وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قدَّر الله -عز وجل- أن تكون الفتن يمتحن بها عباده (الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:1-3).
ومَن تأمل في الفتن التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تكون في آخر الزمان؛ وجد أن الفتنة تكون في غاية الشدة، وكذلك تكون الأمور في غاية الوضوح؛ فالدجال فتنته أعظم فتنة منذ خُلق آدم -عليه السلام- إلى أن تقوم الساعة، أقدره الله -عز وجل- على أن (يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ -سارحة من آمنوا به وقبلوا دعوته الباطلة- أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (رواه مسلم)(1).
وقدَّر الله أن يكون معه جنة ونار على عكس الحقيقة؛ فالتي يراها الناس جنة هي نار تحرق، والذي يراه الناس نارًا هي ماء عذب طيب، وكُلف المؤمنون أن يأتوا ما يرونه نارًا، وهذا -والله- من أعظم الفتنة وأشدها، وهو مع هذا كله وأمثاله مكتوب بين عينيه: "كافر"، "كاف - فاء - راء" يقرؤها كل مؤمن.
وهو أعور، و(إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) (متفق عليه)، فسبحان الله! على قَدْر عِظم الفتنة كان عظم البيان؛ حتى لا يختلط الحق بالباطل، وتظل سبيل المؤمنين مفترقة عن سبيل المجرمين بما يبينه الله ويفصله مِن الآيات الشرعية والآيات الكونية.
وكذلك الفتن التي تموج كموج البحر التي أخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) (رواه مسلم)(2).
وكما تتميز القلوب في آخر الزمان إلى قلبين فقط: أبيض وأسود؛ كذلك العسكر يتميزون إلى: معسكر إيمان لا نفاق فيه -وتأمل ذكر النفاق وليس الكفر-، ومعسكر نفاق لا إيمان فيه قبيل الدجال، كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاَسِ، فَقَالَ قَائِلٌ: "يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا فِتْنَةُ الأَحْلاَسِ؟"، قَالَ: (هِيَ هَرَبٌ وَحَرَبٌ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ، دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي، وَلَيْسَ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ، لاَ تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلاَّ لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ، تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لاَ نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لاَ إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ، مِنْ يَوْمِهِ، أَوْ مِنْ غَدِهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)(3).
فهذه الفتن العظيمة في آخر الزمان يكون النفاق وجنوده فسطاطًا واحدًا بلا إيمان، مع أنهم ينسبون إلى الدين ويدعون الإسلام، وهذا التميز الواضح إنما يقع من خلال المواقف التي يتخذها الناس في مواطن الفتن، ويتجدد ولاؤهم وانتماؤهم بناءً على أعمالهم، وكل هذا بما يفصله الله من الآيات، فالآيات الشرعية بيَّن فيها -سبحانه- صفات المنافقين وأحوالهم وأعمالهم، ومعرفتها من أعظم الأمور أهمية لكل مؤمن؛ حتى لا يغره نفاق المنافقين بانتسابهم إلى الدين، فيستجيب لهم، ويطيعهم ويدعو غيره لذلك، وهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، فهذا هو الخطر العظيم.
وتأمل جملة من هذه الآيات الشرعية، وتأمل ترتيب صفات المنافقين فيها؛ لتعرف قدر عظم القضية، قال الله -تعالى-: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا . وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا . الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً . إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً . مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (النساء:138-143).
فأدل صفة يُعرف بها المنافقون: اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين -ابتغاء العزة عندهم-، والسكوت على كفرهم واستهزائهم، وطعنهم في آيات الله!
وكم تجد النفاق اليوم قد صار علانية بهذه الصفات، وقال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا . وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:60-65).
وأدل صفة يعرف بها المنافقون في هذه الآيات: إرادة التحاكم إلى الطاغوت، وهو: "كل من حكم بغير ما أنزل الله" التي تتنافى مع زعم الإيمان بالله، والقرآن، وما قبله من الكتب والشرائع، وتدل على عدم كفرهم وبراءتهم منه؛ فكيف بمن يفرض التحاكم إليه ويصد عن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- صدودًا، ويأبى ذلك تصريحًا لا تلميحًا، وفعلاً وقولاً لا مجرد إعراض أو انصراف، وقال الله -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:67)؟!
فأول ما يُعرف به المنافقون في هذه الآية: أمرهم بالمنكر، وهو: كل ما استنكره الشرع، وأعظمه نكارة: العقائد الفاسدة؛ فتجدهم يدعون إلى مساواة الملل ودعاء غير الله، وربما نهوا الناس عن الدخول في الإسلام، وأمروهم بالبقاء على الكفر!
وينهون عن بيان كفر الكافرين!
وينهون عن الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، والإنفاق في مرضاته!
وينهون عن العفة والطهارة والحجاب، ويحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمعات المسلمة!
وينهون عن اتباع السنة بزعم أنها تشدد وتطرف!
وقال الله -تعالى-: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب:60-61)، وقال الله -تعالى-: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب:32)، وقال الله -تعالى-: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة:10).
فهم مرضى القلوب: بالشهوات المغوية، والشبهات المضلة، وكل منهما يؤدي إلى الآخر ويقويه ويزيده، ولذا كان تروس أهل البدع من المنافقين؛ لمرض قلوبهم، ولا عجب أن تجدهم أعوان الكافرين إذا احتلوا بلاد المسلمين، وقبلها وبعدها يسومون المؤمنين سواء العذاب، ولا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، وأفعالهم بأهل السنة ليست بخافية على أحد، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه)، وقال: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).
وأنت تسمع مَن يَصف تمام الصدق والشفافية، وهو في حقيقته قاع الكذب والتزوير!
ومَن يصف الوفاء، وهو أخون الناس لأمته وشعبه!
ومن يدعي الأمانة، وهو يخون في أعظم الأمانات بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وخصوصًا ما استؤمن عليه من أمور المسلمين العامة والخاصة، وولاياتهم، ومصالحهم!
فصارت الولاية مغنمًا لنيل الكسب الحرام، وتجد من يستحل كل المحارم عند الخصومة لا يعرف حرمة لدم، ولا عرض، ولا مال، ولا حرمة لدار، ولا وقت، ولا أهل وأولاد، ولا أمان.. كل ذلك من الفجور في الخصومة.
ولو تقصينا ما ورد في الكتاب والسنة من تبيين سبيل المجرمين لطال بنا الكلام، وإنما أردنا أن الله يفصل الآيات الشرعية، والتي يفسرها رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى تتضح سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين بظهور قضايا الفرقان حتى لا يلتبس الحق على أحد، وإن كان الحق ضعيفًا في الناس، لكنه في غاية القوة في نفسه، وفي نفوس المؤمنين حجة ونورًا، وهداية ودعوة، وإن كان الباطل قويًا عند الناس ظاهرًا منتفشًا، لكنه في غاية العجز ضعفًا ومهانة، وبيانًا وذلاً.
وكذلك يفصل الله الآيات الكونية بما يقدره من وقائع تبرز قضايا الفرقان في الواقع العملي كما هي بارزة ظاهرة في آيات الكتاب؛ حتى يعرف كل إنسان إلى أي الفسطاطين ينتمي، وأي القرارات الحاسمة يتخذ، وأي المواقف الصعبة يقف حتى تستبين سبيل المجرمين؛ فمن سار فيها بعد البيان فهو الذي اختار لنفسه، وإن كان يعلم ذلك أول ما يتخذ قراره إلا أنه سرعان ما يقنع نفسه بأنه صاحب حق، وأنه على سبيل الهدى، فيضله الله على علم، ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوة، فيرى الحق باطلاً والباطل حقًا، والعدل ظلمًا والظلم عدلاً، والكذب صدقًا والصدق كذبًا، وهو الذي اختار لنفسه بعد البيان، ولا يظلم ربك أحدًا.
ووظيفة الدعاة إلى الله البيان الذي لا لبس فيه لقضايا الفرقان التي يضغط الأعداء لتذويبها وعدم الخوض فيها، ثم للكلام بما يناقضها حتى لا يعلم لناس مَن الولي ومَن العدو! وتضييع معالم الهوية، ويبيع أناس دينهم بعرض من الدنيا، فإذا جاء الأعداء إلى بلاد المسلمين وجدوا جيوشًا تحارب لهم معاركهم، وهم في قصورهم يلهون ويلعبون ويخططون ويمكرون، ويصدرون الأوامر لعبيد، ولو بالهلاك واقتحام البحار المنفلقة خلف الفراعين، والإقدام على تدمير أنفسهم، فهم عندهم بلا قيمة ولا معنى، ولا مانع من قتلهم للتسلية أحيانًا!
ووجدوا مَن ينفذ لهم مخططاتهم في الأمة بحذافيرها -وأحيانًا أكثر مما يريدون- فمَن ساهم ممن ينتسب إلى الدين والعلم والدعوة في تضييع قضايا الفرقان بين سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين غاش لأمته مضيع لأمانته، سواء كان ذلك بالتأصيل المخالف لهذه القضايا الفارقة فيقول الباطل، ويكذب بالحق، ويفتري على الله الكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه؛ إرضاءً لأصحاب السلطان أو كان ذلك بكتمان الحق أو السكوت عنه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ . إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ . وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:159-163).
وأدنى مَن ذلك درجة مَن يضع هذه القضايا التي تفرق بين سبيل المجرمين وسبيل المؤمنين في غير حجمها الحقيقي كما بينها الكتاب العزيز فيهمشها ويصغرها ويهونها، فربما تكلم عنها كلمة كل عشرين سنة فإذا نشأت أجيال لا تعرفها فعوتب في ذلك قال: "قد تكلمت وأوضحت وبينت"!
وربما سطر سطرًا واحدًا وسط مئات السطور وعشرات المؤلفات، مع أن هذه القضايا تتكرر على مسامع مَن يستمع القرآن، ولسان من يقرؤه، وعيني من ينظر فيه عشرات بل مئات المرات لتحدد الهوية وتبرز المرجعية لكلٍ من السبيلين، فهل من واعين لهذه الحقائق؟
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) (تَرُوح) أي: تَرْجِع آخرَ النهار، و(السَّارِحَة) هي: الماشِيَة التي تَسْرَحُ؛ أي: تَذهب أَوَّلَ النهار إلى المَرْعَى، و(الذُّرَى) جَمْعُ: ذُِرْوَة؛ وهي: الأَعَالِي والأَسْنِمَة، و(أَسْبَغَهُ) أي: أَطْوَلَه؛ لكثرة اللَّبَن، وكَذَا (أَمَدَّهُ خَوَاصِرَ)؛ لكثرة امتلائهَا مِن الشِّبَع. (انظر شرح النووي على صحيح مسلم).
(2) (نُكِتَ) أي: نُقِطَ، و(نُكْتَة) أي: نُقْطَة، و(الصَّفَا) هو: الحَجَر الأَمْلَس الذي لا يَعْلَقُ به شَيْءٌ، و(مُرْبَادًّا) مِنَ الرُّبْدَة؛ وهي لَوْنٌ بين السَّوَاد والغَبَرَة، و(مُجَخِّيًا) أي: مَائِلاً مَنْكُوسًا. (انظر شرح النووي على صحيح مسلم).
(3) (الأَحْلاس) جَمْعُ: حِلْس؛ وهو الكِسَاء الذي يَلِي ظَهْرَ البَعِير تَحْتَ القَتَب؛ وشَبَّهَ الفِتنةَ بها لِدَوَامِها وطُولِ لُبْثِها أو لِسَوَادِ لَوْنِها وظُلْمَتِها، و(هَرَبٌ) أي: يَفِرُّ بعضُهم من بعض؛ لِمَا بينهم من العَدَاوة والمُحَارَبة، و(حَرَبٌ) هو: نَهْبُ مال الإنسان وتَرْكُهُ لا شَيْءَ له، وقيل: ذَهابُ المال والأهل، و(فتنة السَّرَّاء) قيل: أُضِيفَتْ الفتنةُ إلى السَّرَّاء؛ لأنَّ السببَ في وُقوعها ارتكابُ المعاصي بسبب كثرة التَّنَعُّم، أو لأنها تَسُرُّ العَدُوَّ، و(دَخَنُها) أي: ظُهُورُها وإثارَتُها، و(كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَع) هو مَثَلٌ؛ ومعناه: الأَمْرُ الذي لا يَثْبُت ولا يَستقيم؛ وذلك أنَّ الضِّلَعَ لا يَقُومُ بِالوَرِكِ! و(فتنة الدُّهَيْمَاء) الدَّهْمَاءُ: السَّوْدَاء، والتَّصْغِيرُ للذمِّ؛ أي: الفتنةُ العَظْمَاءُ والطَّامَّةُ العَمْيَاءُ، و(لَطَمَتْهُ لَطْمَةً) أي: أصابتْه بمِحْنَةٍ ومَسَّتْهُ بِبَلِيَّةٍ، و(فُسْطَاطَيْنِ) أي: فِرْقَتَيْنِ. (انظر عَوْن المَعبود).