اليقين ضد الشك (14)
عبدالفتاح آدم المقدشي
فضل الله ورحمته
بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشْرف المرسَلين، وآله وصحْبه ومَن تبِعَه بإحسان إلى يومِ الدِّين.
أما بعد:
فاعلمْ أنَّ رحمة الله وفضْله خيرُ ما يَظفر به المرءُ في دنياه وأُخراه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
فمَن فقَدَ رحمةَ الله وتوفيقَه وتيسيرَه، فقَدْ فقَدَ الخيرَ كُلَّه، ومَن وجَد ذلك فلا يُمْكن أن يضرَّه شيءٌ أبدًا، مهما كان، كما قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107].
ولذلك - للأسف الشديد - قد ترَى بعضَ الناس يجدُّ ويكْدح في الحياة، وكأنَّ هذا هو السبب الوحيد في نجاحه، وفي هذا مفاسدُ، منها ما يلي:
1- كونُه يعتقد اعتقادَ قارونَ؛ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]؛ أي: بمعرفتي بوجوه التجارة، أو بعِلم الله أنِّي أستحق بهذا المال.
2- كونه فقَدَ التوكُّل، وتعلَّق بهذه الأسباب المادِّيَّة، وقد قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].
3- كونُه مُستَدرَجًا، ولا يعلم أنَّ عاقبة أمره خسارة، وقد قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].
4- كونه أمِنَ مِنْ مَكْر الله، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].
5- كونُه فقَدَ الفَضْل والرحمة؛ أي: البركة، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
ولذلك اعلمْ - يا أخي، ويا أختي الكريمة - أنَّ كلَّ ما تَعْملُه في هذه الحياة الدُّنيا إنْ لم يُقارنْه فضْلٌ مِن الله ورحمة، فهو مَنزوعُ البركة، ولا خيرَ فيه، كما نَفْهم مِن قوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11].
فقد قرَن اللهُ سبحانه التجارة باللهوِّ؛ حيث شَغَلَتِ الناسَ عن سماع الخير؛ لذا فقدْ بيَّن اللهُ في هذا المقام أنَّه هو خيرُ الرازقين.
فعلى سبيل المثال: قد ترَى بعضَ التُّجَّار يُفتَن بكثرة الزبون عنده في أوقات الصلوات مثلًا، أو عند أذان الجمعة، فلا شكَّ أنَّه إذا ترَك التجارة لوجْه الله، وأغلَقَ المحلَّ ولم تفْتنْه الدُّنيا، أنَّ الله سبحانه سيُعوِّضه خيرًا مما ترك؛ لأنَّ الله هو خير الرازقين، وهو الذي يَرزق بغيْرِ حِساب، مع ما في ذلك الأمر مِن فضْل الله ورضوانه، ورحمته الواسعة.
وأيضًا مِن فضل الله ورحمته الواسعة أن يَرزقَك اللهُ وأهلَك العافيةَ في الدِّين والدنيا، فكم فُتِن كثيرٌ بجمْع الأموال مِن الحلال والحرام، فابتلاه اللهُ بمصائبَ أخرى؛ صِحِّيَّة وغير صِحِّيَّة.
وهكذا، فضْل الله ورحمته يجعل المرءَ موفَّقًا في أمور آخرته، فيؤدِّيها بأحسنِ الوجوه، مع الإخلاص وموافقة السُّنَّة، كما يجعله اللهُ قريبًا مِن الملائكة، بعيدًا مِن الشياطين والكفَّار والفُسَّاق.
ومِن ذلك الفَضْل والرحمة: التوبة ِمن الذنوب كلِّها؛ دقِّها وجليلها، وسرِّها وعلانيتها، والتي أكْبَرُها الشِّرْك بالله، فإنه سبحانه سيتقبَّلها منك تفضُّلًا منه، وامتنانًا ورحمة، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 10]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 20].
ومِن فضْل الله ورحمته أنْ أرسَل إلينا رُسلًا، وأنزل لنا كُتبًا؛ لئلَّا نتبع الشياطين، وأنَّه سبحانه لم يَجعلْ للشيطان علينا سُلطانًا، كما أنَّه سبحانه يحفظنا منهم ومن كلِّ سوء، قال تعالى: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64]، وأنه سبحانه غفور رحيم، وأنَّه توَّاب رحيم لِمَن تاب وأناب إلى الله بعدَ ذنْبه، وأنه سبحانه يَأجُر مَن همَّ بحسنةٍ بحسنةٍ مثلِها، وكذا مَن همَّ بسيئة فترَكَها لله، يَكتبُ اللهُ له حسنةً، كما يُبدِّل الله سيئاتِه حسناتٍ إنْ تاب إلى الله وأناب، وعمل عملًا صالحًا.
فالله سبحانه كريمٌ لطيف، رحيم بعباده، فلا ييْأَس مؤمِنٌ مبتلًى بمصيبة، مِن رحمته وفضْله، وإنَّما الكافر هو الشقيُّ، بل فليعملْ عملية السلام مع ربِّه، وليقل وليبتهل بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، وليقل: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 100، 101]، وليقل: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
وليقل: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47]، وليقل: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16]، وليقل إذا كان مريضًا مثلًا: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وليقل: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88]، يا ربِّ نجِّني إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين، وليقل: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فاستجبتَ دعاءَ الكفَّار فأنجيتَهم، وأنا أدعوك: إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين الموحِّدين إلَّا نجيتني، وأقول لك: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فنجِّني يا ربُّ.
ولكن لا بدَّ ألا تَنسَى هذا الوعْد بعدَ النجاة؛ بل عليك أن تكونَ مِن العابدين المخلِصين الشاكرين بتوفيق الله عزَّ وجلَّ، وهذا خيرٌ مِن النذر.
وليقل كذلك: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، فاكشف عني ما أنا فيه، وليقل: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147].
• وممَّا يهوِّن عليك أيُّها المبتلَى: أنَّ الله لم يُصبْك بمصيبة أعظم، وأنَّ الله لم يجعلْها في دِينك، وأنَّ الله وفَّقك للشكر والصبر عليها، وأنَّ الله سيُكفِّر بهذه المصيبة عن ذنوبك، ويرفع لك بها الدَّرجات، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وأنَّ الله وعدَك - ووعْدُ الله حقٌّ - بالفرج، فقال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5، 6]، ولن يغلبَ يُسرَيْن عسرٌ إن شاء الله، كما قالَه أهل العِلم، وقال سبحانه: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
وعليك بكثرة الإنابة، والتوبة الصادقة النصوح، مع البكاء المرِّ والندامة على ما فات، وعليك أن تُكثِرَ من الاستغفار، ومن قول: لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وجميع الأذكار، وأعظمُ الأذكار القرآن.
• كما عليك أن تُكثِر من التضرُّعِ إلى الله في جميع الأوقات، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42].
• ومُدَّ يديك إلى السماء متضرِّعًا قائلًا: اللهمَّ إنك تستحيي أن تردَّ يديْ عبادِك صِفرًا، فلا تردَّ عليَّ يدي صفرًا، وأنت ستِّير، استرني ولا تُشمت بي الأعداء، وأنت أكرمُ الكرماء، وأرحم الرحماء، وألطف اللطفاء، أنختُ مطاياي ببابك، وأنت أكرم مِن أن تردَّ مَن طَرَق بابك، وتجعله من الخائبين.
• وعليك بالإكثارِ مِن الصَّدقات والعِبادات المتنوِّعة، كما عليك أن تتحرَّى ساعاتِ الإجابة، وألَّا تستعجل وتقول: دعوتُ اللهَ فلم يَستجِب لي، فإنْ زاد عليك البلاءُ فاستزدْ أنتَ من الصَّبر، فهو خيرُ زاد للمؤمن، بل هو تطهيرٌ وتصفية، وإظهار لمعدن المؤمن الجيِّد، فكما يُفتَن الذهبُ بالنار فيَزداد صفاءً ولمعانًا، فكذلك حال المؤمِن؛ يزداد بالمصائب والابتلاءات المتتالية صفاءً ولمعانًا، وثباتًا في دِين الله؛ بل وحبًّا وإرضاءً لله، ممَّا يجعله يُضاعِف أعمالَه وعباداتِه؛ ليُرضيَ ربَّه، كما في الدعاء المشهور: ((إنْ لم يكُن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي))، وإنَّما المصيبة الحقيقية مَن شقي ودخَل النار مع الداخلين.
• وعليك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - المبتلَى/ المبتلاة - تفويضُ الأمْر إلى الله، فهو نِعمَ الموْلَى ونِعم النصير، وقُل: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، وتوسَّل إلى الله إنْ كان لك أعمالٌ صالحة قدَّمتَها لله؛ فإنها من مفاتيح الفرَج ومفاتيح الإجابة، فالمصائب لا تنزل عادةً إلا بسبب ذنوب العِباد، ولا يرفعها الله إلا برجوعهم إليه سبحانه، وما يعفو الله عنه أكثرُ، والدليلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
والله المستعان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.
عنِ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: أنه قال: ((إنَّ الله كتَب الحسناتِ والسيئاتِ، ثم بيِّن ذلك، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملْها، كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتبها الله عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة، وإنْ همَّ بسيئة فلم يعملْها، كتبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتَبها الله سيِّئةً واحدة))؛ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الحديث: واعلمْ أنَّ مَن همَّ بالحسنة فلم يعملْها على وجوه:
الوجه الأول: أن يسعى إليها بأسبابها، ولكن لم يدركْها، فهذا يُكتب له الأجر كاملًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100].
وكذلك الإنسان يَسْعى إلى المسجد ذاهبًا يُريد أن يصليَ صلاةَ الفريضة قائمًا، ثم يَعجز أن يصلي قائمًا، فهذا يُكتب له أجرُ الصلاة قائمًا؛ لأنَّه سعَى في العمل، ولكنَّه لم يدركْه.
الوجه الثاني: أن يهمَّ بالحسنة ويعْزِم عليها، ولكن يتركها لحسنةٍ أفضل منها، فهذا يُثاب ثوابَ الحسنة العليا التي هي أكمل، ويُثاب على همِّه الأول للحسنة الدنيا، ودليلُ ذلك أنَّ رجلًا أتى إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين فتَح مكة، وقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إنْ فتَح الله عليك مكة أن أصليَ في بيت المقدس؟ فقال: ((صَلِّ هَا هُنا))، فكرَّر عليه، فقال له: ((شَأنُكَ إذًا))، فهذا انتقل مِن أدْنى إلى أعْلى.
الوجه الثالث: أن يتركَها تكاسُلًا، مثل أن ينويَ أن يصليَ ركعتي الضُّحى، فقرَع عليه البابَ أحدُ أصحابه، وقال له: هيا بنا نتمشَّى، فترَك الصلاة وذهَب معه يتمشَّى، فهذا يُثاب على الهمِّ الأول والعَزْم الأول، ولكن لا يُثاب على الفعل؛ لأنَّه لم يفعلْه بدون عذْر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل.
((وإن هَمَّ بِها فَعمِلَها)): تُكتب عشر حسنات والحمد لله، ودليلُ هذا من القرآن قولُ الله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160].
((كَتَبَها اللهُ عِندَه عَشْرَ حَسَناتٍ)): هذه العشر الحسنات كتبَها الله على نفسه، ووعَد بها، وهو لا يُخلِف الميعاد.
((إلى سَبعمَائةِ ضِعْف)): وهذا تحت مشيئة الله تعالى؛ فإنْ شاء ضاعَف إلى هذا، وإنْ شاء لم يضاعف.
((إلى أضعافٍ كَثيرةٍ))؛ يعني: أكثر مِن سبعمائة ضِعْف.
قال: ((وإن هَمَّ بِسَيئةٍ فَلَم يَعمَلْها، كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسَنةً كامِلَةً)): جاء في الحديث: ((لأنه إنَّما تَرَكَها مِن جَرَّائي))؛ أي: مِن أجْلي، فتُكتب حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله.
واعلم أنَّ الهمَّ بالسيئة له أحوال:
الحال الأولى: أن يهمَّ بالسيئة؛ أي: يعزم عليها بقَلْبه، وليس مجرَّد حديث النفس، ثم يراجع نفسَه فيتركها لله عزَّ وجلَّ، فهذا هو الذي يُؤجَر، فتُكتب له حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله، ولم يعملْ حتى يكتبَ عليه سيئة.
الحال الثانية: أن يهمَّ بالسيئة ويعزم عليها، لكن يعجز عنها بدون أن يَسعَى في أسبابها، كالرَّجل الذي أخْبر عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ليتَ لي مثلَ مال فلان، فأعمل فيه مثل عمله، وكان فلان يُسرِف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يُكتب عليه سيِّئة، لكن ليس كعامل السيِّئة؛ بل يُكتب وزْر نِيَّته، كما جاء في الحديث بلفظه: ((فَهوَ بِنيَّته، فَهُمَا في الوِزرِ سواء)).
الحال الثالثة: أن يهمَّ بالسيئة ويَسعَى في الحصول عليها، ولكن يَعجِز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السيئة كاملًا، دليل ذلك قولُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا الْتَقَى المُسلِمانِ بِسيفَيهِما، فالقاتِل والمقْتول في النَّار))، قال: يا رسولَ الله، هذا القاتِلُ، فَمَا بالُ المَقتُول؟! - أي: لماذا يكون في النار - قَال: ((لأَنَّهُ كانَ حَريصًا عَلى قَتْلِ صاحبِه))، فكُتب عليه عقوبة القاتل.
ومثاله: لو أنَّ إنسانًا تهيَّأ ليسرقَ، وأتى بالسُّلَّمِ ليتسلَّق، ولكن عجَز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السارق؛ لأنه همَّ بالسيئة، وسعى في أسبابها، ولكن عجز.
الحال الرابعة: أن يهمَّ الإنسان بالسيِّئة، ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقَع كثيرًا، يهمُّ الإنسان بالسيئة، ثم تطيب نفسُه ويعزف عنها، فهذا لا يُثاب؛ لأنه لم يتركْها لله، ولا يعاقَب؛ لأنه لم يفعلْ ما يوجب العقوبة.
وعلى هذا فيكون قوله في الحديث: ((كتبَها عِندَهُ حَسَنَةً كامِلَةً))؛ أي: إذا تركَها لله عزَّ وجلَّ.
((وإنْ هَمَّ بِها فَعَمِلَها، كَتبَها اللهُ سَيئةً واحِدةً))؛ ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: ((إِنَّ رَحْمَتِيْ سَبَقَتْ غَضَبِي))، وهذا ظاهِر من الثواب على الأعمال، والجزاء على الأعمال السيئة.
• رأى رجلٌ تائِب رؤيةً عجيبة، وهي أنَّه رأى رؤوس ناسٍ محترقين بالنار، متناثِرة في الأرْض، فقيل له: أما أنت فلستَ منهم؛ لأنَّك عملت عملية السلام مع ربِّك، فمَن ذا الذي يستطيع أن يُحارِب ربَّه؟! أمَّا مَن عمل الحسنة فتُضاعَف له عشْر حسنات إلى سبعمائة ضِعْف كما جاء ذلك في حديثٍ صحيح.
ومن ذلك أيضًا أنَّ الله لا يأخذ بكلِّ الذنوب التي يعملها المرء؛ بل يعفو ويصفح، وأنَّه سبحانه يحلم ويُمْهل للظالم؛ ليرجعَ إلى ربه ويتوب، ويعطيه فرصةً واسعة، وأنَّه سبحانه لا يأخذ أحدًابذنبِ ابنه وأبيه، ولا بذنب أيِّ أحدٍ من الناس؛ بل الله سبحانه بفضْله ورحمته يُلحِق الأبناءَ بآبائِهم إنْ كان الآباء في درجات عالية مِن الجَنَّة، والعكس صحيح إنْ شاء الله.
ومن ذلك أيضًا: أنه سبحانه جعل الناسَ يَشفع بعضُهم لبعض، كما جعَل الشهداءَ يشفعون لسبعين مِن أقاربهم، وهكذا جعَل الله سبحانه رسولَنا صلَّى الله عليه وسلَّم يشفع لنا بشفاعة عظيمة، ويتردَّد إلى ربه شافعًا لأُمَّته؛ حيث سيُخرِج مِن النار ما شاء الله أن يُخرِج، إلا مَن حبَسه القرآن، ثم كذلك الله سبحانه وتعالى بفضْله وبرحمته يُخرِج منها مَن كان في قلْبه مثقالُ ذرَّة مِن إيمان؛ بل وأدْنى وأدنَى مِن ذلك، ثم يُخرِج الله مِن النار كلَّ مَن لم يفعل خيرًا قط بفضْله ورحمته فحسْبُ.
ثم اعلم أنَّ الرحمة والفضْل لها عموم وخصوص، كما يدلُّ اسما الرحمن الرحيم مثلًا، ففضْل الله ورحمته عامٌّ لخلقه جميعًا، فيَرزقهم ويُعافيهم في الدنيا، بما فيهم الكفَّار الذين يسبُّونه، أما الرحمة والفضْل الخاص، فهو لعباده المؤمنين بتوفيقه وتأييده ونصره في الدنيا، وإدْخالهم الجَنَّةَ يومَ القيامة، كما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156].
قال الإمام الطبريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثَنا القاسم، قال: ثَنَا الحسين، قال: ثَنِي حجَّاج، عن ابن جريج، قال: لمَّا نزلت: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، قالَ إِبْلِيس: أَنَا مِنْ كُلِّ شيء، قال اللَّه: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156] الْآيَة، فقالتِ الْيَهُود: وَنَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْتِي الزَّكَاة، فأَنْزلَ اللَّه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ [الأعراف: 157]، قالَ: نَزَعَها اللَّه عن إبْلِيسَ وَعَنِ اليَهُود، وَجَعَلَها لأُمَّةِ مُحَمَّد، سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ قَوْمك.
بل إنَّنا نجد أنَّ الله سبحانه يُعَبِّر في القرآن عنِ الجَنَّة بأنها فضْل ورحمة، كما في آياتٍ كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُم ْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175]، وقوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الإنسان: 31].
والمقصود هو أن نتذكَّر دائمًا فضْلَ الله ورحمته العظيمين، مع كرَمِه ولُطفه بعباده، وأن نكون متيقِّنين مِن ذلك، مهما استَعْصَتْ علينا الأمور واستَفحَلتْ، وإلا فسيغلبنا الشيطانُ وسنكُون فريسةً سهلةً لليأس مِن رُوح الله، المتسبِّب في الكفر بالله والعياذ بالله، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56].
وقد قال تعالى:﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14]، وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَق اللهُ الخَلْقَ كتَب في كتاب، فهو عندَه فوق العرش: إنَّ رحمتي تَغْلِب غضبي))؛ متفق عليه.
وفي رواية: ((سبَقتْ غضبي))، وفي رواية: ((غَلبَت غضبي)).
فالواجب إذًا ألَّا يقنطَ أحدٌ مِن رحمة الله، فمَهْما أسرفَ الإنسانُ في الذنوب، فإنَّ رحمة الله أوسعُ وأعظم؛ ولذلك لا يَنبغي أن يُتمادَى في العصيان، ويُستَمَعَ إلى وساوس الشيطان وقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]، قال الحسَن البصريُّ رحمه الله: (انظروا إلى هذا الكَرَم، قَتَلوا أولياءَه ويَدعوهم إلى التوبة!)[1].
ومِن كرَمِ اللهِ وحِلْمه العظيمين أن يَرزُق ويُعافِي مَن يسبُّه وينسب إليه آناءَ الليل وأطرافَ النهار الولدَ، وقد كادتِ السماوات أن يَتفطرْنَ مِن ذلك السبِّ، وتنشقَّ الأرض، وتخرَّ الجبال هدًّا، بل وأكثر مِن ذلك أنه سبحانه يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74] بعدَما قالوا ما قالوا، وفعلوا وما فعلوا!
ولكن لا بدَّ أن يكون المرءُ بيْن الخوف والرجاء، ولا يرجِّح أحدهما عن الآخَر - كما قرَّرته الشريعة - بل تجد أنَّ أسلوب القرآن كله بَيْن الرجاء والخوف، حتى إنك تجد الآية الواحدة منه فيها الرَّجاء والخوف، كما قد تجد مثلَ ذلك في آيتين أو آيات كثيرة بالأسلوب نفسه، كما قال تعالى على سبيل المثال: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: 3]، وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]، وقال تعالى:﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49، 50]، ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 12 - 14].
وأيضًا مِن فضْل الله ورحمته أنْ تَشكُرَ نِعَمَ الله عليك، الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20].
فمَن أنتَ يا ابنَ آدم، حتى تُجادِل ربَّك جهلًا وظلمًا وعدوانًا منك؟ حتى تنكرَ نِعمه الظاهرة والباطنة، وقد خلَقَك في ظلمات ثلاث، في هذا القرار المكين، وأخرجك مِن بطن أمِّك وأنت كقطعة لحم، وجعل لك السمعَ والبصر والفؤاد، ثم أنبتك نباتًا حسنًا، حتى سوَّاك بشرًا سويًّا؟!
واعلمْ أنَّ أعظم نِعمة على وجه هذه البسيطة نِعمةُ الهداية إلى الإسلام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120، 121].
فسببُ اجتباء الله لإبراهيم هو توحيدُه وعبادته، مع شُكْره لأنعُم الله المتنوِّعة كما ترى، ومِن ذلك الشكر العظيم أن يبقَى المرء شاكرًا متحسِّسًا بنعم الله، ولو ذهبتِ الدنيا وولَّت، بل حتى لو ابتلاه الله في جِسمه - نسأل الله السلامة والعافية - ما دام منعمًا بِنعمة الإسلام، وهَداه إلى الصِّراط المستقيم؛ ولذلك مِن السُّنَّة أن يقول المصاب: ((الحمد لله على كلِّ حال، وأعوذ بالله من حالِ أهل النار))، بل كل ذلك يدعو إلى أن ينظرَ المرء إلى الأمور بالتعمُّق وبالبصيرة وبالتيقُّن.
وانظر واعتبر - يا أخي/ ويا أختي الكريمة - كيف جعَل اللهُ ثمرةَ هذا التوحيد والعبادة، والشكر والتقوى لإبراهيم عليه السلام؛ فعاقبتها الاجتباء والهداية إلى الصِّراط المستقيم، وكيف جعَلَه اللهُ وحْدَه أُمَّةً؛ بل وإمامًا للمتقين، حتى أمَرَ اللهُ في كتابه العزيز خيرَ البشرية محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يتَّبع مِلَّة إبراهيم حنيفًا، والله أعلم.
ثم اعلم - أيها الأخ/ والأخت الكريمة - أنَّه لا يُمكن أن تدخل الجَنَّةَ بفضْل أعمالك - وإنْ كنتَ مأمورًا بها - إنْ لم يتغمَّدْك الله برحمته وفضْله يومَ القيامة؛ بل حتى الأنبياء لا يُمكن أن يدخلوا الجَنَّة بفضْل أعمالهم، فكيف بمَن هم دونهم؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قارِبوا وسدِّدوا، واعلموا أنَّه لن يَنجوَ أحد منكم بعمَلِه))، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أنْ يتغمَّدَني الله برحمة منه وفضْل))؛ رواه مسلم.
من ثمرات الرحمة والفضل:
• التنعُّم في الدنيا بولاية الله وكلَئِه، وحِفْظه ورعايته.
• التوفيق والسَّداد.
• النصر والتأييد.
• الرِّفْعة في الدنيا، ولو لم يقصدْها المؤمن ولم يطلبها.
• خاتمة حَسَنة.
• تيسير الله له السَّكرات.
• والأمان مِن الفتَّانَيْن.
• وأنْ يُيسِّر الله له ويُعينه على أهوال يوم القيامة، أما الكافر، فقدْ قال الله تعالى في حقِّه: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [المدثر: 8 - 10].
• الدخول إلى الجَنَّة.
أمَّا موجبات الرحمة، فمنها:
• الإخلاصُ والعمل بالدِّين: ((تركتُ فيكم ما إنْ تمسكْتُم لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّتي)).
• الرَّحمة والإحسان، والعدل مع الخَلْق، كما في الأحاديث: ((مَن لا يَرْحم لا يُرْحم))، ((الرَّاحِمون يَرْحمهم الرحمنُ))، ((ارْحموا مَن في الأرض يَرْحمْكم مَن في السماء))، ((إنما يَرْحم اللهُ مِن عباده الرُّحماءَ)).
أما خصائص الرحمة والفضل، فهي:
• صِفتان مقدمتان من الغضب.
• منسوبتان إلى الرحمن حقيقة.
• محبوبتان إليه.
• وهُمَا واسعتان، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، وقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
أما الفَضْل، فكقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130].
حدَّثَنا أبو اليمان، أخبرَنا شعيبٌ، حدَّثَنا أبو الزناد، عن الأعْرج، عن أبي هُريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يدُ اللهِ ملأى، لا يُغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ اللَّيْلَ والنهارَ، وقال: أرأيتُم ما أنفق منذ خَلَق السماوات والأرض، فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وقال: عرْشُه على الماء، وبيده الأُخرى الميزان يخفِض ويرفع))؛ رواه البخاري.
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].
والله سبحانه وتعالى أعْلى وأعْلم.
ـــــــــــــــ
[1] نصيحتي لك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - ملازمة الاستغفار، وكثرة التضرُّع والدعاء مع البكاء، وإصلاح ما أفسدته، بكثرة الأعمال الصالِحة؛ مِن حجٍّ وصَدقة، وبِرٍّ وصِلة، وجهاد، لا سيَّما كثرة الإحسان وتنويعه، ولقد ثبَت في الصحيحين: ((بينما كَلْب يُطِيف برَكِيَّة قد كاد يقْتلُه العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ مِن بغايا بني إسرائيل, فنزَعت مُوقَها، فاستقتْ له به فسقتْه، فغُفِر لها به)). "الموق": الخف، و"الرَكِيَّة": هي البئر.
وكذلك ثبت أيضًا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ((لقد رأيتُ رجلًا يتقلَّب في الجَنَّة؛ في شجرة قطعَها مِن ظهْر الطريق، كانت تُؤذِي المسلمين))؛ رواه مسلم.