لماذا أنا دون غيري؟!

حين تلتفُّ حولك النائبات، ويداهمك الحزن والقلق، ويتغشَّاك الهمُّ في ليلك ونهارك، بسبب مرض أو فقر أو قهر أو دَيْنٍ أو فَقْدٍ؛ ربما راودك هاجس تساؤلي بينك وبين نفسك يقول لك: لماذا أنا دون غيري؟! لماذا ابتلاني الله دون سائر البشر؟! ولماذا أُعاني وأتألَّم وحدي وغيري مرتاح يهنأ بحياته وعيشه؟! لماذا أقاسي مرارة ما أنا فيه والجميع حولي يرفل في أثواب الهناء والمسرَّة والعافية؟! وبعد هذه الهواجس والتساؤلات يبدأ الشيطان عمله في قلبك، ويثير المزيد من المغالطات والأفكار السلبية؛ لتشعر بعدها بسيلٍ من مشاعر الكآبة والضيق والاكتئاب والحزن.

إن من فضل الله ورحمته على عباده أن بيَّن لهم في كتابه العظيم وعلى لسان نبيِّه الكريم صلوات الله وسلامه عليه طبيعة هذه الدنيا وما يصيب المؤمن فيها من بلاء ومحنة أو نعمة ومنحة، وأبان للخلق كيف يتعاملون مع كل هذه الأحوال، وهذا بحدِّ ذاته يجعل المبتلى المؤمن في أمان بإذن الله من الانهيار العصبي والصدمة القاتلة وحالات الاكتئاب الحادة ومحاولة الانتحار والخلاص من هذه الحياة؛ لأن المنهج الإسلامي قد أوضح أتمَّ إيضاحٍ حقيقة الدنيا وطبيعة هذه الحياة، وأن المؤمن لا ينفكُّ بحال من الأحوال من وخزاتها،كما قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186]، وكما قال الحق سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155].

الأنبياء أشدُّ الناس بلاءً:
بادئ الأمر يجب أن تؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله تبارك وتعالى لا يختار لعبده من الأحداث والأقدار إلا ما فيه الخير والنفع في العاجل والآجل، فأنت في دار ابتلاء وامتحان ولست وحدك في ذلك بل جميع الناس مُمتحَنون مبتلون في هذه الحياة، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ويقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ أي: في عناء ومشقة، ويقول تعالى أيضًا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

أنبياء الله ورسله الكرام لم يسلموا من البلاء؛ بل إن الأنبياء والرسل الكرام من أشد الناس محنة وابتلاء؛ إذ هم موضع القدوة ومناط الأسوة، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، أي الناس أشدُّ بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلْبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة»؛ (رواه الترمذي وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة) .

ألا توحي لك هذه التوضيحات الربانية والتجليات النبوية بأن البلاء ملازم للإنسان، مصاحب له في حياته على الدوام، وأن الله أراد لهذه الحياة أن تكون دار ابتلاء واختبار، وأنا وأنت من جنس هذا الإنسان المعرض للبلاء على الدوام، إنها الحقيقة الواضحة التي لو وَعاها المسلم؛ لهان عليه الكثير مما يلاقيه في هذه الدنيا، ومن بينها الأمراض التي تصيب الإنسان، فوطِّن نفسك على البلاء، واصبر وصابر وتكيَّف، وهيِّئ روحك لتكون صلبة متماسكة؛ فأنت في دار ابتلاء وامتحان، وتذكَّر أنك لست وحدك، فالجميع مُبْتلًى ولكن بدرجات متفاوتة وبأنواع مختلفة من البلاء يقدِّرها الحكيم الخبير سبحانه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، استوعب هذه الحقيقة فسترى الأمور أهون بكثير.

يأتي البلاء لتمحيصٍ وتذكـــــرة ** كأن كل بلاء نازل نِعــــــــــــ ـم
وهذه الدار دار حشوها ضـــــرر ** لكن مع الصبر بالغفران يختتم
فارض المقادير في ضر وعافية ** فليس يثبت إلا بالرضا قــــدم


لست الأول ولن تكون الأخير:
لست وحدك المبتلى والمصاب، فالبشر كلهم مصابون بأنواع شتَّى مختلفة من الأمراض والأحزان والهموم والأوجاع، وبعضهم أسوأ حالًا منك، فإن كنت تعاني من المرض فهنالك من يشتكي من عشرات الأمراض، وإن كنت تستطيع أن تقرأ كلامي هذا فهناك من فقد البصر ويتمنَّى أن يرى النور ولو للحظات! إن كنت تعاني من الأمراض فهناك من يعاني من العقوق ومن يعاني من الديون، ومن يعاني من فقدان الأحِبَّة، ومن يعاني من الفقر وقلة المال، وهكذا هي حياة البشر، كُتَلٌ من الهموم والأحزان، وسلسلة من الابتلاءات؛ فلست وحدك في ميدان البلاء، هذه حقيقة أخرى تقول لك: (لست وحدك) فاطمئنَّ وتقَبَّل ما كتبه الله لك.

قل لنفسك: هنالك مئاتٌ بل آلاف البشر يعانون في هذه اللحظة مثلما أعاني؛ بل ربما أشد من معاناتي، قل لنفسك: إن كنت أعاني من مرض واحد أو مرضين فأسِرَّة المستشفيات تحكي لك آلاف القصص لمن يعانون من عشرات الأمراض، وإن كنت تعاني من الفقر فهنالك ملايين البشر لا يجدون قوت يومهم، وإن كنت فقَدْتَ عزيزًا أو جفاك من كنت تودُّه، فهنالك آلاف الناس يتجرَّعون مثلك غصص الفقد وأشد، فمهما كنت تعاني تذكر دومًا هنالك من هو أسوأ منك حالًا، فتقبَّل وأسلم أمرك إلى من بيده مقاليد الأمور.

لا تيأسنَّ فإن الله ذو كـــــــــرم ** ما أنت أولُ من يشكو من الألم
أو أنت أول من يبكي إذا ذهبوا ** منه الأحِبَّة طول الليل لم ينــم

ثم إنني أختم لك بأمر عجيب وسِرٍّ من أسرار هذا الكون في تفاوت الناس في البلاء، وخفاء معظم بلايا البشر عنك، فكثير ممن تصاحبهم وتلتقي بهم يوميًّا لا تعلم ما يعانونه، ولا تدري كميته، فهذا الذي تظن أنه يعيش في سعادة وهناء لا تعلم عما يعانيه في خاصة نفسه، وذاك الذي تظن أن الله قد كفاه ما أهمَّه وأنعم عليه بشتى أنواع النعم، لا تعلم كم قاسى ويقاسي مما عافاك الله منه، فالجميع مُبْتلًى، والكل ممتحن، والصابر على البلاء مأجور، وعلى قدر صبرك واحتسابك يكون الجزاء، وبالله التوفيق.

منقول