرَ الأَشْرَافَ
    عاش مُشرَّفًا

    وَمُعَاشر الأَرذال
    غَيْرُ مُشَرَّفِ

    أوما ترى الجِلْدَ
    الخسيسَ مُقَبَّلًا

    بالثَّغْر لَمَّا صَارَ
    جِلْدَ الْمُصْحَفِ




    ثم هناك جماعة الصَّحْب والأصدقاء، ولها دور هام في إكساب المرء كثيرًا من الأنماط السلوكيةِ؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))؛ رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وهو حديث حسن، خصوصًا في ظل الفجوة الكبيرة الحاصلةِ اليومَ بين الكبار والصغار، أو بين الآباء والأبناء، مما زاد كثيرًا من التأثير التربوي لجماعة الصحب والأصدقاء، فالشاب في الجماعة يتأثر كثيرًا برغباتها وميولها وقيَمها، فهو يحبُّ ما تحبُّ، ويلبس ما تلبس من أزياءٍ، ويتكلم بلغتها ويسلك سلوكَها ويتجاوبُ معها عاطفيًّا وعقليًّا، ويصعب جدًّا على من اندمج في جماعة الصَّحْب أن يتخلص من تأثيرها، إلا ما رحم ربي؛ ممن أحسنت أسرتُه تربيتَه وكونت شخصيتَه المستقلةَ والقوية.

    أما المؤسساتُ الثقافية والإعلامية، كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، فدورها التربويُّ خطير، ولا يحده حدود الزمان والمكان، فالصحيفة التي تصدر في لندن تستطيع قراءتها في أي بلد في العالم، كما أن الجالس بجانب الراديو يمكنه في نفس الوقت أن يسمع ما يسمعه الجالس بجوار الراديو في دولة أخرى بعيدة، وقل في التلفزيون مثل ذلك.

    المهم أن هذه الوسائلَ، وباعتمادها على آخر التطورات العلمية المكتشفةِ، والتقنيات الحديثةِ، واستخدامِها لآخر ما وصل إليه الفن والعلم، من أساليب التشويق والإغراء والإثارة ووجودِها في كلِّ مكان، حتى في سياراتنا وجيوبنا - جعلها على قدرٍ عظيمٍ من التأثير على عقول الناس وعواطفهم، بما يزيد في درجات الذوق أو ينقصُها، بحيث يقضي على الذائقة وينحرها تمامًا، والمعصوم من عصم اللهُ - تعالى - كما قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - والحديث في البخاري.

    وأهم منبع للأدب والذوق ِفي حياتنا هو الدين، بل نستطيع القولَ بأن الإسلام - بعباداتِه ومواقفه المتعددةِ - جاء ليسموَ بالذوق لدى البشرية جمعاء، وأن رسالة الإسلام - في مجملها - رسالةٌ داعية إلى السموِّ الذوقيِّ، يقول مولانا - عز وجل -: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].

    غيرَ أنّ المعضلة في الأمر أنّ الذوقَ ليس شيئًا يمكن تعلُّمُه وتعليمُه فقط، بل هو أمرٌ تجتمع فيه عناصرُ كثيرة، بعضُها يرجع إلى ما نتعلَّمُه، وأكثرُها يرجع إلى الحدْسِ والنباهة والفطنة، فالذوقُ لا يعيش منفردًا، بل له أعوانٌ يؤازرونه ويساندونه ويؤكدون موقفه، منها: المروءة، والقناعة، ورضا النفس، وحبُّ الخير للغير، واحتسابُ الأجر.

    قرأتُ قبلَ أيام مقالًا يحكي عن تربية الأبناء من الصغر على الأدب، وضرورة ِتعليمهم في المدارس، حقيقةً أتفقُ معه أنه يُفترض أن تكون التصرفات الذوقيةُ والتعاملُ الذوقيُّ مدرَّسًا، إلا أن الأدبَ العامَّ لا يدرس، بل يُتوارث من المجتمع، وصحيحٌ أن تعليمَ بعض أنماط السلوك قد يرقى بمستوى الذوق لدى المرء ولدى المجتمع، إلا أنّه لا يشمل جوانبَ خفيَّةً تنبع من داخل الإنسان، ولذلك فإنَّ الذوقَ لا يحتاج إلى تعليم، بل إلى تنبيهٍ لحقائقَ وأصول ٍكامنةٍ في الأعماق، وهذا ما تفعله بعضُ المعاهد والكليَّات في فرنسا وغيرِها، وهو تعليمُ الطلبة أصولَ "الإتيكيت".

    وعلى ذكر هذه الكلمة - "الإتيكيت" – سأقف أنا وإياكم مع هذه اللفظة، ومصدرها، ومعناها، والفرق بينها – أي: آداب الغرب - وبين آدابنا نحن المسلمين في حلقة خاصة إن شاء الله - تعالى.

    جعلني الله وإياكم من أهل الذوق والأدب، فإنه ميراث الأشراف ونعمَ الحسبُ، ولن يزكوَ طبعٌ بلا أدب، ولا يكونُ علمٌ بلا طلب، أودعكم على أمل اللقاء بكم في الحلقة القادمة إن شاء اللهُ - تعالى - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •