تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 14 من 14

الموضوع: اليقين ضد الشك

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (1)

    عبدالفتاح آدم المقدشي


    قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.. ﴾ [والعصر: 3].

    يعبِّر الله سبحانه وتعالى عن الإيمان في القُرآن دائمًا بصيغة الماضي؛ لذلك لا بدَّ أن تنتهي عمليَّة الإيمان مرَّة واحدة، أمَّا إذا ساورها أو خالَجَها تردُّد أو ارتياب، فإنَّه حينئذٍ يكون حاله كمَن هو مشتغل في بناء مصْنعه ولم يكْمله بعد؛ وذلك لأنَّ أمور الإيمان الأساسيَّة لا بدَّ أن تكون جازمة ثابتة في نفوس المؤمنين، وفي جميع مستوياتهم، سواء كانوا علماء أم جهَّالًا، فالذي يمكن أن يتفاوتوا فيه ما ليس مِن الدِّين بالضَّرورة، كالمسائل الخفيَّة في الصِّفات الَّتي لا يعلَمُها إلَّا العلماء المتخصِّصون.

    قال تعالى: ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾ [الحجرات: 15]، بل الشَّكُّ هو شأنُ المنافقين الَّذين في قلوبهم مرضُ الشَّكُّ والارتِياب، فهم لا يتمتَّعون بالنور التَّامِّ يومَ القيامة بقدْر ما حَرَموا أنفُسَهم مِن هذا النور في قلوبهم، وفَتَنُوا أنفُسَهم بما لا حقيقة فيه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ ﴾ [الحديد: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [التوبة: 45]، ومعنى هذا: أنَّ المرتاب متردِّد بين شيئين؛ وذلك لأنَّه إنَّما يظنُّ ظنًّا وليْس بمستيقِن في إيمانِه، فيقول في نفسه مثلًا: لعلَّ هذا حقيقة ويحدُث، ثمَّ يُخالجه شكٌّ ووسواسٌ ويقول: لا ليْس هناك شيء، فهو دائمًا في تردُّد ولا يَقرُّ له قرارٌ ولا يطمئن؛ كما قال تعالى في آيةٍ أُخرى: ﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [التوبة: 45].

    بل هذا كان طبيعةَ كلِّ الأمم المكذِّبة بربِّها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 9، 10].

    وقال تعالى في شأْن اليهود الذين كذَّبوا اللهَ بارتيابهم في دعْوة يوسف عليه السلام، وكان هؤلاء اليهود يَتعاملون مع يوسف عليه السَّلام معاملةَ المنافقين، مادام كانت عنده سُلطة؛ ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34].

    وكما أسلفْنا، اليقين لا بدَّ أن يَستوي فيه النَّاس كلُّهم فيما عُلم مِن الدِّين بالضَّرورة، ولكن بالنسبة لما سيَحدث مِن الخوارِق في المستقبل، الَّذي أخبره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهم فيه يَتفاوتون، كما يدل الحديث الَّذي ذَكَرَ فيه المصطفى البقرةَ التي تتحدَّث وتقول لصاحبها: ما خُلِقْتُ للحرْث، وككلام الذِّئْب، فقال بعض الصَّحابة: سبحان الله، بقرة تتكلم! وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَّا أبو بكر وعُمر فيؤمنون بهذا))، وهما كانا غائبين، أو كما قال.

    أمَّا بالنسبة للخوارق التي وقعتْ في حياته وشاهدَها النَّاس بأعيُنِهم، فلا بدَّ أن يَستويَ في يقينِها وإيمانها كلُّ المؤمنين، كحادثة الإسراء والمعراج، وكحادثة انشِقاق القمر، وتَفَجُّر الماء في أصابعه، وكَتَبْرِيكِهِ للطَّعام وغير ذلك.

    أمَّا بالنسبة لما وَعَد اللهُ عبادَه مِن النَّصر والظَّفر على الأعداء في أوْقات الامتِحان، فيجوز أن يَتفاوت النَّاس فيه في قوَّة اليقين والإيمان بوعد الله، فبعضُ الناس كأنما هم متحقِّقون بأمِّ أعيُنِهم هذا النَّصر ولو لَم يَحدث، وبعضُ النَّاس يرجون رجاء عظيمًا وهو في غالب الظَّنِّ أنَّه سينتصر، وبعض النَّاس عنده قليلٌ من الرَّجاء، وبعض النَّاس يقع في الارتِياب بين النَّصر والهزيمة مع تَشَكُّكهم في وعد الله، وهؤلاء هم الذين وَقَعوا في النِّفاق وخرجوا عن حقيقةِ الإيمان واليقين بالكلِّيَّة، وهُم الَّذين يظنُّون أنَّ الله يُخْلِف وعدَه للمؤمنين، كما أنَّهم وَقَعوا في الظَّنِّ بالله ظنَّ السوْء، وعدم الثقة بالله، وفقْد التوكُّل والاستعانة بالله، والخوف والرَّجاء مِن الله وحْده، والله المستعان.

    قال تعالى: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [الفتح: 6].

    وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].

    فاليقين يزداد بالعِلْم مرَّة، أو برؤْيةِ كرامةٍ أو آيةٍ، أو بثباتٍ أو سكينةٍ، أو طمأْنينة يَضعُها اللهُ في قلوب مَن يشاء مِن عباده؛ ولذلك علَّمنا اللهُ أن ندعو بهذا الدُّعاء الَّذي يُثبِّت اللهُ به الَّذين آمنوا؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].

    وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُكْثر الحلِف بـ: ((لا، ومُقَلِّبِ القلوب))، وكان يدعو: ((اللهم يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلوبَنا على دينك))، وفي الحديث: ((إنَّ القلوب بين إصبعَين مِن أصابع الرَّحمن يُقلِّبُها كيف شاء)).

    وفي الحديث: ((مثَل القلبِ كريشةٍ في أرضٍ فلاةٍ تُقلِّبُها الريح)).

    ولما نزلت في إثر صلح الحديبية: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ [الفتح: 1، 2]، قالت الصَّحابة: وما لنا؟ فنزلت: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا.. ﴾ الآية [الفتح: 4].
    فهذه هي السَّكينة التي يَضعُها اللهُ في قلوب مَن يشاء مِن عباده.

    ومنْه رِباط القلوب، كما رَبَطَ اللهُ على قلوب أصْحاب الكهف لمَّا ﴿ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. ﴾ الآية [الكهف: 14]، وكما ربَط اللهُ على قلب أمِّ موسى؛ لأنَّ الله أراد لها الإيمانَ والثَّباتَ؛ قال تعالى: ﴿ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، وكما ثبَّت اللهُ الطَّائفتين اللَّتَين أرادتا أن يفشَل المؤمنون؛ لأنَّ الله أراد لهما الإيمان والثَّبات؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ آل عمران: 122].

    وتأمَّل قولَ اللهِ تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ الآية [البقرة: 260].

    إذ كان خليلُ اللهِ إبراهيمُ عليه السلام يَطلب مِن الله أن يُريه كيف يُحيي الموتى، فقال الله له: أولم تُؤمن؟قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.

    فهذه القصَّة تدلُّنا على أنَّ زيادة اليقين بالعِلْم أو بمشاهدة المعجزة في عصر النبوَّة، أو بالكرامة أو بالآية في كلِّ العصور لا تضُرُّ، بل ولا تؤثِّر في أصل اليقين والإيمان؛ لهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم تعليقًا لهذه القصَّة: ((نحن أحقُّ بالشَّكِّ مِن إبراهيم))؛ أي: إنَّ إبراهيم لو شكَّ وهو مَن هو في قوَّة الإيمان، نحن كنَّا أحقَّ بالشَّكِّ منْه؛ أي: لم يَشُكَّ، وكان قوله هذا - بأبي وأمي - لأجل التَّواضُعِ، والاعترافِ بالفضل لإبراهيم عليه السلام وتَبْيِينًا وتفقيهًا لهذه المسألة الَّتي نحن بصددِها،، والله أعلم.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (2)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، ومَن تبِعَه بإحسان ومَن والاه.

    من المعلوم أنَّ النَّاس يتفاضلون في اليقين كما يتفاضَلون في الإيمان، فأيُّهم أشدُّ يقينًا فهو أشدُّ وأقْوى إيمانًا، وأقْرب إلى الله وملائكته وأوليائه، وأبعد من الشَّيطان وأوليائِه وأهل الكفر.

    بل اعلم أنَّ المؤمن المتيقِّن الصَّابر من جُملة الأئمَّة الَّذين يهديهم الله بأمرِه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

    والعِلم والحقُّ واليقين قُرناء، كما أنَّ الرِّيبة والظَّنَّ أو التَّخمين قرناء، فمثلًا انظُر إلى علْم الدُّنيا، فإنَّه قائم بالظَّنِّ ويَخضع للتجْرِبة؛ لذلك يكثُر فيه الاختلاف والتَّعديل والشطب... إلخ، أمَّا علم الوحْي فليس كذلك أبدًا؛ وذلك لأنَّ الله الذي أنزله يعلم السِّرَّ وأخْفى، ويعلم ما في السَّماوات والأرض، وبذلك تعْلم خطأ مَن يقول: تَجربة تطبيق الشَّريعة، أو تجربة المحاكم الإسلاميَّة.

    فإذا كان الله لا يقول إلَّا الحقَّ وهو يهْدي السَّبيل، ورسوله كذلك، فعلامَ تكون التَّجرِبة في شرع الله إذًا؟!
    قال تعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].
    وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [والنجم: 28]
    وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [والنجم: 23].

    فنتيجة اتِّباع الظَّنّ والهوى: الضَّلال والخسارة الدنيويَّة والأخروية حتْمًا، ولو أمهلهم الله في بعض الأزمان، فاعلم أنَّ هذا لا يدلُّ إلَّا على أنَّه استِدْراج لا أكثر ولا أقل، ولو اغترُّوا في رخاءٍ موْهوم مؤقَّت؛ إذ لا بدَّ أن يكون بعد ذلك - لا محالة - دمارٌ وعيبٌ وشنار؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ الآيات [طه: 123 - 126].
    وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].

    فاليقين شرطٌ من شروط التَّوحيد - كما هو معلوم - وكذلك اعلم أنَّه شرطٌ في جَميع الأصول الإيمانيَّة كلِّها، فعلى سبيل المثال: انظر إلى الإيمان باليوم الآخر، فإنَّه لا يَقبل اللهُ من ظانٍّ شيئًا أبدًا في هذا اليوم، بل لا بدَّ أن يكون مستيقنًا به، وعلى هذه الأصول كلّها وكأنَّها في نصب عينيه قائمة، كما وَصَفَ الصَّحابيُّ الجليل معاذ بن جبل حقيقةَ إيمانِه بهذه الصورة العجيبة، حيث قال: "وكأنِّي أنظُر إلى أهل الجنَّة يتنعَّمون في جنَّاتهم، وأهل النار يتعذَّبون في نيرانِهم، وكأنِّي أنظر إلى عرش الرَّحمن..." ...إلخ، فقال له النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((عَرَفْتَ فَالْزَمْ))، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِي نَ ﴾ [الجاثية: 32].

    وقلنا آنفًا: الحقّ واليقين والعلم قرناء؛ وذلك لأنَّ الحق واليقين أبلغ في الوصف والمراد مِن العِلم وحْده؛ لذلك وَصَفَ اللهُ الموتَ باليقين والحقِّ - لشدَّة تيقُّن الإنسان بذلك، ولو تَسَاهَل مَن تَسَاهَل فيه - بيْنما تجد أنَّ لله تعالى لم يصِف الموت بالعِلم قطُّ في القرآن الكريم، ولو مرَّة واحدة؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، وقال تعالى: ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ [المدثر: 46، 47]، ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾ [ق: 19].

    وجاء في القرآن: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5]؛ وذلك لأنَّ العِلم وسيلة إلى بلوغ غاية الحقّ والتيقُّن في الإيمان، وليس مقصودًا بذاته؛ لذلك فهو أقلُّ معنًى بالمقارنة للحقِّ واليقين، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الحاقة: 51]، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 7]؛ وذلك لأنَّ اللَّفظَين الأخيرين في مقام المعاينة، و "ليس الخبر كالمعاينة" كما في الأحاديث الشَّائعة بالألسُن.

    ولقد طَلب أبونا إبراهيمُ مِن ربِّه أن يُرِيَه كيفية إحْياء الأموات بأمِّ عينيْه؛ ليشاهدَها وليقف عليها بالمعاينة، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ الآيةَ [البقرة: 260]، وقد أسلفْنا ما فيه في المقال السَّابق، وهكذا أرى اللهُ أبانا إبراهيمَ الآياتِ في ملكوت السَّماوات والأرض ليكون من الموقنين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75].

    ثمَّ اعلم أنَّه يختلف ظنُّ المؤمن بالله وظنُّ المنافق بالله تمامًا؛ إذ الأوَّل لا يظنُّ بالله السوء، ولا أنه يَخْذُل أولياءَه، ولا أنَّه يعِدُهم الغرورَ، وإنَّما شدَّة الزلزلة والمِحَن قد تجعله ينزل من مرتبة الخوف بالله وحده، فهذا هو الشَّيء الَّذي وجَّه الله صحابته - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يخافوا إلَّا الله، وأن لا يخافوا من الشَّيطان وتخويفاته أبدًا، وأن يقولوا: "حسْبُنا الله ونِعْم الوكيل"، واقرأ إن شِئْت من بداية قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ﴾ [آل عمران: 173]، إلى قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 173].

    أمَّا الثَّاني فإنَّه من شدَّة اهتمامه بنفسه يَخاف من المخلوق بأدنى صيْحة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [المنافقون: 4]، ويظُن أنَّ الله يخذل عبادَه، وأنَّه يعِدهم الغرور، وأنَّه سيموت بالمعركة كأنَّ الضَّرَّ والنَّفع بغير الله... إلخ، واقرأ إن شِئْت قولَه تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ الآيات [آل عمران: 154]، واقرأ كذلك من بداية قولِه تعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ﴾ [الفتح: 11 -15].

    أمَّا بالنِّسْبة للوسواس الَّذي قد يعتري المؤمنَ بين الفيْنة والأخرى، فذلك صريحُ الإيمان؛ كما ورد بذلك في الصَّحيح؛ لأنَّ اجتهاد المؤمن بنفسِه بالإيمان، وكراهيته للكفر والعِصيان، تدلُّ على صراحة إيمانه، ثمَّ اعلم أنَّ الشَّيطان لا يهجم على قلوب المؤمنين بالوسواس إلَّا إذا عجز عن إضْلالهم وإيقاعهم بالفساد، فنصيحتي لكلِّ مَن ابتُلي من ذلك بشيء أن يلتزم بما يلي:
    1- أن يتسلَّح المؤمن بسلاح العِلْم؛ حتَّى ينال بذلك قوَّة الإيمان واليقين المطلوبة، ولكي يستطيع أن يدافع عن نفسِه من شبهات الشَّيطان ووسوسته، بعلمه بعد توفيق الله له تعالى.

    2- أن يتسلَّح بكثرة قراءة القرآن والتدبُّر فيه والتحرُّز به، خصوصًا بالمعوِّذتَين، كما ينبغي كثرة الأذْكار والتذكُّر ليوم العرض والحساب والقبر.

    3- أن يتسلَّح بالقلب الليِّن المخبِت لله المنشرح للإسلام، كما ينبغي أن يكون كثير البُكاء لله، مع الخوف من الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته الدَّائمة في السِّرِّ والعلن.

    4- أن يُكثر من الدُّعاء لكي يُثبته الله، وقد ابتُلي أحدُ الصَّالحين بالوسوسة فدعا الله أن يُذهب عنه ذلك، فرأى في منامه هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إني أسألك بما تحبُّ وترْضى حتَّى ألقاك"، فأذهب اللهُ عنه ما كان يُعانيه من شدَّة الوسوسة، فالدُّعاء من أهم سلاح المؤمن، فتنبَّه له.

    5- أن يَجتهد بالطاعات والعبادات؛ فالنفس إن لم تشغلْها بالطَّاعات شغلتْك بالمعاصي والفضوليَّات وما لا يُحمد عقباه.

    6- أن يَقذف ما قد يطْرأ في خاطره من الوسوسة مِن أوَّل وهلة، ولا يَسترسل معها أبدًا؛ وذلك لأنَّ طبيعة المؤمن التذكُّر والانتِباه لعدوِّه، ولئلَّا يكون من إخوان الشَّيطان؛ والدَّليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201، 202]، وفي الصَّحيح: ((الحمد لله الَّذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسة))، وفي الحديث: ((وإنَّ الشَّيطان أيس أن لا يُعبد الله في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحريش بينهم))، أو كما قال.

    7- اعلم أنَّ مرحلة الخواطر والهواجس أمرك بيدك، وإنَّما يكفيك مجرَّد أن تطْرح الأفكار الغريبة الهدَّامة، الَّتي تأتي إلى قلبِك عن طريق حاسَّة السَّمع أو البصر أو الوسوسة، وتتعوَّذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، وقد قال ابن عبَّاس: "إنَّ الشَّيطان جاثمٌ على قلب ابنِ آدم، فإذا ذكر الله خَنسَ".

    أمَّا إذا دخلَت هذه الخواطر في معمل الدماغ - إن صحَّ التَّعبير - فلا يزال لديْك فرصة سانحة أن ترميها حتَّى لا تتعلَّق بقلبك، ولا تتطوَّر إلى مسألة الشَّكِّ أو التردُّد.

    أمَّا مرحلة الإنتاج، فتتجاوز عن التردُّد والشَّكِّ في الأمر حتَّى تتحوَّل إلى همٍّ أو عزيمة أو قصد أو نيَّة، ولا تزال الفرصة سانحةً أيضًا إلَّا أن يُقارِنَ ذلك طلبُ الإثْم، فإن قارَنَه فإنَّه قد يُؤخَذ به ولو لَم يُنفذ ما أراده؛ كما في الحديث الَّذي ثبت في صحيح البُخاري: ((إذا التقى المسلِمان بسيْفَيهما فالقاتل والمقْتول في النَّار))، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((لأنَّه كان حريصًا على قتْل صاحبه)).

    أمَّا مرحلة التَّخزين الطَّويل، حتَّى يترسَّخ هذا القصْد أو الهمُّ في دماغه، فإنَّ هذا الأمر يتحوَّل عقيدة، وما سُمِّيَت العقيدةُ عقيدةً إلَّا لِما ينعقد في القلْب من صحَّة الأفكار من عدمها، كما يظنُّه أو يتصوَّره المعتقِد، ولكن لا تزال فرصة سانحة عنده أيضًا إذا كان صاحب الفكرة متفتِّحًا قابلًا للحوار البنَّاء، أمَّا إذا كان متزمِّتًا في رأيه فيصعب الحلُّ معه.

    والله أعلم.




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (3)

    عبدالفتاح آدم المقدشي


    اعلم أنَّ الكافر الشاكَّ دومًا بين التصديق والتكذيب، ولا يمكن أن يؤمِن بإيمان جازِم - كما أسلفْنا - ولكنه أقربُ إلى الإيمان بالله من الكافِر الجاحد المنكِر، إلا أنَّهم سِيَّانِ في الكفر؛ لخروجهما عن دائرة الإسلام.

    وسببُ اشتهارِ الكفَّار والمنافقين بالشك: أنَّهم جحدوا وكفروا بعدَما تبيَّن لهم الحق والآياتُ البيِّناتُ والهُدى؛ لذلك فهُم يعيشون في صِراع نفسي دائم بيْن قَبول الحق البيِّن، وبيْن قَبول مَطالبِ النفسِ الأمَّارة بالسُّوء وحظوظها، كما تتنازع نفسيَّةُ المسلِم العاصي عندما يَهْوِي في ارتكاب المحرَّمات بيْن قَبول شهوات النفس ورغباتها، وقَبول أوامر الله وتقديمها على كلِّ شيء.

    هذا بالنسبة للكفَّار الأصليِّين، أما أهل الرِّدَّة الذين يتردَّدون ويشكُّون بين اتِّباع المنافقين وتخذيل المسلمين في الجِهاد، فَهُم في هذه الحالة بين الإيمان والكُفْر، وهم أقربُ إلى الكُفْر؛ كما قال تعالى: ﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [آل عمران: 167]، وهو ما استدلَّ به شيخُ الإسلام ابنُ تيمية على أنَّه يجوز أن يكونَ المرء بيْن الكفر والإيمان، فهؤلاء لَمَّا انسحَبوا عن الساحة، واتَّبَعوا المنافقين بالفِعْل، وعَصَوْا رسولَ الله، استَحكَم عليهم الكُفرُ، فصاروا بذلك منافقين، وقد أنزل الله في شأنهم: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾ [النساء: 88].

    واعلم أنَّ أسباب الشك كثيرة؛ منها ما يلي:
    1- فَقْد البصيرة، أو عمَى القلوب؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقال تعالى: ﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [الجاثية: 20].
    2- البَطَر بالنِّعم العاجلة الفانية، وعدم التبصُّر في العواقب الوخيمة يومَ القيامة؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 8].
    3- ظُلْم النفس، والافتتان بزخارف الحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 35، 36].
    4- أن يَكْبُر عليه الخروج عمَّا كان عليه؛ قال تعالى: ﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الشورى: 13].
    5- التمادي في الباطل، والتكبُّر عن الرُّجوع إلى الحق؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
    وقد أشَرْنا فيما سبق إلى أنَّ اليقين يُتناوَل في الأصول الإيمانية كُلِّها، كما يُتناوَل في التوحيد، ونُريد هنا أن نُلقيَ الضوء على هذه المسألة؛ لتتضحَ لنا الصورة أكثر.

    فعلى سبيل المثال: لَمَّا قال الله تعالى في أول سورة البقرة: ﴿ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4] تجد أنَّ الله ذَكَر في سورة البقرة أربعَ حالات للإنسان: يُميته الله، ثم يُحييه؛ لترسيخِ هذه الحقيقة في قلوبنا، وحالتين للحيوان: يُميته، ثم يُحييه.

    أما الحالة الأولى: وهي قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56].
    والحالة الثانية: قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73].
    والحالة الثالثة: قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ... ﴾ الآية [البقرة: 243].
    والحالة الرابعة: قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ [البقرة: 259].

    أما حالتا الحيوان:
    فأُولاها: الحِمار الذي كان مع هذا الرجل الذي مَرَّ على القرية، فقال ما قال.
    وثانيها: الطيور الأربعة التي قصَّ الله لنا في قِصَّة إماتتها، ثم أَمر خليله أن يَدْعُوهنَّ، فإذا هُنَّ يأتِينه سعيًا.

    وهناك سُوَر أخرى فيها إماتةٌ وإحياء، كقصة أصحاب الكهف وكلْبهم، وإن كان رُقودهم هذا يكاد أن يُشبه الموت، بل كذلك تجد في سورة آل عمران والمائدة أنَّ عبدًا مِن عباد الله؛ وهو عيسى عليه السلام، يُحْيِي الأموات، بل يحيي الجمادات بإذن الله، فكيف ظنُّك بخَالق الأكوان كلها عزَّ وجلَّ، وللهِ الْمَثَلُ الأعلى.

    قال أحمد شوقي:
    أَخُوكَ عِيسَى دَعَا مَيْتًا فَقَامَ لَهُ ♦♦♦ وَأَنْتَ أَحْيَيْتَ أَجْيَالًا مِنَ الرِّمَمِ
    وهذا غايةٌ في الثناء والتبجيل للمصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، كما فيه تعظيمٌ لمعجزة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الكُبْرى بالحياة المعنوية العظيمة، التي صَنَعها بفِعْل الوحي والنور الذي أنزله الله إليه.

    وهذا كما قال كَعْب بن زُهَير:
    إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ♦♦♦ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
    فجَمَع في هذا البيت أنه شَبَّهه بنور يُستضاء به؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 46].

    وشبَّهه بسيف الله المسلول بقُوَّة مُضيِّه في دعوته، وهدايته للناس أجمعين، والله أعلم.

    وأيضًا تجد في سورة البقرة ثلاثةَ مواضعَ ذَكَر الله فيها التيقُّن بلِقاء الله عزَّ وجلَّ؛ ولنتدبَّرْ معًا في مناسباتها:
    الأولى: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 46]، إذا تدبَّرْت في هذه الآية مثلًا تجد أنَّ كل مَن لا يتيقن في لقاء ربِّه لا يمكن أن يخشعَ في صلاته، ولا أن يستعينَ بها، بل تجد أنَّها عليه ثقيلةٌ وكبيرة.

    الثانية: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223].

    فتجد مناسبةَ ذكر ملاقاة الرب في هذا الموضِع حسنًا؛ لأنه توجيه وتنبيه للترفُّع عن الانغماس في الشهوات، والتفنُّن فيها، ولِنتذكَّر لِقاءَ الله تعالى، ونُقدِّم لأنفسنا ما ننجو به مِن المواقف الحَرِجة يوم القيامة، والأنسَب مِن ذلك ما خَتَم الله به الآية، وهي تبشيرُ المؤمنين؛ لتناسبَ بلُطفٍ إباحةَ إتيانِ الحَرْث حيث نشاء، وبتقديم النفس للطاعات، وبملاقاة الربِّ لننعمَ في الآخرة كما ننعم في الدنيا، والله أعلم.

    ثم اعلم: أنَّ اتِّباع الشهوات مع إضاعة الصلوات والعبادات مُنحَنًى خطير، ومنزلق عظيم، وقد توعَّد اللهُ مَن يفعل ذلك بالويل والثُّبور؛ كما قال تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].

    الثالثة: قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].

    فتلاحظ في هذه الآية: أنَّ حُماةَ بَيْضة الإسلام ومقدَّساته هم فئةٌ قليلة، مُوقِنة بملاقاة الله، وهي التي تَغلب الفِئةَ الكثيرة بإذن الله، بما أيَّدها الله بصبْرِها ويقينها، وكامل إيمانها.

    وإذا تدبَّرتَ في هذه المواضع الثلاثة التي وردتْ فيها ملاقاة الرب، تجد أنَّها مِن أعظم ركائز هذا الدِّين الحنيف، فليُتأمَّل.

    والله أعلم.


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (4)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومَن تبعَه بإحسان، ومَن والاه:
    اعلَم أن كتاب الله العظيم مِن أعظم أصول الإيمان، التي يجب أن نؤمن به ونتيقَّن فيه، ولِمَ لا؛ وهذا الكتاب لا يخضع للاختلاف، ولا التعديل، ولا الشطب - كما أشرنا فيما سبق - إذ هو تنزيلٌ مِن حكيم حميد، ولا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه، وهو حبْل الله المتين، والسراج المنير، والنور الذي نهتدي به في ظلمات الدنيا والآخرة، وهو يَعلو ولا يُعلى عليه، وهو يهدي للَّتي هي أقوَم، وبالتي هي أسلَم وأصلَح، فيه نبأُ الأولين والآخرين، وفيه مِن العلوم ما لا يُبلغ غورُه؛ إذ أُنزل بعِلم اللهِ الذي يَعلم السرَّ في السماوات والأرض، وهو المعجِز الذي أعجَزَ الفُصحاء والبُلغاء مِن الجن والإنس؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وقد ابتدأ الله في سورة البقرة، أن ذلك الكتاب لا ريب فيه، وليس محلًّا للارتياب؛ إذ هو كما وصفناه لك في أعلاه، ومن القصص الطريفة في هذا العصر أن رجلًا أَهدَى ترجمةَ الكتابِ لرجلٍ إفرنجيٍّ، ولكنه لم يُبالِ بقراءته، وذات يوم وهو في مكانٍ فتَحَه، فإذا في أوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2]، قال الرجل: قد شدَّت انتباهي هذه الكلمة: ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾، فقلتُ في نفسي: ما هذا المؤلِّف الذي يثق بنفسه إلى هذه الدرجة، وقد تعوَّدنا أن نرى أن يقدِّم المؤلفون في صدر كُتبهم اعتذارات؟! قال: لما جذبتْني هذه الكلمة، حملتْني أن أقرأ الكتاب بإمعانٍ، فإذا هو حقٌّ، فأسلمتُ بسببه.

    واجب المؤمن في هذا الكتاب:
    1- أن يؤمن بكل ما جاء فيه ويُطيع؛ سواء عرَف الحكمة في ذلك أم لم يَعرف، وسواء يراها مكلِّفةً أم لا؛ قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 284]، إلى قوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].

    لَمَّا نزلت ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284]، عظُم ذلك على الصحابة، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجَثَوْا على رُكَبهم، فقالوا: أُنزل إلينا مِن القرآن ما نطيق، وأتانا ما لا نطيق، أنزل إلينا قاصمة الظَّهْر، فقال لهم: ((مَه))؛ (أي: ماذا تريدون؟)، فقالوا: أنزل الله إلينا هذه الآية: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، فقال لهم: ((أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمعْنا وأطعْنا))، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وأخذوا يردِّدون: سمعنا وأطعنا، فلما ذلت بها ألسنتُهم، أنزل الله: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285]، إلى قوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].
    2- أن يؤمن بالكتب التي قبله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ﴾ [الشورى: 15][1].

    3- أن يَحْذَر مما يُروَّج في هذه الآونة الأخيرة مِن تقارب الأديان، حيث يَسْعَون لإصدار جميع الكُتب بما فيه المصحف في غلاف واحد[2].
    وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أن هؤلاء صلَّوا صلاةً جماعيَّة بما فيهم المنتسبون إلى الإسلام في إيطاليا، وهو أول حدث مرَّ في التاريخ، كما قال الشيخ.

    4- أن يؤمن بالمتشابهات التي وردتْ فيه، لا أن يتتبَّعها لقصْد الفتنة؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7].

    5- أن يزداد به إيمانًا بكل ما ورد فيه، والتي منها الأمور الغيبيَّة التي يَعجَز الكافر أن يتصوَّرها؛ كعدد زبانية جهنم، وكالشجرة الملعونة في القرآن، وكالأمور التي يَقذِفها الشيطان في قراءة الأنبياء.

    6- أن يزداد به الإيمان؛ كالتدبُّر في آياته كلها، وَجِلًا مخبتًا لله، أما المنافقون، فيزدادون رجسًا إلى رجسهم، وجهلًا على جهلهم.

    7- أن يحذر من هجرِهِ، والهجر خمسة أنواع:

    أ- ترك التحاكم إليه.
    ب- ترك التشفِّي به.
    ج- ترك تعلُّمه، وطلب الهدى والرحمة منه.
    د- ترك التعبُّد به، وطلب الأجر والمثوبة منه.
    هـ- ترك العمل به بصورة عامة.

    8- ومِن صُوَر إعجازه، وأنه يَهدي للتي هي أقوَم: ما ظهر في هذه الأيام مِن خسارة الرِّبا، ومحْق بَرَكَتها؛ حتى تعجَّبتْ دُولُ الكفر مِن عدم تأثير الأزمة الماليَّة الدوليَّة على البنوك الإسلاميَّة، فأسَّسوا كُلِّيَّات جديدة يُدرس فيها الاقتصاد الإسلامي، كما يسمونها في لغتهم "islamic financial" يَعني "الاقتصاد الإسلامي".

    وهذا بالطبع قَطرةٌ مِن بحر علوم القرآن[3]،التي لا يمكن أن يُدانيَه إنسانٌ بحُكْم عقله مهما تكلَّف؛ إذ هو تنزيل من حكيم حميد، وخالق السماوات والأرض، وقد قال تعال: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

    أسباب التيقُّن في أن هذا الكتاب ليس من عند محمد رسول الله:
    1- أنه أمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].
    2- أمانته، وصدقه، وكرمه؛ إذ ما كان يَترُك الكذبَ على الخلْق، ويكذب على الله.
    3- أنه مصدِّق لما في كتب الأولين؛ ولذلك يتكرَّر لتأكيد هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ ﴾ [هود: 49].
    4- أنه يَعْلمه علماءُ بني إسرائيل؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 197].
    5- شهادة علماء بني إسرائيل؛ قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 10].
    6- أن يحدِّث الرسولُ صلى الله عليه وسلم بكل ما أُنزل إليه بما فيه العتابُ الموجَّهُ إليه، كما في سورة (عبس)، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزاب: 37].
    7- أنه جاء بالحق الذي لا مِرْيَةَ فيه؛ إذ يأمر بكلِّ صُوَر العدل والإحسان، والبِرِّ والصِّلَة والعفاف، وترْك البغْي والفحشاء والظلم، وعبادة الله الواحد الأحد؛ قال تعالى: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُون ﴾ [الرعد: 1].

    خصائص القرآن الكريم خاصة والكتب المنزلة عامة:
    1- المهيمن؛ قال تعالى: ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
    2- السماحة، ووضع الأغلال؛ قال تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
    3- وَفْرة العلوم؛ لأن الله أنزله خاتمًا للكتب إلى يوم القيامة، وهذا معروف.
    4- التيسير ورفْع الحرَج؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وفي "صحيح البخاري"، ((بُعثتُ بالحنيفيَّة السَّمحَة)).
    5- يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيمٍ، وهذا الوصف يَشمَل جميع الكُتب المنزَّلة؛ قال تعالى: ﴿ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 30]، قال ابن كثير: العِلم النافع والعمل الصالح.
    6- تمَّتْ كلماتُه بالصدق والعدالة، وأيضًا هذا الوصف يشمل جميع الكتب المنزَّلة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.
    7- مصدِّقًا لما بين يديه، وهذا الوصف يشمل الكتب الأخيرة، وكل هذه الكتب تصدِّق بالتي قبْلها.
    8- فُرقانٌ بيْن الحق والباطل، وهذا يشمل أيضًا الكتب كلها؛ كما قال تعالى في التوراة: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأنبياء: 48].
    9- وضوح المعاني، وجزالة الألفاظ؛ لذلك تراه مِن كثرة بيانه يُؤَثِّر حتى على الأعاجم، فضلًا عن العرب، والواقع خيرُ شاهدٍ على ذلك، ولعلَّ قوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 185] إشارة إلى قولي هذا، ففي هذه الآية هدايتان كما ترى، هدى للناس عام؛ عربًا وعجمًا، وربما بتأثيره المعْجِز والله أعلم، وبيِّنات مِن الهدى، وهذا للعارفين بمعانيه.

    علج من علوج (أبو غريب) يَبكي مِن سماع القرآن:
    وقد روى أحمد منصور مراسل الجزيرة في الفلوجة أيام حصارها رواية خُلاصتُها: أن الأمريكان عندما قبضوا على الصحفي في قناة الجزيرة صهيب الباز، وأودَعوه في سجن (أبو غريب)، وبينما هو في جنباته يقرأ القرآن، ويتغنَّى به، إذ سمعه علجٌ مِن علوجها، وهو مِن كبار محقِّقيها، وقال له: سمعتُك أمس تردِّد بعضَ الترانيم، والأناشيد بصوت جميل، وأريد أن أسمعها منك مرةً أخرى، فقال له صهيب: هذه ليست أناشيد ولا ترانيم، ولكنه القرآن الكريم، صمَت المحقِّق طويلًا، ثم قال له بتعجُّب: هل هذا هو القرآن؟ قال صهيب: نعم، فقال له المحقِّق: هل يمكن أن تتلو عليَّ منه مرةً أخرى؟ يقول صهيب: فأخذتُ أتلو عليه بصوتي بعضًا مِن آيات القرآن، وبعد قليل بدأ يتأثَّر، ثم بكى رغم أنه لا يَعرف اللغة العربية، فتوقَّفتُ حينما رأيتُه يبكي، فأشار ألا أتوقَّف، فأكملتُ ثم بعد قليل توقَّفتُ، وتوقف هو عن البكاء، ثم قال لي: لماذا أنتَ هنا؟ فرويتُ له قصتي، فقال لي: سأحاول جاهدًا أن أخرجكَ من هنا، لكن هذا الأمر سيستغرق مني بعض الوقت، وإلى أن يحين هذا سوف آتيك كل يوم؛ لتقرأ لي شيئًا من القرآن، وبالفعل تردَّد هذا المحقِّق عليَّ عِدَّة مرَّات، وفي كل مرة كان يتكرَّر المشهد، ويبكي الرجل ثم يذهب، وفي يوم جاءني وقال: سوف تخرج؛ لقد نجحتُ في تسوية ملفك، وكان هذا بعد سبعة وسبعين يومًا قضيتُها في معتقل (أبو غريب)، وبالفعل خرجتُ مِن المعتقل[4].

    وقد قال الوليد بن المغيرة فيه كلامه المعروف: إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإن أسفله لَمُغْدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه!

    10- هدى ورحمة للمتقين، بل واطمئنان وسكينة، وكل هذه الكلمات أدِلَّتُها معروفة مُشتهرة، والله أعلم.

    [1] اعلَم أنه يجب علينا أن نؤمن بكُتب الله المنزلة مجملًا، أما مِن حيث التفصيلُ فيما يخصُّ الذي بأيدي أهل الكتاب المحرَّف، فهو كالتالي:
    1- نؤمن بكل ما جاء فيه مما يُوافق كتابنا.
    2- لا نؤمن بكل ما جاء فيه يُخالف جامع عقيدة الرُّسل؛ أي: التوحيد.
    3- لا نؤمن بما تحقَّقْنا تحريفَه مِن الشرع المطهَّر في هذه الكتب؛ كإسقاط الرَّجم، والقصاص، ونحو ذلك.
    4- ما عدا ذلك نتوقَّف فيه؛ كالقصص، ونحوها.
    [2] انظر: "الإبطال في نظرية الخلْط بين دين الإسلام وسائر الأديان"؛ لبكر أبي زيد، ومن ذلك أيضًا تقريبهم بين السُّنَّة والشيعة، وقد علمنا أنهم يَسبُّون أبا بكر، وابنتَه عائشة، وعمر، ويخوِّنون جبريل... إلى آخر ضلالاتهم، والله المستعان.

    [3] انظر: "معركة الفلوجة، هزيمة أمريكا في العراق"؛ لأحمد منصور، ج1، ص (83).

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (5)

    عبدالفتاح آدم المقدشي


    بسم الله، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

    اعلم أن القضاء والقدَر لا يستقيم أن نؤمن بهما إلا بالإيمان الجازم، كما هو الحال في الأمور الإيمانية كلها، وانظر على سبيل المثال إلى الإحسان الذي هو أعلى مراتب الإيمان؛ فإنه لا يدَع شيئًا من الأمور التعبُّدية إلا ويطُوله، بل يُلابسه بقَدْر إيمان العبد وإخلاصه؛ إذ معنى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    وانظر أيضًا - يا رعاك الله - كيف أن عبادة الصيام مثلًا لا يمكن أن تؤدِّيها إلا وأنت تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ لأنك قد تختفي في مكانٍ ما لتأكل أو لتشرب ولا يراك أحد من الناس؛ ولذلك ورَد في "صحيح البخاري": ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنْبه))، وفي رواية: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم مِن ذنْبه)).

    ولكن بعض الناس - هداهم الله - يَعْمَل العباداتِ كأنها عاداتٌ بلا إيمانٍ ولا احتسابٍ، وهذا شائع في المجتمعات - للأسف - بكثرة.

    فالإيمان بالقضاء والقدَر يُقوِّم سلوكَ المرء وأخلاقَه، فيجعله يلتزم حسَن الأخلاق كالصبر وحُسن المعاملة مع الآخرين، والتواضع وترْك الكبر والفخر على الناس، والشُّكر لله وحده في حال السرَّاء والضرَّاء، والشجاعة بحيث يعتقد المؤمن أنه لن تموت نفسٌ إلا بإذن الله، لذلك حقَّق المسلمون الانتصارات العظيمة بسبب قوَّة إيمانهم وتيقُّنهم في القضاء والقدَر، حتى كانت جيوشُ المسلمين تَقتَحم نهرَ الفرات بفرسانهم ويقولون: قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145]، حتى كانوا يَسيرون على ظهر النهر وكأنهم يَسيرون على الأرض[1].

    ومِن ذلك أيضًا السخاء؛ بحيث يَعتقد المؤمنُ فيما يُنفِقه أن الله سيُخلِف عليه، بل كان منهم مَن ينفق كلَّ أمواله لِقُوَّةِ توكُّله ووثوقه بالله، ولقد أرسل معاوية رضِي الله عنه إلى عائشة رضِي الله عنها مائة ألف درهم فقسَّمتها في ساعتها، حتى قالت لها جاريتُها: لو أبقيتِ لنفسكِ درهمًا واحدًا لأعمل لك إفطارًا - وكانت صائمة - فقالت: لو قلتِها لي لفعلتُ، وهي قصة مشهورة في السِّيَر.

    ففي "صحيح مسلم": عن أبي يحيي صهيب بن سنان رضِي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عجبًا لأمْر المؤمنِ؛ إنَّ أمْره كله له خيْر، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إنْ أصابَتْه سرَّاء شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاء صبَر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.

    أمَّا الكافر فتجده إذا أصابَتْه ضرَّاء يُكثِر اللوم والقلَق والتبرُّم من المعيشة، وقد ينتحر، وقد يخدع نفسه بالمخدِّرات، وقد يحمله ذلك على ارتكاب جرائم فظيعة... إلخ، وإذا أصابَتْه سرَّاء بطِر وعاثَ في الأرض فسادًا.

    بينما تجد المؤمن إذا أصابَتْه ضرَّاء صابرًا، رحب الصدر، منشرِح البال، أوَّابًا إلى ربه، راضيًا، شاكرًا لربِّه في كلِّ أحواله، وإن أصابَتْه سرَّاء أيًّا كانت شكَر، وتجده يُدخِل أمواله في المشاريع الخيرية، وبما يعود له وللمجتمع من الخير العظيم.

    وهكذا يُقوِّم الإيمانُ بالقضاء والقدَرِ قوَّةَ تعلُّقِك بالله وبأمور توحيدك وعقيدتك؛ كحُسن التوكُّل والاستعانة بالله، وقوَّة رجائك بالله وحده، وخوفك منه وحده، بل يزيد الإيمان ويقوِّيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11].

    قال علقمة: هو الرجل تُصِيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى.


    وعن أنس رضِي الله عنه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((
    إذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أَمسَك عنه بذنبه حتى يُوافَى به يوم القيامة)) [2].


    وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إ
    نَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رَضِي فله الرضا، ومَن سخط فله السخط))[3]؛ حسَّنه الترمذي.

    وكل ذلك يحمل المؤمنَ على أن يرضى بقضاء ربه، ويزيده إيمانًا، ويهدى قلبَه، ويريحه من متاعب القلق، ويبلغه درجة اليقين الجازمة؛ حتى يعتقد في قرارة قلبه أن ما أصابه لم يكن لِيُخْطئه، وما أخطأه لم يكن لِيُصيبه[4].


    ولا جرَم أن تجد المؤمنَ في هذه الحياة في غاية الانسجام والطمأنينة والوقار؛ لأنه لا يفرح بطرًا بملء فيه لِخيرٍ وَجَدَه، كما لا يحزن لشيء فاتَه، وقد قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22- 23].

    وهكذا كانت طبيعة الصحابة في الحروب؛ إذ قال الشاعر:
    لَا يَفرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا

    كيف يتعامل المرء مع المقدور؟
    1- الاستِسلام مع الرضا في السرَّاء والضرَّاء، وهو ما يُنجيك مِن متاعب القلق والتبرُّم والجنون.
    2- شكر الله في كلِّ الأحوال، لا سيما عند المصيبة؛ فإن الله يرزقك بيتًا في الجَنَّة يُقال له: بيت الحمد.
    3- أن تفرح بما يرزقك الله لك إذا صبرتَ مِن الأجر بدون حساب؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
    4- أن تقول عند المصيبة: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فيرزقك الله الصلوات والرحمة والهداية؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156- 157].

    مَّا يُمنَع عنه المؤمن أن يتعامل به مع المقدور:
    1- الندم على ما فات، بل عليه أن يقول كما وَرَدَ في الحديث: ((قدَّر اللهُ وما شاء فعَل))، فإن النادم الذي يقول: كان ينبغي كذا وكذا، هو كالمعترِض على أمر ربه، بل هو هلاكٌ محقَّق.
    2- أن يظن أن الذي يُدبِّر أمورَه غيرُ الله، بل الله وحده هو مُدبِّر الأمور وله الأمر كله؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54].
    3- أن يظنَّ أن الأسباب هي الفاعلُ الوحيد في شفائه أو نجاحه أو غير ذلك، فينسَى مُسبِّبَ الأسباب.
    4- أن يترك التوكُّلَ على الله وحده، وخوفه ورجاءه وحده، والاستعانة به وحده؛ فيضعف بذلك توحيده وإيمانه بالقضاء والقدَر، خيرِه وشرِّه، حلوِه ومُرِّه.

    ثم لا يمكن أن نَفِيَ هذا الموضوعَ "القضاء والقدَر" بهذه العجالة، ولكني أحببتُ أن أنقل لكم سؤالًا طرَحَه بعض الإخوة وإجابتي عليه؛ لئلَّا يَشيع هذا الجهل والوسواس في الناس ويتحيَّروا فيه.

    قال السائل: إذا قدَّر الله لنا أن نفعل هذا، فلماذا نُحاسَب على شيء قدَّره اللهُ علينا؟ واحتجاج آدم وموسى عليهما السلام:‏ قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((حاجَّ موسى آدم عليهما السلام؛ فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ الناسَ بذنْبك مِن الجَنَّة وأشقيتَهم، قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمرٍ قد كتَبَه الله عليَّ قبل أن يخلقني، أو قدَّره عليَّ قبل أن يخلقني))، الرجاء توضيح هذه المسألة.

    قلتُ: هذا السؤال قد سأله بعضُ الصحابة للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن بغير هذه الطريقة، فأجابهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اعمَلوا، فكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِق له))، وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 84].

    وقال تعالى ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 4- 10].

    إذًا؛ هذا هو التيسير، فإذا قلت مثلًا: لماذا لم يوفِّقِ اللهُ فلانًا لكذا وكذا، قلنا: قال الله تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107]، وكأنك تعقب حُكْمَ اللهِ في عباده، وقد قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [الرعد: 41].

    فإنْ ظننتَ أن هذا ظلم قلتُ لك: بل هو عدل، والظلم التصرُّف بغير ملْكِك، وكلُّ مَن تصرَّف في ملْكِه غيرُ ظالمٍ، والله سبحانه وتعالى حرَّم على نفسه الظلمَ، فكيف يَظلم وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44]، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا))؟! وسنبيِّن لك قريبًا بتوضيح أكثر.

    فقدَر اللهِ على أربعة أقسام:
    1- كتابته في اللوح المحفوظ.
    2- عِلمه سبحانه وتعالى بما كان، وما سيكون، وما لم يكُن لو كان كيف يكُون، ولذلك قال الله عن أهل النار: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28].
    3- خلْقه سبحانه وتعالى.
    4- إرادته: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكُن، وسبحانه أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، أو يشاء فلا يكُون.

    فهذه الأمور الأربعة المجتمِعَة تقع على مقدور الله، وكلها أيضًا متضمِّنة العدل والحكمة، والحسْن والجمال، بتناسُق تامٍّ، كما تتناسب صفاتُه الْمُثْلَى وأسماؤه الحُسْنَى، ولا ينفي ما علِمَه اللهُ مسبقًا وأراده وكتَبَه إذا أوجده أن تتضمَّن ما وصفتُه لك آنفًا، ولَمَّا لَعَنَ وغضب الله على إبليس عَلِمَهُ وأرادَه وكتَبَه وأوجَدَه، وهكذا لَمَّا عصى آدمُ وأكَل الشجرة فتاب إلى الله وقَبِل توبته، وأهبط إبليس وآدم وحوَّاء من الجَنَّة.

    والإرادة قسمان: كونية، وشرعية؛ فالإرادة الكونية لا تستلزم رضا الله ومحبَّته؛ لذلك لا يرضى عن الكفر؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7].

    أمَّا الإرادة الشرعية فيلزم منها الرضا والمحبَّة؛ فيُجازي اللهُ بالرضا والمحبة المؤمنَ البالغَ المستطيعَ العاقلَ إذا عَمِل بالشرع، كما لا يحاسب اللهُ مَن وُلد كافرًا ومات صغيرًا أو فَقَدَ عقلَه قبل سِنِّ الرشد، والله يتولَّى أمرهم، والعِلم عند الله.

    لذلك؛ يجب أن تفهم أيضًا أن الله أَرسَل لك رسولًا، وأنزل إليك كتابًا، وركَّب فيك هذا العقل، وأعطاك الاختيار؛ لعدالته، وليقطع حجَّتك أمامه سبحانه؛ فكيف تقتحم على المعاصي ثم تريد أن تفلت مِن عدالة الله؟!

    واللهِ، هذا هو الظلم والجهل بعينه، أضِف إلى ذلك أنك لا تقول: أَجْلِس في بيتي لأنتظر ما كتَبَه الله لي مِن الرزق، بل تجرِي وتركض لتُحصِّل أرزاقك، فكيف فعلتَ هذا بمقدور الرزق، ولم تفعله بمقدور العبادة؟! ثم كيف علِمتَ أن الله قد كتب عليك الحرام والكفر إلا أنك تحتجُّ بالباطل والدَّجَل والكذب كما كان أهل الجاهلية يحتجُّون بمثل هذه الحجج الواهية؛ قال تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنعام: 148- 149]، وفي سورة النحل آية بمثل هذا المعنى.

    أمَّا احتجاجُك بالحديث الذي فيه: ((فَحَجَّ آدمُ موسى))، فهو يتحدَّث عن أمرٍ قد مضى وولَّى؛ لذلك لا يجوز لأحدٍ أن يعتب على أحدٍ بذنبٍ قد مضى وتاب منه، فإنِ احتجَّ المعتاب عليه بالقدَر، فهو حجيجُه كما يُفهَم من الحديث، ولكن لا يُفهَم منه أبدًا الاحتجاج على الاستمرار في ارتكاب الذنوب، أو إرادة ارتكاب الذنوب في المستقبل، والله أعلم.

    ============================== ===========

    [1] والقصة رواها خليفة بن خيَّاط في "تاريخه".
    [2] الترمذي: الزهد (2396)، وابن ماجه: الفتن (4031).
    [3] الترمذي: الزهد (2396).
    [4] هذه الجملة جاء معناها في أثرٍ رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه وغيرهم، ولفظ أبي داود موقوف على عبادة بن الصامت: "يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكُن ليخطئك، وما أخطأك لم يكُن ليصيبك"، ورواية أحمد في "المسند" مرفوعة إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.


  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (6)

    عبدالفتاح آدم المقدشي



    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المُرْسلين وآلِه وصَحْبِه وأتْباعِه إلى يوم الدِّين.

    اعلمْ أنَّ الرُّسُل عليْهم السَّلام هُمُ الوُسطاء بين الله وخلْقه في تبليغ رسالة التَّوحيد والشَّرائع الإلهيَّة، وليْسُوا وُسَطاء في جلْب المنافع ولا في دفْع المضارِّ، فمَن اعتَقَد فيهم ذلك فقد أبْعَدَ النجْعة، وأغرق في النزع، واتَّخذهم أربابًا مِن دون الله، وقد نَهى الله عن ذلك في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 97].

    وأيضًا قال الله تعالى في حقِّ نبيِّنا: ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ﴾[الجن: 21].

    فالتَّوحيد والشَّرائع الإسلاميَّة نورٌ يُهتَدى بهما في الظُّلمات، كما أنَّهما يُبَدِّدانِ ظلماتِ الباطل كالشَّمس المشرقة الَّتي تُبَدِّد ظلماتِ اللَّيلِ المنتشر في الآفاق، وقد قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

    فشرط الله لِهداية النَّاس اتِّباع رضوان الله كما ترى، كما جعَل اللهُ النَّتيجةَ والثِّمارَ الخروجَ مِن الظلماتِ والحيرةِ إلى النُّور والاطمئنان، مع الاهتِداء إلى الصراط المستقيم الَّذي مَن سلكه سعِد عاجلًا وآجِلًا في الدُّنيا والآخرة.

    وقال تعالى في حقِّ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم ممتنًّا عليه: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [والضحى: 7]، وقد قال تعالى موضِّحًا ذلك في آيةٍ أُخرى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وأيضًا قال تعالى: ﴿ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ [سبأ: 50].

    فالله سبحانه وتعالى يُشَبِّهُ نورَ الحقِّ بالحياة كما يُشبِّه الباطلَ بالموت؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].

    والغريبُ في الأمر أنَّ بعض النَّاس يقولون مثلًا: لمَّا كانت أوربَّا في عصور الظلمات، والصَّحيح هو أن يُقال: أوربا الَّتي تعيش في الظُّلمات، أو: أوربَّا الَّتي كانتْ في عصور الظُّلمات ولا زالت، وممَّا يوضِّح لك هذا أنَّها كانت تقول مِن قريبٍ: إنَّ الإنسانَ أصْلُه مِن قِرْدٍ، حتَّى رَوَّجوا هذه النظريَّة أكثر ممَّا يلزم، وتبنَّوها، بل وتخصَّصَ بها بعضُهم في الجامعات، وأَخَذوا بها الشِّهادات العالية، ثمَّ لمَّا اكتُشف عِلْم الوراثة الحديث، أو ما يُعْرف بالجينات، أو dna عَلِموا مِن خلالِها أنَّ البشريَّة كلَّها مِن شخصٍ واحدٍ، وهو أبونا آدم عليْه السَّلام[1].

    ولكنَّهم ما زالوا يَتَخَبَّطون في العلوم، ويُخطئون بسبَب بُعْدِهم عن التَّعاليم السماويَّة وباعتِمادهم على العلوم البشريَّة المحدودة والمبنيَّة بالتجارب، وإنْ كان اللهُ قد يُريهم مِن خِلال هذه التكْنولوجيا الحديثة آياتِه في الآفاق وفي أنفُسهم، ولكن قلَّ مَن يَهتدي منهم إلى الصراط المستقيم، والله المستعان.

    ولقد كان عُقلاءُ البشَر لا يُنْكِرون الله ولا رسلَه ولا تعاليمه وشرائعه، ولكنَّه الطُّغْيانُ والحسَد كما كان حال اليهود ولا يزالون، وكما كان حال فرْعون لعَنَه الله، قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14].

    وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102].

    واجبُنا تجاه الرسل:
    1- أنْ نؤمن بهم جميعًا، فمَن كفَر أو تعدَّى في حق نبيٍّ فقد تعدَّى في حقهم كلِّهم؛ قال تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].
    2- أنْ نؤمن بما جاؤوا به مِن الحقِّ، ما عدا ما حرَّفتْه البشريَّة.
    3- أنْ نؤمن بأنَّهم يَتفاضلون، وأنَّ أفضلَهم نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ أُولو العزْم مِن الرُّسل؛ وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمَّد؛ والدَّليل على أنَّ الرُّسل يَتفاضَلون هو قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: 253].
    4- أن نؤمن بأنَّ الله سُبحانه وتعالى أَرْسَلَهم لهداية النَّاس، وإخراجِهم مِن الظلمات إلى النور، وكان النَّاس مِن لدُن آدم عليْه السَّلام إلى عشرة قرون على التَّوحيد، ثمَّ بعد ذلك تحوَّلوا إلى الشِّرْك وعبادة الأوثان، فأرسل الله إليهم نوحًا عليْه السَّلام، وكان أوَّلَ رسولٍ أرسله الله إلى النَّاس أجمعين.
    5- أنْ نقتدي بهم في توْحيدهم وأخلاقِهم وسيرتِهم الحسَنة؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].

    هناك أوجُهُ تشابُهٍ بيْن الرُّسل، وهو ما يدلُّ على أنَّهم خرجوا مِن مشكاةٍ واحدة، كما يلي:
    1- وحدة المهمَّة، وهي هداية النَّاس وإخراجهم مِن الظُّلمات إلى النور بالتَّوحيد والإيمان.
    2- الدَّعوة إلى الله بالصَّبر والصَّفح لمن كان عددُه قليلًا، والدَّعوة إلى الله مع الجهاد لِمَن كان عددُهم غفيرًا، كموسى عليه السلام، ونبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي جعل الله أمَّته خير أمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاس.
    3- حُسْن الأخلاق، لا سيَّما الصَّبر والسَّماحة، والسخاء والشَّجاعة، والعفاف، والبرِّ والصِّلة والإحسان، والعدالة والرَّحْمة للخلْق... إلخ.
    4- الحكمة وحُسْن إدارة الخلْق بالسياسة الشَّرعية؛ كما في الحديث: ((كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهُمُ الأنبياءُ)).
    5- التأييد بالمعجزات، وكان لكلِّ نبيٍّ معجزة تُبيِّن صِدْقه ليهتديَ به النَّاس، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لَم يجعل معجزات الأنبِياء وحدها سببًا للإيمان بهم، بل ذكر هناك أسبابًا أُخرى كثيرة للتعرُّف بصِدْق الرُّسُل، وذلك كصِدْقِهم قبْل الرِّسالة وبَعْد الرِّسالة، وكأن يتَّبعهم الضعفاءُ والفقراءُ والعبيدُ، وأن لا يَغْدروا، وغير ذلك من الأخلاق الطيِّبة، واستدلَّ على ذلك بما بَحَثَهُ هرقل عند أبي سفيان وقاله في هذا المقام، حتَّى أَسهَب الشَّيخُ في شرْح هذه القصَّة وأسرارِها في كتابه "العقيدة الأصفهانيَّة"، ومَن شاء فليرجع إليها.
    6- الزُّهد والإقبال على الآخرة، حتَّى اتَّصف بذلك مَن كان منهم ملِكًا كسُليمان، وداود عليهما السلام، بل وما كان لهذا المُلك في قلبِهما نصيبٌ ولا تأثير؛ إذ كانا مشغولَين بعبادة الله آناءَ اللَّيل وأطراف النَّهار؛ شكرًا لله، واعترافًا له بنعمِه؛ قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقال تعالى في حقِّ سليمان: ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، وقال الله عنْهما ذاكرًا ما منَّ عليهما مِن العِلْم والشُّكر: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 15].

    بل لقد كان داود عليه السَّلام لا يأكل إلَّا مِن عمَل يدِه، مع أنَّه كان ملِكًا، فهل مِن زُهْدٍ أشدَّ مِن هذا؟!

    بالإضافة إلى ذلك كان صيامه عليه السَّلام أفضل الصِّيام؛ إذ كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا، وقيامه أفضل قيامٍ؛ إذْ كان ينام في أوَّله ويقوم في ثُلُثِه وينام في سدسه، كما وردَت بذلك الأحاديث.

    والله أعلم.
    ============================

    [1] انظر كتاب: "عِلْم الوراثة يؤكِّد أنَّ آدم وحواء مِن الجنَّة إلى إفريقيا".




  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (7)

    عبدالفتاح آدم المقدشي


    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسَلين، وآله وصَحْبه وأتباعه إلى يوم الدِّين.


    اعلمْ أنَّ الملائكة أجسامٌ نورانيَّة، مخلوقةٌ لِمَا أراد الله لهم مِن أعمالِ ملكوت السماوات والأرض، ولِيعبدوه بعبادةٍ غيرِ منقطعةٍ، ويُطيعوه بطاعةٍ لا يَشوبها عِصيان، كما خلَقَها اللهُ أيضًا للقيام بأعمال العباد في الدنيا والآخرة.

    فعن عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((خُلِقتِ الملائكةُ مِن نور، وخُلِق الجانُّ مِن مارج مِن نار، وخُلِق آدمُ ممَّا وُصِف لكم))؛ أي: مِن طين؛ رواه مسلم.

    أمَّا خِلقتهم مِن حيثُ الأشكال، فنعلم منها أنَّ لها أجنحةً متفاوتة في العَدد، تَسْبَح بها في ملكوت السماوات والأرض بقُدرة الله وبمشيئته، كما وردَ في القرآن؛ قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴾ [النازعات: 3].

    وأيضًا قد وَرد في السُّنَّة: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم رأى جبريلَ وله سِتُّمائة أجنحة قد سَدَّ الأفق.

    وهذا ما يدلُّ على القوَّة العظيمة التي خَلَقها اللهُ في هؤلاء الملائكة، كما تدلُّ على عظمة خَلْق الله وملكوته في هذه الأكوان العظيمة؛ ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83].

    وأيضًا قد وَرد في السُّنَّة أنَّها تَحضُر بمجالس الذِّكر والإيمان؛ لتستمعَ إليه، وأنها تتشكَّل وتتمثَّل بصُوَر الناس، كما قال تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17].
    وهكذا كان جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بصُورةِ دِحْيَةَ بنِ خليفة الكلبي.

    وأيضًا قد جاء جبريل عليه السلام إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بصُورة رجلٍ شديدِ بياضِ الثِّياب، شديد سواد الشعر - كما في حديث جبريل.

    وأيضًا كانتِ الملائكة تُشارِك في الحروب وهي لابسةٌ لباسًا أبيض، وسمعها أحدُ الصحابة وهم يقولون: أقْدِمْ حيزوم، وهو اسم مَلَك.

    فمِن المعلوم: أنَّ الإيمان بالملائكة مِن الإيمان بالغَيْب، ولكنَّنا قد نحسُّ بآثارها؛ لِيرتفعَ إيمانُنا إلى أعلى درجات اليقين، كنصرها لِعِباد الله في ميادين الجِهاد، وكتحيَّتها بعضَ أولياء الله كعمران بن حصين في مرَضِه، فلمَّا برأ انقطع عنه السلام، والقِصَّة في صحيح البخاري.

    واعلَم أيضًا أنَّ هذا الإحساسَ ممَّا يُقوِّي فِطرةَ الله في وجودِه وتدبيره في خَلْقه، خالق السماوات والأرض، وخالق كل شيء.

    ومِن ذلك أيضًا: إحساسُنا بوجود الجِنِّ، كَتَلَبُّسِه بالإنسيِّ، ونُطقِه على لسانه وهو يرانا مِن حيث لا نراه، ولكنَّ الله يراه مِن حيث لا يراه، ولذلك يَكفينا أن نستعيذَ بالله مِن شَرِّه.

    وهكذا تقوم الملائكةُ بتحيَّة الطيِّبين مِن المؤمنين عندَ قبض أرواحهم، كما يُبشِّرونهم بالجَنَّة؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].

    ومِن الأدلَّة التي تدلُّ على إمكانية وقوع رؤية آثار الملائكة: قوله تعالى في كتابه العزيز في قصَّة موسى وأصحابه: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 95، 96]؛ أي: مِن أثَرِ جبريل.

    وأيضًا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو لحسَّان بن ثابت لدِفاعه عن هذا الدِّين بلسانه بقوله بأبي هو وأمِّي: ((اللهمَّ أَيِّدْهُ برُوح القدُس)).

    اعلمْ أنَّ أفضلَ الملائكة جبريلُ عليه السلام حيث مدَحَه اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في عِدَّة مواضعَ منه؛ قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [التكوير: 19، 21].

    وأيضًا ممَّا يدلُّ على فضْل جبريل عليه السلام عليهم: أنَّه كان يُبلِّغ كلامَ الله لسائر الملائكة، كما ثَبَت في صحيح البخاري: ((إنَّ الله إذا أحبَّ فلانًا نادَى جبريل، فقال له: إنِّي أحببتُ فلانًا فأَحِبَّه، فيُحِبُّه جبريل، ثم يُنادي جبريلُ في السماء: إنَّ الله أَحبَّ فلانًا فأَحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضَع له القَبول في الأرض)).

    وأيضًا كان جبريل عليه السلام مِن رسل الملائكة، كما جعَل اللهُ للإنس والجنِّ رسلًا مِن بني آدم؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [الحج: 75].

    ثم يَلِيه في الفضْلِ: ميكائيلُ، الموكَّل بالقَطْر من السماء، ثم إسرافيل، الموكَّل بنَفْخ الصُّور، قال الشيخ صالح الفوزان في كتابه "صفات الملائكة": "هؤلاء الملائكة الثلاثة موكَّلون بالحياة: فجبريلُ موكَّلٌ بالوحي الذي به حياةُ القلوب، وميكائيلُ موكَّلٌ بالقَطْر الذي به حياةُ الأرض بعدَ موتها، وإسرافيلُ موكَّلٌ بالنفْخ في الصُّور الذي به حياةُ الأجساد؛ ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في الاستفتاح إذا قام مِن اللَّيْل بعد أن يُكبِّر تكبيرةَ الإحرام: ((اللهمَّ ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماوات والأرض...)) إلخ الدعاء.

    وهنا سؤالٌ يَطْرَح نفسَه، وهو: أيُّهما أفضل يا ترى، محمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أم جبريل؟
    الجواب: نجد هذا الجوابَ في القرآن، وهو قوله تعالى: ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الصافات: 164].

    فنبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم جاوَز مقامًا توقَّف عنه جبريل، معتذرًا بقوله: ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الصافات: 164] حتى وَصَل إلى سِدرة المنتهى، التي كان يغْشاها ألوانٌ لا يَعلمها إلا الله، وهذا دليلٌ على ارتفاع درجة نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم على درجة جبريل عليه السلام والله أعلم.

    وأيضًا هناك سؤال آخَرُ يَطْرَح نفسَه، وهو: هل جِنسُ المؤمنين أفضلُ مِن جنْس الملائكة، أو العكس صحيح؟
    الجواب: جنْس المؤمنين أفضلُ مِن جنْس الملائكة؛ للأدلَّة الآتية:
    أولًا: بيَّن اللهُ في كتابه العزيز أنَّ خير ما خَلَقه اللهُ هم المؤمنون[1]؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ﴾ [البينة: 7]؛ وذلك لأنَّ الله ابتلَى المؤمنين بترْك الشهوات، مع شدَّة تمكُّنِهم واشتياقِهم إليها، فيَصبرون ويُخلِصون لله العبادةَ، بينما الملائكة مجبولون ومسخَّرون للعبادة، ولترْك الشهوات؛ ولذلك صارتْ درجةُ المؤمنين أعظمَ وأكبرَ بقدْر ما بَذَلوا مِن الجهْد العظيم، والمثابرة في سبيل الله، مع مراقبتِهم الله، وعبادتهم حقَّ عبادته، كأنَّهم يَرَون اللهَ، فإنْ لم يكُونوا يَرونَه فقدْ راقبوه وتيقَّنوا أنَّه جلَّ جلالُه يراهم، والله أعلم.

    ولَقدْ أَثْنَى اللهُ على عبدِه يحيى بأنه حَصُور، وهو مَن منع نفسَه مِن الانجرار إلى الشهوات، مع القُدرة عليها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].

    وأثْنَى اللهُ على يوسف عليه السلام بالامتناع عن الشَّهوة المحرَّمة لله، مع أنه كان شابًّا غريبًا، مأسُورًا في غرفة امرأةٍ جميلةٍ؛ قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24].

    ثانيًا: أَمَر اللهُ للملائكةَ بالسُّجود لآدم؛ إظهارًا لفضْله عليهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

    ثالثًا: تعليم اللهِ آدمَ عليه السلام عِلمًا لم يَعلِّمه الملائكةَ؛ إظهارًا لفضْله عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31].

    رابعًا: جَعْله آدمَ - وذريَّته - خليفةً في الأرْض، كيف ذلك؟!؛ لقوله تعالى: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

    واجبنا تجاه الملائكة:
    1- الإيمان بهم إيمانًا يقينيًّا جازمًا؛ لأنَّ الإيمان بالملائكة رُكْنٌ مِن أركان الإيمان، فمَن أَنكَرهم، أو استهزأ بهم، أو سبَّهم، أو نَسب إليهم الخيانة - فقدْ كَفَر، وقد ذَكَر الله لنا في كتابه العزيز مِرارًا أنَّهم أُمَنَاء، وأنهم كِرامٌ بَرَرَة.

    2- أنْ نحبَّهم، ولا نُعاديَهم ولا نَشْتُمهم، فكيف لا نحبُّ الملائكة وهي تحبُّنا هذا الحبَّ الكبيرَ، وتدعو لنا بهذه الأدعية العظيمة، مع توسُّلِها بأسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى؛ لننجو مِن عذاب الجحيم، والخزي الرهيب في يومٍ أعظمُ فائزٍ فيه - على الإطلاق - مَن يُزحزَح عن النار؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].

    وقد قال تعالى حاكيًا عن دعائهم لنا: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7 - 9].

    فمَن صار عدوًّا لهؤلاء الملائكة الكِرام البَرَرة، فقد كفر أولًا، ثم صار عدوًّا لله كاليهود مثلًا، أو كالرافضة الذين اتَّهَموا جبريل بخِيانة الرسالة - والعياذ بالله - قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 98].

    وقد ختم اللهُ الآيةَ بقوله ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾، وهذا أيضًا دليلٌ على كُفْر مَن يُعاديهم - كما أسلفْنا.

    3- أن نستحيي منهم أن نفعل أمامَهم المحرَّمات، حتى لقد عَدَّ بعضُ العلماءِ مِن آداب الجماع التستُّر؛ أي: أن يُوضع لحاف فوقَ الأجسام؛ استحياءً مِن الملائكة، فكيف بمَن يُجاهرهم بالحرام؟!

    وكان سيِّدنا عثمانُ رضي الله عنه حَيِيًّا، حتى كان لا يَغتسل قائمًا مُنتصبًا، بل كان يَغتسل راكعًا، فاستحيتْ منه الملائكة، واستحَى منه أيضًا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنِ امتنع عن كشْف فخذه أمامَه، بينما كان لا يفعل مِثل ذلك مع أبي بكر وعمر، والقصة في ذلك مشهورة، والجزاء مِن جنس العمل.

    4- أنْ نجتهدَ في استخدام الروائح الطيِّبة، خصوصًا عندَ العبادات؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يَفعل ذلك، ولأنَّ الملائكة تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدم.

    وهكذا الملائكة تَدعو لِمَن جلَس في المسجد متوضِّئًا بعدَ الصلاة، تقول: "اللهمَّ اغفر له، اللهمَّ ارحمه ما لم يُحْدِث" - كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.

    5- ألَّا نطلب منهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا وسيلة.

    6- ألَّا نصفَهم بما لم يَصِفْهم اللهُ ورسلُه، كما وَصَفَهم المشرِكون بأنَّهم بناتُ الله - والعياذ بالله.

    حكمة إرسال الرسل من جنس البشرية:
    1- مِن ذلك: أنَّ بَني آدمَ لا يُطيقون رؤيةَ الملائكة، ولا تلقِّي الرسالة عن طريقهم.

    ولقد احتجَّ الكفَّار بهذه الحُجَّة في مختلف عصورهم؛ ليصدُّوا عن سبيل الله، ولئلَّا يَحُولَ أحدٌ بينهم وبيْن شهواتهم مِن حبِّ الرِّئاسة والشَّرَف، والمال وملذَّات هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك قاوموا ضدَّ الرُّسل بالجهْل المحض، والتعصُّب والحسَد، والكِبْر؛ كما قال تعالى حكايةً عن جهْل فرعون: ﴿ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 53].

    وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 7]، قال تعالى مجيبًا عن شُبْهَتِهم في سورة الإسراء: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 95].

    وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 8، 9].

    2- يريد اللهُ أنْ نتأسَّى بالأنبياء، ولو كانتِ الرسل مِن جنس الملائكة ما استطعْنا الاقتداءَ بهم، ولاعتذَرَ المتعذِّرون بأنَّه مَلَك.

    3- ما أَرسلَ اللهُ رسولًا إلَّا بلسان قومِه، وذي النَّسب فيهم، ومَن اتَّصَف بأحسَن الأخلاق منهم، وانظر على سبيل المثال إلى قوم ثمود، وما قالوا لنبيِّهم صالح؛ قال تعالى: ﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 62]، وهذا يَدُلُّ على أنَّ صالحًا عليه السلام كان مِن أرجح الرِّجال عندهم، وأرجاهم للخير، حتى قبْل أنْ يَنهاهم عن الشِّرْك والظلم - كما ترى.

    4- ألَّا يَغْلوَ الناسُ في رُسل الملائكة، ويَعتقدوا فيهم الإلهيَّة كما غلَت النصارى في المسيح وأمِّه، وردَّ اللهُ عليهم بأنَّهم كانوا يأكلون الطعام؛ أي: كان يَخرج منهم فضلات - أكرمكم الله - والمعنى: هل مَن كان حاله كذلك يستحقُّ أن يكُون إلهًا؟! والجواب واضح، وهو كلَّا وألف كلَّا، قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المائدة: 75].

    أنواع الملائكة وأسماؤهم ووظائفهم:
    1- منهم الرسل كجبريل عليه السلام.
    2- منهم ملائكة تُسمَّى "الكروبيُّون"، وهم أقوى الملائكة؛ إذ هم حمَلة العَرَش الذي هو أعظمُ مخلوقٍ على الإطلاق، وعددُهم أربعة، وإذا جاء يومُ القيامة سيكُون عددُهم ثمانية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 17].
    3- منهم ميكائيل، وهو موكَّل بالمطر.
    4- منهم مَلَكُ الموت، الموكَّل بقبض الأرواح، وله أعوان، كما يدلُّ على ذلك قولُه تعالى: ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61].
    5- منهم إسرافيل، الموكَّل بالنفخ في الصُّور.
    6- منهم رقيب وعتيد، الموكَّلان بتسجيل الأعمال، فالذي على اليمين يُسجِّل الأعمالَ الصالحة، والذي على الشِّمال يُسجِّل الأعمال السيِّئة.
    7- منهم منكر ونكير، الموكَّلان بفِتنة المقبورين وامتحانهم، فالإنسان معروضٌ للفتن فوقَ الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، فمَن صَدَق ونَجَح في الدنيا، فما بقِيَ فهو أَيسرُ بمشيئة الله، إلَّا في حالات الأهوال - أعاننا الله عليها.
    ومِن أفضل ما يُستعان به في كشْف الكُربات في هذه المواقف: إدخالُ السرور، وكشْف الكربات عن المكروبين والمعسورين؛ كما في الحديث: ((مَن نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً، نفَّس اللهُ عنه كربةً مِن كُرَب يوم القيامة))، وكما قال الله عزَّ وجلَّ لرجلٍ مِن بني إسرائيل كان يَتجاوز عن المعْسِرين: ((نحن أحقُّ منك بالكَرم))؛ رواه مسلم بألفاظٍ متعدِّدة.
    8- منهم الحفَظة، الذين يَحفَظون بني آدم مِن كلِّ الشرور.
    9- منهم ملائكة موكَّلة بالجِبال والبِحار... إلخ.
    10- منهم مالِكٌ خازنُ النار، كما جاء اسمُه هذا مصرَّحًا في القرآن، ومنهم أيضًا الزبانية، وعددهم تسعةَ عشرَ، وهو ما يدلُّ على شدَّة قوَّة الملائكة واقتدارهم -كما أسلفْنا.
    11- منهم ملائكةٌ سيَّاحون في الأرض، ويَحْضُرون مجالسَ الذِّكْر، وقد حَدَث مع أُسَيْد بن حُضَير، حين كان يقرأ بالليل، فرأى مِثل الظُّلَّةِ فيها أمثالُ السُّرُج عَرجَتْ في الجوِّ، فقال له الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تلك الملائكةُ كانتْ تسمع لك))؛ رواه الشيخان، واللفظ لمسلم.
    12- منهم ملائكةٌ تتعاقب فينا عندَ صلاة الصبح والعصر، وَيرفعون أعمالَنا، فليحذرْ كلُّ امرئٍ أنْ يُرفع له عملُ سوء وهو نائِم أو مشغول بالدنيا والتجارة عندَ حضور هذه الصلوات، وهما أفضلُ الصلوات على الإطلاق، حتى اختلف العلماء في أيهما يُطلق عليها الصلاة الوُسْطى، كما ناقش ذلك بإسهابٍ الإمامُ أبو عمر بن عبد البَرِّ في "التمهيد".
    14- منهم ملائكةٌ يجاهدون مع المجاهدين، ويُثبِّتونهم ويَنصرونهم؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12].
    15- منهم ملائكةٌ موكَّلة بالجنين في بطن أمِّه، كما جاء ذلك في حديث ابن مسعود المشهور.
    16- منهم ملائكة عددُهم سبعون ألفًا تَحْضُر البيتَ المعمور؛ لتعبدَ ربَّها، ثم لا تعُود إليه أبدًا، وذلك كلَّ يوم، وأيضًا مِن كثرة عَدَدِهم لا يوجد في السَّماء قَدْرُ شبرٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ لربِّه، كما وردتْ بذلك الأحاديث.

    والله سبحانه وتعالى أعْلى وأعلم.
    ---------------------------------

    [1] انظر: "أضواء البيان" في تفسير هذه الآية.




  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (8)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسَلين، وآله وصحْبه وأتْباعه إلى يوم الدِّين.

    اعلم أن الاستقامة لا تُنال إلا بالإيمان الكامل الجازم المصاحَب باليقين القاطع، ولذلك لمَّا سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ ُيخبره بأمرٍ يتشبَّث به ولا يسأل بَعْدَه أحدًا، قال له: ((قل: آمنتُ بالله، ثم اسْتَقِم)).

    فبدأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله، كما ترى.

    وهكذا بدأ اللهُ بالإيمان قبل الاستقامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]؛ أي: قالوها مؤمنين به، وعاملين بما يقتضي التوحيد، وليس كما تُردِّد الصوفيَّة كلمة "الله الله" بدون العمل بما يقتضي التوحيد.

    وقال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 5، 6].

    فقدَّم اللهُ قبْل طلبِ الاستقامة على الصراط المستقيم بعبادة الله وحدَه، والاستعانة به وحدَه في كلِّ الأمور، فمَن حقَّق هذين الشرطين، فهو المهتدي على الصراط المستقيم حقًّا كما أراده الله منَّا.

    فالذين لا يُطبِّقون شرْع اللهِ خرجوا مِن جملة المهْتدِين على الصراط المستقيم مثلًا؛ لأن مفهوم العبادة ليست محصورة بأداء أركان الإسلام الخمسة فحسب كما يتوهَّمه كثيرٌ مِن الناس، بل العبادة تشمل المعاملات، والسياسة الشرعيَّة الإسلاميَّة، والسلم والحرب، والإعلام والتعليم، والإحسان إلى الخَلْق، والصِّلة والبِرَّ والعدل... إلخ، بل العبادة أيضًا تشمل أمور حياتنا العاديَّة كلِّها: مِن الأكل والشرب والنوم والجِماع لمن نوى الأجر واحتسب؛ قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "وأَحتَسِب نومتي، كما أحتَسِب قومتي".

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجِماع: ((وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ))، وذلك لمن نوى الاستعفاف والحَصانة.

    وقد يحصِّل المرءُ مِن لعب الكرة أجرًا إنْ نوى في ذلك تَدَرُّبًا للجهاد، مع الالتزام بالحِشمة والأدب، والله أعلم.

    وهكذا يكُون حال الذين لا يُخلصون العبادة لله وحدَه، ولا يَستعينون بالله وحدَه، ولا يَتوسَّلون إلى الله بالطُّرق المشروعة مِن جملة الذين خرجوا عن الاهتداء إلى الصراط المستقيم، كما هو ظاهر في سياق الآية.

    حتى كان شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله يَذكر مع هذه الآية قوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]؛ لأن الأُولى: عبادة مع الاستعانة بالله وحدَه، والثانية: عبادة مع التوكُّل على الله وحدَه.

    وأرى أنَّ القاسم المشترَك بينهما: هو قوة التيقُّن بإفراد الله بالعبادة وحدَه؛ فلا يمكن لفاقد اليقين أن يكون موحِّدًا، ولا عابدًا لله وحدَه حقَّ العبادة، ولا مُستعينًا بالله وحدَه، ولا متوكِّلًا على الله وحدَه، كما لا يمكن أن يهتدي على الصراط المستقيم؛ لِشدَّة ارتيابه، وعدم وثوقه بالله وحدَه جلَّ جلاله.

    قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 109، 110].

    قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي: شكًّا ونفاقًا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقًا في قلوبهم، كما أُشرب عابدو العِجْل حُبَّه، وقوله: ﴿ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي: بموتهم. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسُّدي، وحبيب بن أبي ثابت، والضحَّاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: بأعمال خلقه، ﴿ حَكِيْمٌ ﴾ في مجازاتهم عنها من خيرٍ وشرٍّ.

    وقال القرطبي رحمه الله: قال سفيان: إلا أن يتوبوا، وقال عِكْرمة: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرؤونها: (ريبة في قلوبهم ولو تقطَّعت قلوبهم)، وقرأ الحسن، ويعقوب، وأبو حاتم: (إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ) على الغاية؛ أي: لا يزالون في شكٍّ منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيَّنوا.

    وسبب نزول هذه الآيات: هو أن قومًا مِن المنافقين بَنَوْا مسجدًا للضِّرار، وليُفرِّقوا جموعَ المسلمين، وليُخطِّطوا من خلاله شرورهم ومؤامراتهم، فأَعْلَمَ اللهُ نبيَّه بحقيقة هذا المسجد، وبنواياهم الخبيثة، فأمر بهدمه، فاستراح المسلمون مِن كيدهم، وعاقب الله الظالمين بالشكِّ أو الريبة والنفاق الدائمَيْن؛ حتى تتقطَّع قلوبهم بالموت إلى يوم القيامة.

    وهكذا سيكُون عقابُ كلِّ مَن يُريد بالمسلمين كيدًا لتفريقهم، ولتقطيع أوصالهم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وقد قال تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62]، وقال تعالى: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58].

    ومن خلال قراءة هذه الآيات، وأقوال العلماء، يتبيَّن لك الفرق الشاسع بين مَن أسَّس بُنيانه على أساسٍ مِن التقوى واليقين ورضوانٍ مِن الله، ومَن أسَّس بُنيانه على شفا جُرُف هارٍ فانهار به في نار جهنم، مع ما يتمتع الأوَّلون بالطمأنينة والسكينة والسعادة في الدارَيْن، ويُعاني الآخرون الريبة والقلق والكآبة إلى أن تتقطَّع قلوبهم بالموت، ويستيقنوا ويتبيَّنوا الحقيقة هناك غدًا يوم القيامة ما كان ينتظرهم مِن العذاب الأليم بأعيُنٍ حِدادٍ، ولاتَ حينَ مناص.

    إذا فلا تعجب أيها القارئ الكريم إذا كرَّس بعضُ العلماء فيما جاء في هذه الآية العظيمة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فألَّفوا لأجلها كتابًا مكوَّنًا مِن مجلَّدين، وهو "مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين"؛ حتى قالوا: جمَع علومَ الأوَّلين بالقرآن، وجمَع علوم القرآن بالفاتحة، وجمع علوم الفاتحة بقوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].

    ولذلك؛ تُلاحظ أن الإيمان يتقدَّم على كلِّ شيءٍ، حتى الجهاد في سبيل الله؛ إذ هو الأساس في كل الأمور التعبُّدية الظاهرة والباطنة، وفي جميع الأحوال، وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ [الحديد: 19]، فقدَّم اللهُ هنا الصديقين على الشهداء كما ترى، كما قدَّم في سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].

    وقد يجمع بعضُ المؤمنين بين الصفتين، كما يقتضي ذلك إيمانهم، فتكون درجاتهم متفاوتةً على قدْر إيمانهم، والله أعلم.

    وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 10، 11]، وقد قدَّم اللهُ أيضًا هنا الإيمان على الجهاد كما ترى.

    وهكذا حرَّض اللهُ المؤمنين على الجهاد والقتال في سبيل الله بشرط أن يشروا الحياة الدنيا بالآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [النساء: 74]؛ لأن الذي في قلبه طمَعٌ للدنيا لا يمكن أنْ يُقاتل كما ينبغي؛ حتى كان سببَ هزيمة غزوة "أُحد" إرادةُ بعضِ الناسِ الدنيا: كجمْع الأموال ونحو ذلك، فأنزل الله: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وكان للصحابة رضي الله عنهم في ذلك درسٌ لم ينسَوه بعدها أبدًا.

    وهذه الإرادة هي التي تُزَعْزِع الإيمانَ واليقين في القلوب؛ حتى تمكَّن الشيطانُ منهم بأن زلزل أقدامَهم بما كسبوا، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ [آل عمران: 155].

    وأيضًا بسبب هذه الإرادة الضعيفة في الدنيا، تجعل الإيمانَ واليقين يتزعزع، إلى درجةِ أنَّ النفس الأمَّارة بالسوء التي بين جَنْبَيِ المرءِ تتمكَّن مِن صاحبِها بأنْ تُوقعه فيما لا يُحمد عُقباه، والله المستعان.

    وقد كان نبيٌّ مِن الأنبياء إذا أراد أنْ يَغزو الكفارَ، يقول: لا يتبعني مَن نَكح ولم يَبْنِ بَعد، ولا مَن بَنَى بيتًا ولم يكمله بعد... إلخ؛ وذلك لأن نفسيَّة مثلِ هؤلاء مِن الناس ستكُون مشوَّشةً، إلا مَن رَحِم الله، وجعَل إيمانه ويقينه غالبًا منصورًا ومؤيَّدًا مِن قِبَل الله، وقليلٌ ما هُم.

    والله أعلم.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (9)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه، ومَن تَبِعَهُ بإحسان إلى يوم الدِّين.
    أما بعد:
    فاعلَم أنَّ مِن أَحسَنِ طُرُق الاستقامة حفظَ اللهِ في أوامره ونواهِيه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 32، 33].

    ولذلك نقول: لن يكُون المؤمنُ ذا قلبٍ منيبٍ حتى يَخشَى الرحمنَ بالغيب، ولن يَخشَى الرحمنَ بالغيب إلا وصار حفيظًا، ولن يكُون حفيظًا حتى يكُون أوَّابًا، ولذلك أَثنَى اللهُ على عبدِه خليلِ الرحمنِ بهذه الصفة، وقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، وأَثنَى اللهُ على عبادِه المؤمنين العاقلين بأمْرِ ربِّهم بِوَجَلِ القلوب؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى في سورة الحج: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ [الحج: 34]، وقال تعالى في سورة هود: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [هود: 23]، أما الحمْقى والمغفَّلون مِن الكفَّار ومَن على شاكِلتِهم فسيقُولون يوم القيامة: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10].

    إذًا؛ تعلم مِن خلال دراستِك لهذه الآياتِ أنَّ أساسَ كلِّ الأعمال التعبُّديَّة الخضوعُ والخشوعُ لله جل جلاله، ولذلك لمَّا عدَّد اللهُ صفاتِ المؤمنين الذين يرثون الجَنَّة - الفِرْدَوْسَ الأعلى - بدأ بصِفة خُشُوعهم في الصلاة؛ وذلك لأن هذا الخشوع لُبُّ العبادة، وثمرتُها الحقيقية، فمَن ضيَّعها فهو لما سِواها أَضْيَعُ، ومَن حَفِظَها فهو لِمَا سِواها أَحفَظ، والله يحفظه ويرعاه، والجزاء مِن جنْس العمل[1].

    وقد خَتَم اللهُ بهذه الصِّفات في سورة "المؤمنون": ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [المؤمنون: 9]، فكما بدأ الله سبحانه في أول السورة بالخشوع فيها خَتَمَها بالمحافظة عليها، ولذلك فهُم يَستحقُّون بهذه الصفة العظيمة: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾ [ق: 32]، والقرآن يؤيِّد بعضُه بعضًا.

    وهكذا جاء في الحديث: ((احفَظ اللهَ يَحفَظك، احفَظ اللهَ تَجدْه تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله))؛ الحديث.

    فبدأ اللهُ بحفْظه؛ أي: حفْظ أوامِرِه ونواهِيهِ، وأوَّلها تحقيقُ التوحيد والإيمان، وعبادة الله حقَّ العبادة؛ لأن هذا مِن لوازم الإيمان التي يَستحقُّ المرءُ أنْ يَحفَظه اللهُ، ويُدافع عنه، ويَكْفيه بها عن كلِّ شرٍّ، بل الله يتولَّاه ويحبُّه وينصره، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج: 38]، وقال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَك َ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الزمر: 36]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [فصلت: 30، 31]، وفي الحديث: ((ولا يَزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمَع به، وبَصَرَه الذي يُبْصر به، ويَدَه التي يَبْطش بها، ورجْلَه التي يَمْشي عليها، ولئن استَعاذَني لأُعيذنَّه، ولئن سألني لأُعطينَّه)).

    وفي رواية: ((فإنْ أتاني يمشي، أتيتُه هرولةً))، وكلُّ هذا يدلُّ على شدَّة تأييد الله، ونُصْرتِه لعباده المؤمنين المتَّقين، مع شدَّة استجابتِه لهم بهذه السرعة المذهلة كما ترى.

    وفي الحديث: ((مَن آذى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب))، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].

    ثم قال: ((إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستَعِنْ بالله))؛ لأنه لا يمكن أن يكون عبدًا حفيظًا عابدًا ربَّه حق العبادة إلا بالإنابة إلى الله وحدَه كما أسلفنا، ولا يمكن أن يكُون منيبًا إلى الله وحدَه إلا بتجريد التوحيد وبتصفيته مِن الشوائب بألا يَسأل إلا الله، وألا يَستعين إلا بالله؛ لِيَنال بذلك درجةَ اليقين الجازمة، وقد قَرَنَ اللهُ بين العبادة لله وحدَه حقَّ العبادة، وبين الاستعانة لله وحدَه في سورة الفاتحة، وقال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].

    ثم قال: ((واعلم أنَّ الأمَّة لو اجتمعَت كلها على أن يَنفعوك بشيءٍ، لم يَنفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لك، وإنْ اجتمعوا على أن يَضرُّوك بشيءٍ، لم يَضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُف)).

    وهذا القسم الأخير مِن الحديث يُعلِّمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما نحقِّق به تجريدَ التوحيد، ونُصفَّى به مِن الشوائب: كترْك المداهَنة على حساب دِينِنا رغبةً أو رهبةً مِن مخلوقٍ كائنًا مَن كان، ما دام أننا نعتقد في قرارة أنفُسنا أنه لا يمكن لأيِّ مخلوقٍ كائنًا مَن كان أنْ يَجْلبَ لنا نفعًا أَمْسَكَه الله عنا، ولا أنْ يُصيبنا أحدٌ بضُرٍّ قد كتَبَه اللهُ علينا، وقد رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحفُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، بل ولا يجوز أبدًا أنْ نَحْزَنَ على أمْرٍ فات، ولا نفرح بملء فِيْنَا لأمرٍ حاصلٍ؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ﴾ [الحديد: 22، 23].

    وقال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2].

    وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].

    واعلم أرشدني الله وإياك؛ أن كلَّ هذه الآيات الكريمات فيها ما يَكْفي لتقوية توكُّلِك على الله وحدَه حقَّ التوكُّل، وتقوية وُثُوقك بالله وحدَه حقَّ الوثوق، وتقوية استعانتِك بالله وحدَه حقَّ الاستعانة، وتقوية تعلُّقِك بالله وحدَه حقَّ التعلُّق في كلِّ صغيرة وكبيرة.

    وإن حلَّت بك مصيبةٌ وأخذْتَ بالأسباب المشروعة، فما عليكَ أيها العبدُ إلا بالاعتصام بحبل الله المتين بالتوحيد، وأنْ تستعين بالصبر لله؛ لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسِنون، كما قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 127، 128].

    وقد قال تعالى بعد ما بيَّن الله لنا بأنه لا يمكن لأحدٍ كائنًا مَن كان أنْ يَكْشف عنا ضرًّا مَسَّنا، ولا يردَّ لفضلٍ أراده الله لنا، في سورة "يونس" بأن نتبعَ ما جاء بالوحي ونصبر؛ حتى يَحْكُم الله وهو خير الحاكمين؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109].

    بل لا بد أن نَصبرَ الصبرَ الجميل الذي لا شِكاية معه، بحيث لا يمكن أن تكُون الاستعانة إلا على الله وحدَه، كما كان يصبر يعقوب عليه السلام، ويقول: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ويقول: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86].

    وقد أَمَرَنا اللهُ أن نستعين بالصبر والصلاة في موضعين في سورة البقرة: أولاهما: قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
    وثانيهما: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153].

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزعَ إلى الصلاة، وهو ما قد يَستدِلُّ به مَن يقول بصلاة الحاجة، وإنْ كانت هذه التسمية لم تَرِدْ في الشرْع فيما أعلم.

    والله أعلم.
    ============================== ======
    [1] ومِن صُوَر حِفظ العبد لربِّه، وحفظ الله له أن يحفظ اللهُ لِحافظِ القرآنِ دِماغَه مِن الخَرَف في آخر عُمره، كما هو مُشاهَد، ومِن ذلك أيضًا أن يحفظ اللهُ لِلعبدَ المطيع الحافظ لأوامر ربِّه أعضاءَه في آخر عُمره، حتى إنه يُروى أن أحد السلف وَثَبَ وثبةً كبيرة مِن السفينة فعاتَبَه قومُه، فقال: هذه الأعضاء حفظناها في الصِّغر، فحفظها الله لنا في الكِبر، ومِن ذلك أيضًا سترُ اللهِ لِعبدِه المؤمن الصادق، وتكفيره سيئاته في الدنيا والآخرة، حتى سأل أحدُ الصالحين ربَّه أن يُرِيَهُ قبول توبته في الرؤيا، فإذا هو يُقال له قبل قيامه مِن النوم: لقد أُجيبَ سؤالُك، وهذه بالطبع علاقة خاصَّة بين العبد الوليِّ لمولاه، وهذه بشارة عاجلة كبيرة، والخروج عن تحت المشيئة المعلَّقة، وسترٌ له مِن تعريض نفسه للتطهير في إقامة الحدِّ عليه في الدنيا، وتقوية لإيمانه، وهذا باعث له أيضًا في أن يستحي مِن الله مع هذا الفضل العظيم مِن ربِّه له... إلخ، وقد قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 156].

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (10)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه، ومَن تَبِعَه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
    أما بعد:
    فاعلَم أنَّ استقامتَك على الطريق المستقيم ليست مفروشة بورودٍ، بل أمامك مِحَنٌ وابتلاءات وفِتَنٌ؛ لِيَعْلم اللهُ بعِلمِ الظهورِ الصادقَ مِن الكاذب، والمؤمنَ مِن المنافق، ومَن الذين يَعبدون الله حقَّ عبادته مِن الذين ضعُف يقينُهم، وعَبدوا اللهَ على حرْف، فإنْ أصابَهم بخيرٍ اطمأنوا به، وإنْ أصابَهم بفتنةٍ انقلَبوا على وجوههم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].

    وإنْ كان اللهُ يحبُّ عباده وأولياءه، وينصُرهم ويؤيِّدهم كما أسلفنا، ولكن قد تقَع ابتلاءاتٌ لِحِكَمٍ الله يعلمها؛ كتَمْحِيص المؤمنين، وتمييز الخبيث مِن الطَّيِّب، وكالتأديب والتنبيه للأخطاء، وكتحذيرٍ أو رفعٍ مِن عقابٍ أعظم... إلخ.

    ثم اعلَم أنه لا يدلُّ ابتلاءُ اللهِ لِعبادِه المؤمنين - ولو توالتْ عليهم مِحَن الدنيا؛ مِن قتْل وأَسْر وتشريد لأجْل تمسُّكِهم بِدِينِهِم - إلَّا على محبَّتِه لهم؛ وذلك لِيَدفَعَهم بذلك عن عذاب الله الأكبر يوم القيامة[1]، أما الكفَّار ومَن شاكَلَهم، فسيُؤخِّر اللهُ لهم العذاب إلى يوم القيامة؛ لِيَجِدُوا هنالك جزاءهم الذي يَستحقونه، ولذلك قال تعالى بعدما تحدَّث عن المؤمنين الذين هاجروا وأُخرجوا مِن ديارهم، وأُوذوا في سبيل الله، وقاتلوا وقُتلوا: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران : 196، 197].

    وذلك لأن الدنيا لا تُساوي عندَ الله جناحَ بعوضة، وإنما العِبْرة في المآل يوم القيامة، ولذلك وردَت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تُعلِّم المؤمنين أنْ يَتَلَقَّنوا هذا الدرس، ويَصبروا كما صبَرَ الأوائل مِن الصالحين؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة : 214].

    بل اعلَمْ أنَّ الشيء الوحيد الذي يُظهِر صِدْقَ إيمانك هو الصبر على البأساء والضرَّاء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة : 177].

    بل أَخْبَرَ اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ مِن طبيعة المؤمنين ألَّا يَهِنُوا، ولا يَستَكِينوا لما أصابهم في سبيل الله، بل إنما همُّهم أنْ يَغفرَ اللهُ لهم ذنوبَهم، ويُدخلَهم الجَنَّةَ، وأن يَنصُر عباده في الدنيا ويَرفعَهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران : 146، 147].

    بل علَّق اللهُ سبحانه دخولَ الجَنَّة بالجهاد مع الصبر، أما مَن جاهدَ بلا صبرٍ، فيُخشى ألَّا يدخل بجهاده الخالي مِن الصبر الجَنَّةَ؛ لأنه قد يَنتَحرُ عند الجراحة الشديدة، وقد لا يَثبُت عند الأَسْر، ويختار الدُّنيا على الآخرة... إلخ؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران : 142].

    ثم لا بدَّ أنْ تعلم أنَّ كلَّ عباد الله المؤمنين معرَّضون لهذا الابتلاء والفتنة؛ كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت : 1، 2].

    بل كِلَا الخيرِ والشرِّ فتنةٌ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء : 35]، وقال: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ﴾ [الأعراف : 168].

    فالعِبْرة هي كيفيَّة تَعامُلِك بالخير الذي أَنْعَمَه اللهُ عليك، هل شَكرتَ الله شُكرًا يَنبُع مِن القلب، ويَبْعَث اللسانَ بالشكر، والجوارحَ بالعبادات مع ترْك السيِّئات؟ وكيف تَعامَلْتَ بالشرِّ؟ هل فَزِعْتَ ويَئِسْتَ مِن رحمة الله، وتماديتَ بالكفر والطغيان والعصيان؟ أو رجعتَ إلى الله راجيًا منيبًا صابرًا؟

    ومِن السُّنن المجتمعية أنْ يَبْتَلِي اللهُ أعظمَ عبادِه إيمانًا ويَقِينًا؛ كما جاء في الحديث عن ‏مُصعب بن سعد، ‏‏عن ‏‏أبيه، ‏قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: ((‏الأنبياءُ، ثمَ الأَمْثَل، فالأَمْثَل،‏ فيُبْتَلَى الرجُل على حسب دِينِه، فإِنْ كان دِينُه صُلْبًا، اشْتَدَّ بلاؤُه، وإنْ كان في دِينِه رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على حسب دِينِه، فما ‏ ‏يَبْرَحُ ‏ البلاءُ بالعبد؛ حتى يَتْرُكه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))، قال ‏أبو عيسى: ‏‏هذا ‏ ‏حديث حسَن صحيح، ‏‏وفي ‏‏الباب ‏عن ‏‏أبي هريرةَ، ‏‏وأُخْت ‏حُذيفة بن اليمان؛ ‏أنَّ النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏سُئِلَ: أَيُّ الناس أَشَد بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمْثَل فالأمْثل))؛ صحيح الترمذي.

    لذلك؛ كانت مِحَنُ الأنبياء أشدَّ مِن غيرهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجُلانِ منكم)) أو كما قال؛ أي: كانت الحُمَّى مُضاعَفةً عنده، بحيثُ تُعادِل الحُمَّى التي يُصاب بها - بأبي وأمي - بالحُمَّى التي تُصيب رجلين مِن الصحابة.

    وأيضًا في الحديث: ((إذا أَحبَّ اللهُ عبدًا، عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا كَرِهَ عبدًا، أخَّر له العقوبة في الآخرة؛ حتى يُوافي به))، أو كما قال.

    وقد ابتُلي الشيخان في الإسلام: الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، فَصَبرا لِلَّهِ، فكان في صبرهما لأجل الحق نجاةٌ عظيمة للمسلمين، ولأهل السُّنَّة والجماعة خاصَّة، حتى إن بعض العلماء في عصر شيخ الإسلام ابن تيميَّة أرسلوا إليه رسالة وهو في حبسه؛ نصَحُوه بالترفُّق للخصم؛ لِيخرُج مما هو فيه، فردَّ إليهم رسالة مختصرة مفيدة جامعة، يُذكِّرهم بحديث: ((عجبًا لأمْر المؤمنِ؛ إنَّ أمْره كله خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إنْ أصابتْه سرَّاء شكَر؛ فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْه ضرَّاء صبَر؛ فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.

    حتى إنه كان يقول: بِمَ يَنْقِم بي أعدائي؟! فإنَّ في قتلي شهادة، ونفْيي سياحة، وسجْني خلوة، وعِلْمي في صدري، وكان يَستَثمِر وقتَهُ في السجن بكتابة الرسائل، فلمَّا منعوه، بدأ يكتب بالفحم على الجدران، فلمَّا منعوه، وَجدَ مِن ذلك وَجْدًا شديدًا، ثم توفَّاه الله، فرحمه الله ورضيه الله وأرضاه، وكثَّر اللهُ مِن أمثاله في المسلمين.

    أقسام الابتلاء:
    1- الابتلاء لأجل تكفير السيئات ورَفْع الدرجات، لذنوبٍ قد اقتَرَفَها المرءُ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يُصيب المسلمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ حتى الشوكة يُشَاكُها، إلا رَفَعَه اللهُ بها درجة، وحَطَّ عنه بها خطيئة)).


    2- الابتلاء لأجل التأديب والتمحيص، وتصحيح المسار لجماعة معينة، ولِيتميَّز المنافق مِن المؤمن؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران : 141].

    3- الابتلاء بمصيبة عامَّة لأجْل ذنوبٍ منتشرة عامَّة؛ لأجْل التوبة والرجوع إلى الله؛ كما قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم : 41].

    4- الابتلاء لأجْل إظهار إيمانِ العبد وصبْرِه؛ كما قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت : 1، 2]، وقال تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [البقرة : 177]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة : 214].
    وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة : 155].

    5- الابتلاء بحمْل الأمانة: وهي التكاليف التي وضَعَها اللهُ على عاتق كلِّ إنسان وجِنٍّ، وهي التي لأجْلِها خَلَقَ الثَّقَلَين؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك : 2]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود : 7].
    وقال تعالى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان : 2].

    6- ابتلاء المسلمين بسَماع الأذى مِن المشركين، بل أنْ تأتي منهم فِتَنٌ، وهي مِن أعظمِ الفتن؛ قال تعالى: ﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ﴾ [آل عمران : 186]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال : 39].

    7- ابتلاء الناس بعضهم ببعضٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان : 20].
    ومن ذلك ابتلاء الغنيِّ بالفقير، والفقير بالغنيِّ، وابتلاء الزوجة بزوجها، أو العكس، وابتلاء الأب بالأبناء، أو العكس، أو ابتلاء الحكومة برعاياها، أو العكس، وهَلُمَّ جرًّا.

    علاج الابتلاء:
    1- وجوب التيقُّن بقدَر الله الذي لا مَفَرَّ منه.
    2- الصبر الجميل الذي لا شكاية معه.
    3- أن يتعلَّق بالله وَحْدَهُ في السِّرِّ والعَلَن، وفي السراء والضراء، وفي الرغبة والرهبة، ويفوِّض أمره إلى الله.
    4- أن يتذكَّر بيتَ الحمدِ الذي أَعَدَّه اللهُ لكلِّ صابرٍ حامدٍ لربِّه في كل الأحوال.
    5- أن يَرزُقه اللهُ الثبات وقوةَ العزيمة في الدِّين، وفي كل الأحوال؛ لأن في ذلك تربيةً وقوة للجأش؛ بسبب التوكُّل والثقة العظيمة بالله.
    6- أن يرزُقه الله - إذا قال عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون - الصَّلَوات والرحمة والهداية.



    [1] هذه الحقيقة ذهلَ عنها كثيرٌ مِن الناس؛ حيث يَقِيسُون الحقَّ بالنصر، فإذا فَقَدُوا وتوالتْ بهم المِحَن، انحرَفوا عن المنهج السوي، وبحثوا عن طُرق ملتوية، أو تمكين مؤقَّت كما يسمُّونه؛ لِيَستَعجِلوا بها النصر، وهيهات، وأنى لهم ذلك؟! بل بعَّدوا الشُّقَّة لأنفسهم في ذلك، وضلُّوا عن الطريق المستقيم،
    وقد قال تعالى: ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل : 30]، ولأنَّ الله اسْتَعْبدَنا بالحقِّ ولم يَستَعْبِدْنا بأن نعبده بالباطل، وانظر قوة الإيمان واليقين لِسَحَرة فرعون؛ حيث كانوا قبلَ قليلٍ يَحْلفون بعِزَّة فرعون، ولكن لما علموا الحق، لم يمنعهم شيءٌ ولو ماتوا لأجْله، وانظر قوة الإيمان واليقين للجنِّ الذين استمعوا لقراءة النبي كيف هرعوا في تقبُّله والدعوة إليه، وانظر أيضًا قوة الإيمان واليقين لأهل الأخدود؛ حيث اختاروا الحق والآخرة على أيِّ شيءٍ... نسأل الله السلامة والعافية، والثبات على طريقه الحقِّ حتى الممات.





  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (11)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه، ومَن تَبِعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

    أما بعد:
    فاعلم - أرشدك الله - أنَّ مِن ثِمار التوحيد والاستقامة، واليقين والابتلاء: التمكينَ في الأرض، ولا يمكن أنْ يفوزَ أحدٌ بالتمكين في الأرض، إلا إذا اتَّصف بهذه الصفات، وقد قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

    وسئل الشافعي رحمه الله: هل يُمكَّن قبل أن يُبتلى؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى، ولكن للأسف الشديد بعضُ الناس يحبُّون أنْ يأتي التمكين وهو محمول على طبقٍ مِن ذهبٍ مع هروبهم من السُّنَن الكونيَّة التي كتب الله على عباده، والتي لا يمكن أنْ تتحولَ أو تتبدَّلَ؛ كتمنِّيهم ألا يكون صراعٌ بين الحقِّ والباطل، وكاستعجال البعض النصرَ على الأعداء، مع قِلَّة التحمُّل للخسائر بالأنفس والأموال وهَلُمَّ جَرًّا، متناسين أو متجاهلين قول الله تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ ﴾ [البقرة: 217].

    إذ سرُّ التمكين لا يمكن أنْ يأتي إلا بعد تَفَهُّمِ هذه الآية والتي بعدها، مع العمل بما فيهما؛ إذ الأُولى تُخبر أنَّ الفتنة أشدُّ من القتل؛ كما قال تعالى في موضعٍ آخرَ في نفس السورة: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، ولا فتنة أشدُّ وأكبرُ من أن يُفتن المسلمون عن دِينِهم، ولذلك عَلَّمنا الله بأن ندعو: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 85، 86]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250].

    ولما طلب جد بن قيس - صاحبُ الجمل الأحمر، وهو المنافق الوحيد الذي تخلَّف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واختفى وراء جملِه وأخزاه الله - الرخصةَ عن الجهاد؛ لئلا يُفتن بنساء بني الأصفر، أخبَر الله أنَّ ما تركه مِن الجهاد والخير أعظم فتنة مما تخوَّفه، وهكذا أمرَنا الله أنْ نقاتلَ أعداءَ الله والدِّينِ الإسلامي؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلُّه لله، أما إذا كان نصف الدِّين قائمًا ومطبَّقًا، ونصفه الآخر تركناه لأجل الكفر؛ إرضاءً لهم، كما هو الحال اليوم، فلا تمكين ولا قرار ولا استقرار، وقد توعَّد الله مَن آمن ببعض الدِّين، وكفر بالبعض الآخر بالخِزي في الحياة الدنيا، وعذاب أكبر في يوم القيامة، وهكذا أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية التي بعدها أنَّ الذين يفعلون ذلك هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 85، 86]، وفي الحديث: ((يبيع دينَه بعَرَضٍ مِن الدنيا قليلٍ))، والسبب هو أنهم قالوا: آمنَّا، بأفواههم، ولم تؤمن قلوبُهم؛ أي: إنهم منافقون، فإذا كانوا مع المسلمين قالوا: آمنَّا، وإذا خَلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنَّما نحن مستهزئون، كما في آية سورة البقرة.

    فمثل هؤلاء هم الذين أراد الله لهم الفتنة، ومَن أراد الله لهم فتنة، فلن تملِك لهم مِن الله شيئًا؛ لأن الله لم يُردْ أن يطهِّرَ قلوبَهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ [المائدة: 41].

    ولمَّا ابتلانا الله باستمرارية تسلُّط الكفار بالمسلمين إلى يوم القيامة؛ حتى يردُّوهم عن دينهم، ولن يستطيعوا ذلك إلا نسبّيًا، أخبرنا اللهُ في الآية التي بعدها: أن نتمسَّك بثلاثة أمور؛ لنفوز برحمة الله، ونفلح في الدنيا والآخرة:
    الأولى: الإيمان المصاحِب للإخلاص واليقين، والمحبة والعلم، والقبول والانقياد، والصدق والاستقامة على الحقِّ، مع نَبْذِ ما سِواه مِن الأباطيل.

    الثاني: الهجرة مِن دار الكفر إلى دار الإسلام، ومِن دار الفِسْق والعهر، إلى دار العِفَّة والطُّهر، وإلى أرض العِزَّة والكرامة والحريَّة.

    الثالث: الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام؛ لذا فلا يمكن أنْ يقومَ الإسلام إلا بالجهاد؛ فهو لازمٌ مِن لوازم الإسلام والإيمان، فأينما وُجِد الجهاد فالإسلام والإيمان في قوة، وأينما فُقِد الجهاد فالإسلام والإيمان في ضَعف.

    فالمسلمون خيرُ أُمَّة أُخْرِجتْ للناس؛ فهم خيرُ الناس للناس على الإطلاق؛ لِما أنعم الله عليهم مِن صفات العدل والإحسان إلى الخَلْق، فهم يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، وخير ما يُؤْمَر به بالمعروف، ويُنْهَى به عن المنكر هو الجهاد في سبيل الله، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "الاستقامة".

    قال أبو هريرة: (تأتونهم تقودونهم بالسلاسل، ثم تُدخلونهم الجَنَّة).

    وما أكثر مَن أُتِي به بالسلاسل، وهو لا يَعرف عن سماحة الإسلام وحُسنه شيئًا، فعَلِمَ بذلك بحُكْم وجوده في أهل الإسلام، فأسلم فحَسُنَ إسلامه، كما حصل مثل ذلك لثمامة بن أثال، وغيرهم مِن المأسورين في عهد النبوة.

    بل لقد أمَرَنا الله أنْ نُطعمَ الأسير الطعام الذي نحبُّه؛ إكرامًا لهم، وجَلْبًا وتأليفًا لهم إلى الإسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].

    فسماحة الإسلام وعدالته وإحسانه هو ما شَهِد به الأعداءُ فلا نُطيل بتقرير مثل هذا الأمر.

    وأخيرًا: أُوصي إخواني المسلمين بما يلي:
    1- ألَّا يكون المسلمون حالهم كحال الكفَّار الذين جعل الله أعمالهَم: ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].

    2- ألَّا يَتَّخذوا مِن عند أنفسهم منهجًا معوجًّا غير منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والسلف الصالح، فإذا فعَلوا ذلك أخطؤوا طريقَ التمكين الصحيح، وستكثُر فيهم الاختلافات والانشقاقات، والفتن والاقتتال، والمِحن كما هو مشاهَد ومعلوم؛ ففي الحديث: ((افترقَت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقَت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترِق هذه الأمَّة ثلاثًا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة))، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: ((هي التي كانت ما أنا عليه وأصحابي))، وفي رواية: ((الجماعة))، وفسَّر ابن مسعود رضي الله عنه ((الجماعة)): ما وافقَ الحقَّ ولو كنتَ وحدَك، ولا عِبْرة في كثرة العدد والأغلبية.
    فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ ♦♦♦ وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

    3- أن يتمسَّكَ المسلمون بما أوصانا الله به؛ مِن الإيمان، والهجرة، والجهاد في كثير مِن السوَر؛ كسورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال و الحج والحشر.

    4- أن نكونَ أنصارًا ومهاجرين إلى الله، ثم اعلمْ أنه لا يجوز أبدًا التعصُّب بهذين الاسمين الشريفين المذكورين في القرآن، فكيف بما هو دُونهما؟! بل عندما قال أحد الشابَّين اللَّذَيْن اقتَتَلا: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، اعتبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى جاهليَّة، وقال: ((أَبِدَعْوَى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!)).

    والحمد لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ.



  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (12)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المرْسلين وآلِه وصحْبه ومَن تبِعه بإحسان إلى يوم الدِّين.

    أمَّا بعد:
    فاعلم - أيُّها الأخ الكريم، أرْشدني الله وإيَّاك - أنَّ الأنبياء ضَربوا أرْوع الأمثِلة في الابتِلاء، فمنهُم مَن ابتُلي بمرضٍ مُزمنٍ لازَمَه سبع سنوات فصبَر، كأيُّوب عليه السَّلام، ومنهم مَن ابتُلي بفقْد أوْلاده حتَّى عَمِي مِن شدَّة الحزْن، كيعقوب، ومنهم مَن ابتُلي بموْتِ أوْلاده وبناتِه في حياتِه، كنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام؛ إلَّا فاطمة رضِي الله عنْها الَّتي ماتتْ بعدَه بستَّة أشهُر، ومنهم مَن ابتُلي بالأمْر بذبْح ابنِه بعدما رزقه الله به وهو كبير في السِّنِّ، خصوصًا بعدما بلغ معه السَّعي والخِدمة؛ كما قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39].

    ومنهُم مَن ابتُلي بالفقْر كنبيِّنا، ولقد خُيِّر بين أن يَكون ملِكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا، ومنهم مَن ابتُلي بالقتْل والذَّبح كيحيى وزكريَّا، ومنهم منم ابتُلي بابتِلاع الحوت له وبالمرض، كيونس عليه السلام.
    ومنهُم مَن ابتُلي بعقوق ابنِه، كنوح عليه السَّلام، ومنهم مَن ابتُلي بعصْيان وخيانة أهلِه، كنوحٍ ولوطٍ عليهِما السَّلام، ومنهُم مَن ابتُلي بموت أخيه النَّبي، كموسى لمَّا مات هارون في حياتِه.

    وكذلك تعرَّضَت الأنبياءُ كلُّهم مِن قِبَل الكفَّار لتهديداتٍ بالغة في النِّكاية بهم، كالقتْل والرَّجم والنَّفي والطرْد... إلخ.

    ومنهُم مَن ابتُلي بالمُلْك والنِّعَم فشَكَر اللهَ، كداود وسليمان عليهما السَّلام.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بطول العناد والمكابَرة في دعوتِه، في ألفِ سنة إلَّا خَمسين عامًا، كنوح عليه السَّلام.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بامرأةٍ جميلة وهو غَريب مأْسور عندها، فصبَر لله وتَغلَّب على نزغات الشَّيطان والنَّفس الأمَّارة بالسُّوء، وهو يوسف عليه السَّلام، كما ابتلاه اللهُ بالسجْن وطول المكْث به، وابتلاه اللهُ بالعبوديَّة وخدمة النَّاس.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالجهاد كنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وموسى وداود عليهما الصلاة والسَّلام، بل قد أصابت نبيَّنا عليه الصَّلاة والسَّلام الجراحة المعروفة في سبيل الله في معركة أُحُد، واعلم أنَّه لَم يَحْدُث أنْ آتى اللهُ الملْك والحكمة والعِلم والنبوَّة لداود عليْه السَّلام إلَّا بعد ما قتل جالوت قائدَ الكفَّار في المعركة.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالخروج مِن الجَنَّة والهبوط إلى الدُّنيا دار الشَّقاء والابتلاء، كآدَم عليه السَّلام.
    ومنهُم مَن ابتلاه اللهُ بالسِّحْر والسُّمِّ، كنبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بالطُّغاة ومُناظرتِهم، فأنجاه اللهُ مِن شرِّهم، كموسى وإبراهيم.
    ومنهُم مَن ابتلاه اللهُ بإلْقائه بالحريق العظيم، فلَم يَسأل أحدًا إلَّا الله، وقال: (حسبُنا اللهُ ونعْم الوكيل)، فجعل كيد الكافرين هو الأسْفل والخاسر، وهكذا يحفظ اللهُ عبادَه الموحِّدين، ويُدافع عنهم.
    ومنهم مَن ابتَلاه اللهُ بفقْد الذُّرِّيَّة، فسأل الله أن لا يَدَعَه فردًا، كزكريَّا عليْه السَّلام.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ برمْي الححارة عليْه حتَّى دَمِيَتْ قدَماه لمَّا سلَّطوا سفهاءهم وعبيدَهم عليه، فجعل يقولُ: ((اللَّهمَّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يَعلمون))، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بإلْقاء السَّلَا على رأسِه الشَّريف وهو ساجد لله عزَّ وجلَّ؛ فأخذ قومُه يتضاحكون عليه حتَّى مال بعضهم لبعض، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، والحديث في صحيح البخاري.
    ومنهُم مَن ابتُلي بخنْقه بالثَّوب في عنُقه حتَّى أنقذَه اللهُ بأبِي بكْر، وهو نبيُّنا صلَّى الله عليْه وسلَّم.
    ومنهم مَن ابتلاه اللهُ بمواقف مُحْرجة جدًّا مِن قومه، كلوط عليه السَّلام؛ كمثل مجيئِهم إلى ضيوفه الملائكة ليفْعلوا بهم فاحشة اللِّواط.
    ومنهم مَن تعرَّض للاستِهزاء والسُّخرية، بل لقد تعرَّضَت الأنبياء كلُّهم لهذه الظَّاهرة المزْرية، وسُبَّ الأنبياء ووُصفوا بأوْصافٍ بأغلظ الأوْصاف التي لا تليق بهم، بل وربَّما مدحوه بقصْد الاستِهزاء، كما قالوا لشعيب: ﴿ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87].
    ومنهم... إلخ.

    وإذا كان الله ابتَلَى أكرَمَ عبادِه بهذه الأمور الَّتي وصفتُها لك وغيرها، فما على العباد إلَّا أن يَقْتدوا بكلِّ حالةٍ مِن هذه الحالات المتنوِّعة، ويَصْبروا كما صبروا، ويرْجوا كما رجَوا؛ حتَّى ينجحوا بالابتِلاء في هذه الدَّار ويفوزوا في الدُّنيا والآخرة، وقد قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ﴾ [الممتحنة: 4]الآية، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

    وانظُر واعتبِر يا أخي الكريم، على سبيل المثال، لمَّا ابتلى الله يعقوبَ عليْه السَّلام بفَقْد بَنِيه كيف صبر حتَّى استحقَّ صبرُه أن يُوصف بالصَّبر الجميل، وهو ما اشتمل بالخِصال الآتية:
    أوَّلًا: الاستِعانة بالله، فقد قال: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، مع قوَّة الثِّقة واليقين أنَّ الله يَنصره ويُعينه فيما أراده.
    ثانيًا: الرَّجاء وعدم القُنوط مِن رحمة الله؛ قال تعالى: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ [يوسف: 83]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
    ثالثًا: عدم الشِّكاية لغير الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86].
    رابعًا: ترْك الفزَع والتسخُّط على المصيبة، والاكتِفاء في كلِّ مرَّة بقوله: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18، 83].

    وكذلك انظر واعتبِر، لمَّا ابتَلَى الله حبيبَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بِموت إبراهيم قال: ((إنَّ العين لتدْمع، وإنَّ القلب ليحْزنُ، وإنَّا لفراقِك يا إبراهيم لَمَحْزُونون)).

    نعم، ما جاوز النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُعبِّر عن حُزنِه الجبلِّيِّ وحُنُوِّه لابنِه ورحمته له إلَّا بالتلفُّظ بهذه الكلمات، وهكذا كان حاله لمَّا أُتِي بابنٍ لِبِنْتِه يُحْتَضَر ونفسُه تقعْقَع، دمعت عيْناه رحمة لابنِ بِنتِه المحتضر، فقال له سعد بن معاذ: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((إنَّما يَرحَم اللهُ مِن عباده الرُّحماء))؛ رواه البخاري.

    وتاللهِ، هذا هو الصَّبر الجميل الَّذي علَّمَنا اللهُ على لسان نبيِّه، وهو تطْبيقٌ عمليٌّ، فلا صياحَ، ولا ضرْبَ للخدود، ولا شقَّ للجيوب، ولا شكايةَ، ولا إظهار للتأسُّف أو الاعتراض على أمر الله كما ترى، وهلمَّ جرًّا.

    وانظُر واعتبِر أخي الكريم لمَّا ابتَلَى اللهُ إبراهيمَ عليْه السَّلام بذبْح ابنِه، كيف فعل؟
    أوَّلًا: بادرَ في تنفيذ الأمْر ولَم يقُل: واللهِ إنَّها مجرَّد رؤيا؛ لأنَّ رؤيا الأنبياء كانت وحْيًا، بِخلاف سائر النَّاس.
    ثانيًا: قدَّم مَحبَّة الله على مَحبَّته لابنه، وهو ما أراد اللهُ أن يُظهره لما ابتلاه؛ لذلك لمَّا شرَع في التَّنفيذ فَداه اللهُ بكبشٍ ما داما قد انقادا واستسْلما لأمر الله؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103].
    ثالثًا: يُستفاد من القصَّة كثيرٌ من صفات الخير لإبراهيم عليْه السَّلام؛ منها: الصَّبر الجميل، تعْظيم أوامر الله وتقْديمها على كلِّ شيء، الشَّجاعة وقوَّة العزيمة في تنفيذ الأوامر الخطيرة كما في هذه القصَّة.

    وهكذا كان للصَّحابة الكرام رضوان الله عليْهم اتِّخاذ القرارات الخطيرة، مثل ما في هذه القصَّة، ككون تقديمهم أوامرَ الله من كلِّ شيء إذا اعترضها أحدٌ، حتَّى ولو كان أقرَبَ أقربائِهم، وهذا سعدٌ يقول لأمِّه وقد كان يحبُّها جدًّا: (لو كانتْ لكِ مائةُ نفسٍ فخرجتْ واحدةً واحدةً ما أشركْتُ بالله)، وذلك لمَّا تَرَكَتِ الأكْلَ لِيكْفرَ بالله، وهذا أبو عبيدة بن الجرَّاح يَقتل أباه لمَّا اعترض أوامرَ الله وحارب اللهَ ورسولَه، وإنَّما قَتَلَ الشِّرك الذي كان في نفْس أبيه، كما فسَّره بذلك بعضُ السَّلف، وهذا أبو بكْر رضِي الله عنْه طلَب ابنَه عبد الرحمن في القتال لِيَقْتُلَه، ولكنَّه لَم يجدْه، وهلمَّ جرًّا.

    والله وليُّ التَّوفيق.





  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (13)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشْرف المرسَلين، وآله وصحْبِه ومَن تبِعه بإحْسان إلى يوم الدِّين.

    أمَّا بعد:
    فاعلَم أنَّ حلاوة الإيمان مِن أهمِّ النِّعَم الَّتي أنعَم اللهُ بها على عباده المسلمين؛ لذلك تجد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((ذاق طعمَ الإيمان: مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد نبيًّا))[1].

    فالحديث يدلُّ على أنَّ مَن لَم يرْضَ بالله ربًّا، ودِينِ الإسلام دينًا، وبمحمَّد نبيًّا، لَم يذُق طعمَ الإيمان، كما هو ظاهر في سياق الحديث، ولكن اعلمْ أنَّ كلَّ هذا لا يكون إلَّا بعد العِلم، فمَن تذوَّق حلاوة شيء فلا بدَّ أن يتأثَّر به، وبالتَّالي لا بدَّ أنْ يَطلبه ويستَسيغه ويتلذَّذ به[2]، وقد قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19].

    وقد تَرْجم البخاريُّ في كتابه الجامع لهذه الآية، فقال: باب العِلم قبل القول والعمل.

    واعلم أيضًا أنَّ الرِّضا بأصول الدِّين هي النِّعْمة الحقيقيَّة التي يتنعَّم بها المسلم، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فإذا أخذْنا بِما رضِي اللهُ لنا، وهو الإسلام، واكتفيْنا بنعمته الَّتي أنعمها اللهُ عليْنا؛ بل وكمَّلها وأتمَّها عليْنا، فإنَّنا سنُرضي الله سبحانه كما ينبغي؛ بل وسيَحْدُث مثل ذلك الرّضا في الآخرة إن شاء الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8].

    وعليْنا أن نعرف الخطوات الآتية؛ لِنرْتقي إلى الرِّضا المطْلوب منَّا كما يحبُّه الله ورسوله:
    الخطوة الأولى: لا بدَّ مِن العِلم والعمَل بالأصول الثَّلاثة: وهي معرفة الله عزَّ وجلَّ بأنَّه هو الرَّبُّ الخالق الرَّازق، مدبِّر الأمور، مالك الدُّنيا والآخِرة، وهذا ما يُعرف بتوْحيد الربوبيَّة، ولا يكْفي هذا النَّوع من التَّوحيد؛ بل ولا يُنجي صاحبَه من النَّار؛ إذْ كانت كفَّار قريش تقرُّ به كما ورد في القُرآن في آيات كثيرة تبيِّن ذلك، كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].

    وأمَّا توْحيد الألوهيَّة، فهو أن تَعبد الله بِما استَعبَدك به مِن العبادات بالتَّوحيد، وألَّا تشرك به شيئًا، ومنْه إفْراد الحكم لله وحْده، والدُّعاء، والنَّذْر له وحْده، إلى غير ذلك مِن سائِر العبادات.

    وأمَّا توْحيد الأسماء والصِّفات، فهو أن تعتقِد وتعبد الله بالعِلْم والإقرار، بأسْمائه الحُسْنى وصفاته العُلا، مِن غير تحريف ولا تأويل، ولا تَمثيل ولا تَعطيل، ولا تكْييف ولا تفويضٍ لمعانيها المعلومة.

    وكذلك لا بدَّ مِن معرفة دِين الإسلام بالأدلَّة، فدينُنا الإسلامي له مرجِعان أساسيَّانِ؛ وهما الكتاب والسُّنَّة، وما يلحقُهما من الإجْماع والقياس الصَّحيح والمصالح المُرْسلة؛ لذلك يطمئنُّ قلبُك وينشرح وتشْعُر بالحلاوة الإيمانيَّة؛ بل وتهتدي بتلك الأدلَّة راضيًا بها.

    أمَّا مَن أتاك بآرائه الشَّخصيَّة، أو بالخرافات أو بالخزعبلات، فمِن السَّهل أن تضرب بأقواله عرض الحائط إنْ لم يأْتِ لك بدليل صريح صحيح مِن الكتاب والسُّنَّة، أو ما يلحقهما مِن أصول التَّشريع.

    وكذلك لا بدَّ مِن معرفة حامل الرِّسالة العظيمة محمَّدٍ النَّبيِّ الأمِّيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرحمة المهداة، العاقب الذي يُحشر النَّاس على عقِبه، الماحي الضَّحوك القتَّال، الفارق بين الحقِّ والباطل، السِّراج المنير، مُخرِج النَّاس من ظُلمات الظلم والجهل والبغْي والمنكر والفساد، إلى سبُل السَّلام، وإلى نور العدْل والعِلم والصَّلاح والإحسان، والخير والكرامة والشَّرف والرِّفعة في الدنيا والآخرة.

    فهذه الأمور الثلاثة سيُمْتحن بها المرء في قبرِه، فيُقال له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَن نبيُّك؟
    قال البخاري: حدَّثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عرْوة، عن امرأتِه فاطمة بنت المنذِر، عن أسماء بنت أبِي بكر رضِي الله عنْهما؛ أنَّها قالت: أتيتُ عائشة رضي الله عنْها زوجَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين خسفَت الشَّمسُ، فإذا النَّاس قيامٌ يصلُّون، وإذا هي قائمة تصلِّي، فقلتُ: ما للنَّاس؟ فأشارَت بيدِها إلى السَّماء، وقالت: سبحان الله! فقلتُ: آية؟ فأشارَت: أي نعم، قالت: فقمتُ حتَّى تجلَّاني الغَشْيُ، فجعلتُ أصبُّ فوق رأسي الماء، فلمَّا انصرف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، حمِد اللهَ وأثنَى عليه، ثمَّ قال: ((ما مِن شيء كنتُ لَم أره إلَّا قد رأيتُه في مقامي هذا، حتَّى الجَنَّة والنَّار، ولقد أوحي إليَّ أنَّكم تُفتَنون في القبور مثلَ أو قريبًا مِن فِتْنة الدَّجَّال - لا أدري أيَّتهما قالت أسماء - يُؤتى أحدُكم فيُقال له: ما عِلْمُك بهذا الرَّجُل؟ فأمَّا المؤمن، أو الموقِن - لا أدْري أيَّ ذلك قالت أسماء - فيقول: محمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ جاءنا بالبيِّنات والهدَى، فأجبْنا وآمنَّا واتَّبعنا، فيقال له: نَمْ صالحًا، فقد علِمْنا إنْ كنتَ لموقنًا، وأمَّا المنافق، أو المرتاب - لا أدري أيَّتهما قالت أسماء - فيقول: لا أدري، سمعت النَّاس يقولون شيئًا فقلتُه))[3].

    ولاحظ قولَه: "سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُه"؛ لأنَّه لم يَرفَع رأسَه بالهدَى الَّذي جاء به نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم.

    الخطوة الثَّانية: شروط التَّوحيد؛ وهي العِلمُ المُنافي للجهل، والمحبَّةُ المنافية للكراهية، والصِّدقُ المنافي للتَّكذيب والنِّفاقِ، والإخلاصُ المنافي للشِّرْك، والقبولُ المنافي للرَّدِّ، والانقيادُ المنافي للإعراض، واليَقينُ المنافي للشَّكِّ، وهذا اليقين هو أعْظم شرطٍ - في نظَري - الَّذي يمكن أن تحقِّق به إيمانَك وتشعُر بسبَبِه بحلاوة الإيمان، أمَّا باقي الشروط فهي تبَع لهذا الشَّرط، فمَن أوْصل عِلْمه إلى درجة اليقين، فلا بدَّ أن ينتفع بعلمه، وأن يحبَّ ربَّه، وأن يَقبل شرْعه، وأن يُصدِّق إيمانه بالاعتقاد والقول والعمل، وأن يُخلص في دينه، وأن ينقاد له، والله أعلم.

    الخطوة الثالثة: العِلم مع العمل، والدَّعوة إلى الله والصَّبر، وقد اشتملَت سورة العصْر على هذه المعاني الجليلة، وحكمتْ على مَن لم يتَّصف بها بالخسران، فتأمَّلها؛ لذلك نقول: لا يُمكن مَن أخلَّ بشيءٍ مِن هذه الأربعة في هذه السُّورة أن ينال رضا الله سبحانه مع كونِه سيشعر بدلًا مِن ذلك شعورًا منكَّدًا لا محالة، أمَّا مَن قام بكلِّ ما عليه مِن الواجبات والحقوق، وصبر في سبيل ذلك على الأذى وتحمَّله، فسيشعُر على الأقلِّ أنَّه قد ألقَى عن عاتِقه تبعة المسؤولية أو المؤاخذة عليه يوم القيامة.

    فوالله الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ما ذُقْتُ حلاوة الإيمان إلَّا بعد ما وقع في يدي كتاب "فتح المجيد"، فعند ذلك فهِمْتُ لبَّ الرّسالة الَّتي يريدها الله سبحانه مِن البَشَر، وكذلك عندما وقع في يدي كتاب "العقيدة الواسطيَّة" عرفتُ ربي بأسمائِه وصفاته كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه؛ لهذا أُوصي كلَّ المسلمين أن يَعتَنوا بهذيْن الكتابين العظيمين؛ ليذوقوا ما ذقتُه.

    من ثَمرات الرِّضا بالدِّين الإسلامي وحلاوة الإيمان:
    1- التَّعظيم: أي تعظيم الله في أوامره ونواهيه، وتعظيم دينِه وشعائره ونبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.
    2- الطُّمأْنينة والرَّاحة النفسيَّة: وهذا ما يَعرفه ويشعر به كلُّ مَن أنعَمَ الله عليه بنِعْمة الإيمان والإسلام، حتَّى كان يقول أحد السَّلَف: "إنَّنا لفي نعمة، لو كان يعْرِفُها أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، ويقول آخر: "إنَّ في الدنيا جنَّة، مَن لم يدخُل فيها لا يدخُلها في الآخرة"، أمَّا حديث: ((الدنيا سجن المؤمِن، وجَنَّة الكافر))، فهو بالنسبة لما ينْتَظر كلًّا منهما مِن الجَنَّة والعذاب في الآخرة.
    3- التَّشمير عن ساعد الجدِّ للواجبات والمستحبَّات: مع كراهية الفسق والعصيان والكفر، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]، وهذه مِن أنعَم النِّعَم الَّتي يتنعَّم بها المؤمنون الرَّاشدون؛ لذلك قال تعالى بعدها: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8]، ومَن فقَد هذا الشعور والإحْساس أو التَّأثير، فليتَّهم نفسَه.
    4- المحبَّة الخالصة للمُسلمين جميعًا: كما جاء في "صحيح البخاري":

    حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثنَّى، قال: حدَّثَنا عَبْد الوَهَّاب الثَّقَفيُّ، قال: حدَّثَنا أيُّوبُ، عَنْ أبي قِلابَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَال: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَد حَلاوَةَ الإيمَان: أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما، وأنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأن يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّار))[4].

    ومن المحبَّة الخالصة للمسلمين جميعًا أن يسلِّم المرْء على مَن لا يعرف.

    والتصدّق عليه وهو لا يعرف، والدُّعاء له وهو لا يعرف، والزِّيارة له إذا مرض وهو لا يعرف؛ بل للعطف عليه وللمواساة فقط؛ ولذلك هذا هو خير الإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قال: حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَن أبي الخَيْرِ، عنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنْهُما؛ أنَّ رَجُلًا، سَأَلَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَال: ((تُطْعِمُ الطَّعامَ، وتَقْرَأُ السَّلامَ على مَنْ عَرَفْتَ ومَنْ لَمْ تَعْرِفْ))[5].

    وأيضًا مِن ذلك أن يكون المسلم مسالمًا وآمنًا ومحافظًا، كما في الحديث: ((المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويدِه، والمؤمن مَن أمِنَه النَّاس على دمائِهم وأموالهم، والمُهاجر مَن هجَرَ ما نَهى اللهُ عنْه)).

    وروى عبد الله بن عمرو في "صحيح البخاري" بلفظ:
    حدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أبي إياسٍ، قالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ أبي السَّفَرِ، وإسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَال: ((المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِه ويَدِه، والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ))[6].

    وكذلك جاء في حديث أبي موسى بلفظ:
    حدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القُرَشِيُّ، قال: حدَّثَنَا أبي، قال: حَدَّثَنَا أبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْنِ أبي بُرْدَةَ، عَن أبي بُرْدَةَ، عَنْ أبي مُوسَى رضي الله عنْه قال: قالُوا: يا رَسُولَ اللَّه، أيُّ الإسْلامِ أفْضَلُ؟ قال: ((مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِه ويَدِه))[7].

    وأيضًا من ذلك أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، كما في "صحيح البخاري":
    حدَّثَنا مُسَدَّدٌ، قال: حدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ رضِي الله عنْه، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

    وعَنْ حُسَيْنٍ المُعَلِّمِ، قَال: حدَّثَنا قَتَادَةُ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قَال: ((لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِه))[8].

    فكلُّ مَن أحبَّ لأخيه ما أحبَّ لنفسه، لا يُمكن أن يحسُده أو يحتقرَه، أو يتكبَّر عليه أو يفتخِر عليه، أو يغْمزه ويسخر منه، أو يبغضه... إلخ؛ لأنَّ كلَّ ذلك من خطوات الشَّيطان، ومن أجْل الافتتان بالدنيا؛ لذلك لا يُمكن أن تجِد عالِمَيْن مُخلصَين للهِ يتحاسدانِ، أو زوجين أحبَّ كلٌّ منهما الآخر في سبيل الله يتشاجران.

    لذلك اعلم أيُّها الأخ الكريم أنَّ حبَّ المؤمنين بعضهم لبعض على مرتَبتَين:
    المرتبة الأولى: درجة الإيثار؛ وهي أن تحبَّ له الخير أكثر ممَّا تحبُّه لنفسِك، ويندُر هذا؛ بل وقلَّما توجد هذه الصِّفة، ولا يُمكن أن يتحلَّى بها إلَّا الخلَّص الصبورون.

    المرتبة الثَّانية: درجة الحبِّ العادل إن صحَّ التَّعبير؛ أي: أن تحبَّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك، أمَّا إذا ضعُفتْ فيك هذه الصِّفة فلا شكَّ أنَّك ستقع في الظُّلم، ولا بدَّ أيضًا أن تتَّصف بالصِّفات المذْمومة الآنفة الذِّكْر، ولا يخفى على اللَّبيب ما سينتج عن هذه الصِّفات مِن الشُّرور - إن عاجِلًا أو آجلًا - مِن الاختِلاف، وحمْل الإحَن والضَّغائن؛ بل والفتن والاقتِتال؛ لذلك أنقذَنا اللهُ بنعمة الإسلام الَّتي جعلتْنا كلَّنا إخوة في الله، كما قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].

    5- أن يعيش المسلم حياة طيِّبة: كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 2]؛ أي: أصلح حالهم.

    بل إنَّك تجد في القرآن أنَّ الكافر والمنافق ولو أُعطي أموالًا وفيرة، وبنين شهودًا، فإنَّه سيتعذَّب بهما، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55].

    وإنَّك تجد المؤمن المصاب بالفقْر أو بالمرَض المزْمِن، أو بأيِّ مصيبة من المصائب صابرًا محتسبًا، ويعيش عيشةً هادئة طيِّبة حسنة، عن أبي سعيدٍ سعد بن مالك بن سنان الخُدْري رضِي الله عنْه؛ أنَّ ناسًا من الأنصار سألوا رسولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم؛ فأعْطاهم، ثمَّ سألوه فأعْطاهم، حتَّى نفِد ما عنده، فقال لهم حين أنفقَ كلَّ شيءٍ بيده: ((ما يكُن عندي مِن خيرٍ فلَن أدَّخِرَه عنكم، ومَن يَستَعفِفْ يُعفَّه الله، ومَن يَستغْنِ يُغْنِه الله، ومَن يَتصبَّر يصبِّرْه الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوْسَع مِن الصَّبر))[9]، وما ذاك كلُّه إلَّا نتيجة الرِّضا عن الله سبحانه ودِينِه ورسوله جملة، ونتيجة الإيمان الَّذي تزوَّدناه مِن تعاليم دِين الإسلام نفسِه، كالرِّضا بالقضاء والقدَر، والصَّبر والشُّكر على السَّرَّاء والضَّرَّاء... إلخ.

    لذلك مِن الدُّعاء المأْثور عن ابنِ مسعود رضِي الله عنْه؛ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: ((اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك الهُدى والتُّقى والعفاف والغِنَى))[10].

    فكُلُّ مَن وَجد مِن نفسِه هذه الصفات الَّتي في هذا الدُّعاء، لَم يَفُتْه شيء، ومَن فاته شيءٌ مِن ذلك فاتَه خيرٌ كثير.

    فإذا كان مجرَّد ذِكْرك لله - فضلًا عن عبادته سبحانه وطيب مُناجاته - يُطمْئِنُ قلبَك ويَشْرحُه، وتنزل عليك السَّكينة وتغشاك الرَّحمة؛ بل وتحسُّ أنَّ الله جليسُك ويذكرُك إنْ ذكرتَه وحدك، وإنْ ذكرتَه في ملأٍ ذكرَك في ملأٍ خير منه؛ بل ويُباهي بك الملائكة - كما ورد بذلك أحاديث - فما ظنُّك بفضائل الأعمال الأخرى؟

    رُوي أنَّ أحد السَّلف زاره صاحبٌ له فقال له: ألا تستوحش؟ فقال له: كيفَ أستوحِش والله سبحانه وتعالى هو جليسي؟! لأنَّ في الحديث: ((أنا جليس مَن ذكرني)).

    والله أعلم.
    ============================== =
    [1] رواه مسلم عن العبَّاس رضي الله عنْه.

    [2] لذلك قد ترى بعض الناس يقرؤون القرآن - للأسف الشديد - بنفسيَّة ضعيفة ميتة، وعندما يفتح الجرائد أو المجلات فإذا به دبَّتْ فيه الحياة وانتعَش، وقرأها بمعنويَّات عالية، فسبحان الله! والسِّرُّ في ذلك هو فقْد طعْم الإيمان، والرضا به في قلبِه، وعدَم الشعور بقيمة الدِّين وأنَّه يحتاج إليه ويَنفعه في الدنيا والآخرة، والله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

    [3] رواه البخاري برقم (1005).

    [4] رواه البخاري برقم (16).

    [5] رواه البخاري برقم (12).

    [6] رواه البخاري برقم (10).

    [7] رواه البخاري برقم (11).

    [8] رواه البخاري برقم (13).

    [9] متفق عليه.

    [10] رواه مسلم.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: اليقين ضد الشك

    اليقين ضد الشك (14)

    عبدالفتاح آدم المقدشي

    فضل الله ورحمته


    بسم الله، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشْرف المرسَلين، وآله وصحْبه ومَن تبِعَه بإحسان إلى يومِ الدِّين.

    أما بعد:
    فاعلمْ أنَّ رحمة الله وفضْله خيرُ ما يَظفر به المرءُ في دنياه وأُخراه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

    فمَن فقَدَ رحمةَ الله وتوفيقَه وتيسيرَه، فقَدْ فقَدَ الخيرَ كُلَّه، ومَن وجَد ذلك فلا يُمْكن أن يضرَّه شيءٌ أبدًا، مهما كان، كما قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107].

    ولذلك - للأسف الشديد - قد ترَى بعضَ الناس يجدُّ ويكْدح في الحياة، وكأنَّ هذا هو السبب الوحيد في نجاحه، وفي هذا مفاسدُ، منها ما يلي:
    1- كونُه يعتقد اعتقادَ قارونَ؛ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]؛ أي: بمعرفتي بوجوه التجارة، أو بعِلم الله أنِّي أستحق بهذا المال.
    2- كونه فقَدَ التوكُّل، وتعلَّق بهذه الأسباب المادِّيَّة، وقد قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].
    3- كونُه مُستَدرَجًا، ولا يعلم أنَّ عاقبة أمره خسارة، وقد قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].
    4- كونه أمِنَ مِنْ مَكْر الله، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].
    5- كونُه فقَدَ الفَضْل والرحمة؛ أي: البركة، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

    ولذلك اعلمْ - يا أخي، ويا أختي الكريمة - أنَّ كلَّ ما تَعْملُه في هذه الحياة الدُّنيا إنْ لم يُقارنْه فضْلٌ مِن الله ورحمة، فهو مَنزوعُ البركة، ولا خيرَ فيه، كما نَفْهم مِن قوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].

    وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة: 11].

    فقد قرَن اللهُ سبحانه التجارة باللهوِّ؛ حيث شَغَلَتِ الناسَ عن سماع الخير؛ لذا فقدْ بيَّن اللهُ في هذا المقام أنَّه هو خيرُ الرازقين.

    فعلى سبيل المثال: قد ترَى بعضَ التُّجَّار يُفتَن بكثرة الزبون عنده في أوقات الصلوات مثلًا، أو عند أذان الجمعة، فلا شكَّ أنَّه إذا ترَك التجارة لوجْه الله، وأغلَقَ المحلَّ ولم تفْتنْه الدُّنيا، أنَّ الله سبحانه سيُعوِّضه خيرًا مما ترك؛ لأنَّ الله هو خير الرازقين، وهو الذي يَرزق بغيْرِ حِساب، مع ما في ذلك الأمر مِن فضْل الله ورضوانه، ورحمته الواسعة.

    وأيضًا مِن فضل الله ورحمته الواسعة أن يَرزقَك اللهُ وأهلَك العافيةَ في الدِّين والدنيا، فكم فُتِن كثيرٌ بجمْع الأموال مِن الحلال والحرام، فابتلاه اللهُ بمصائبَ أخرى؛ صِحِّيَّة وغير صِحِّيَّة.

    وهكذا، فضْل الله ورحمته يجعل المرءَ موفَّقًا في أمور آخرته، فيؤدِّيها بأحسنِ الوجوه، مع الإخلاص وموافقة السُّنَّة، كما يجعله اللهُ قريبًا مِن الملائكة، بعيدًا مِن الشياطين والكفَّار والفُسَّاق.

    ومِن ذلك الفَضْل والرحمة: التوبة ِمن الذنوب كلِّها؛ دقِّها وجليلها، وسرِّها وعلانيتها، والتي أكْبَرُها الشِّرْك بالله، فإنه سبحانه سيتقبَّلها منك تفضُّلًا منه، وامتنانًا ورحمة، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 10]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 20].

    ومِن فضْل الله ورحمته أنْ أرسَل إلينا رُسلًا، وأنزل لنا كُتبًا؛ لئلَّا نتبع الشياطين، وأنَّه سبحانه لم يَجعلْ للشيطان علينا سُلطانًا، كما أنَّه سبحانه يحفظنا منهم ومن كلِّ سوء، قال تعالى: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 64]، وأنه سبحانه غفور رحيم، وأنَّه توَّاب رحيم لِمَن تاب وأناب إلى الله بعدَ ذنْبه، وأنه سبحانه يَأجُر مَن همَّ بحسنةٍ بحسنةٍ مثلِها، وكذا مَن همَّ بسيئة فترَكَها لله، يَكتبُ اللهُ له حسنةً، كما يُبدِّل الله سيئاتِه حسناتٍ إنْ تاب إلى الله وأناب، وعمل عملًا صالحًا.

    فالله سبحانه كريمٌ لطيف، رحيم بعباده، فلا ييْأَس مؤمِنٌ مبتلًى بمصيبة، مِن رحمته وفضْله، وإنَّما الكافر هو الشقيُّ، بل فليعملْ عملية السلام مع ربِّه، وليقل وليبتهل بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، وليقل: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 100، 101]، وليقل: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

    وليقل: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47]، وليقل: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16]، وليقل إذا كان مريضًا مثلًا: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وليقل: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88]، يا ربِّ نجِّني إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين، وليقل: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فاستجبتَ دعاءَ الكفَّار فأنجيتَهم، وأنا أدعوك: إنْ كنتُ مِن عبادك المؤمنين الموحِّدين إلَّا نجيتني، وأقول لك: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: 22]، فنجِّني يا ربُّ.

    ولكن لا بدَّ ألا تَنسَى هذا الوعْد بعدَ النجاة؛ بل عليك أن تكونَ مِن العابدين المخلِصين الشاكرين بتوفيق الله عزَّ وجلَّ، وهذا خيرٌ مِن النذر.

    وليقل كذلك: اللهمَّ أنتَ القائل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، فاكشف عني ما أنا فيه، وليقل: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147].

    وممَّا يهوِّن عليك أيُّها المبتلَى: أنَّ الله لم يُصبْك بمصيبة أعظم، وأنَّ الله لم يجعلْها في دِينك، وأنَّ الله وفَّقك للشكر والصبر عليها، وأنَّ الله سيُكفِّر بهذه المصيبة عن ذنوبك، ويرفع لك بها الدَّرجات، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وأنَّ الله وعدَك - ووعْدُ الله حقٌّ - بالفرج، فقال: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5، 6]، ولن يغلبَ يُسرَيْن عسرٌ إن شاء الله، كما قالَه أهل العِلم، وقال سبحانه: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].

    وعليك بكثرة الإنابة، والتوبة الصادقة النصوح، مع البكاء المرِّ والندامة على ما فات، وعليك أن تُكثِرَ من الاستغفار، ومن قول: لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وجميع الأذكار، وأعظمُ الأذكار القرآن.

    كما عليك أن تُكثِر من التضرُّعِ إلى الله في جميع الأوقات، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42].

    ومُدَّ يديك إلى السماء متضرِّعًا قائلًا: اللهمَّ إنك تستحيي أن تردَّ يديْ عبادِك صِفرًا، فلا تردَّ عليَّ يدي صفرًا، وأنت ستِّير، استرني ولا تُشمت بي الأعداء، وأنت أكرمُ الكرماء، وأرحم الرحماء، وألطف اللطفاء، أنختُ مطاياي ببابك، وأنت أكرم مِن أن تردَّ مَن طَرَق بابك، وتجعله من الخائبين.

    وعليك بالإكثارِ مِن الصَّدقات والعِبادات المتنوِّعة، كما عليك أن تتحرَّى ساعاتِ الإجابة، وألَّا تستعجل وتقول: دعوتُ اللهَ فلم يَستجِب لي، فإنْ زاد عليك البلاءُ فاستزدْ أنتَ من الصَّبر، فهو خيرُ زاد للمؤمن، بل هو تطهيرٌ وتصفية، وإظهار لمعدن المؤمن الجيِّد، فكما يُفتَن الذهبُ بالنار فيَزداد صفاءً ولمعانًا، فكذلك حال المؤمِن؛ يزداد بالمصائب والابتلاءات المتتالية صفاءً ولمعانًا، وثباتًا في دِين الله؛ بل وحبًّا وإرضاءً لله، ممَّا يجعله يُضاعِف أعمالَه وعباداتِه؛ ليُرضيَ ربَّه، كما في الدعاء المشهور: ((إنْ لم يكُن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي))، وإنَّما المصيبة الحقيقية مَن شقي ودخَل النار مع الداخلين.

    وعليك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - المبتلَى/ المبتلاة - تفويضُ الأمْر إلى الله، فهو نِعمَ الموْلَى ونِعم النصير، وقُل: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، وتوسَّل إلى الله إنْ كان لك أعمالٌ صالحة قدَّمتَها لله؛ فإنها من مفاتيح الفرَج ومفاتيح الإجابة، فالمصائب لا تنزل عادةً إلا بسبب ذنوب العِباد، ولا يرفعها الله إلا برجوعهم إليه سبحانه، وما يعفو الله عنه أكثرُ، والدليلُ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].

    والله المستعان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

    عنِ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: أنه قال: ((إنَّ الله كتَب الحسناتِ والسيئاتِ، ثم بيِّن ذلك، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملْها، كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتبها الله عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة، وإنْ همَّ بسيئة فلم يعملْها، كتبَها الله عنده حسنةً كاملة، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتَبها الله سيِّئةً واحدة))؛ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

    قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الحديث: واعلمْ أنَّ مَن همَّ بالحسنة فلم يعملْها على وجوه:

    الوجه الأول: أن يسعى إليها بأسبابها، ولكن لم يدركْها، فهذا يُكتب له الأجر كاملًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100].
    وكذلك الإنسان يَسْعى إلى المسجد ذاهبًا يُريد أن يصليَ صلاةَ الفريضة قائمًا، ثم يَعجز أن يصلي قائمًا، فهذا يُكتب له أجرُ الصلاة قائمًا؛ لأنَّه سعَى في العمل، ولكنَّه لم يدركْه.

    الوجه الثاني: أن يهمَّ بالحسنة ويعْزِم عليها، ولكن يتركها لحسنةٍ أفضل منها، فهذا يُثاب ثوابَ الحسنة العليا التي هي أكمل، ويُثاب على همِّه الأول للحسنة الدنيا، ودليلُ ذلك أنَّ رجلًا أتى إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين فتَح مكة، وقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إنْ فتَح الله عليك مكة أن أصليَ في بيت المقدس؟ فقال: ((صَلِّ هَا هُنا))، فكرَّر عليه، فقال له: ((شَأنُكَ إذًا))، فهذا انتقل مِن أدْنى إلى أعْلى.

    الوجه الثالث: أن يتركَها تكاسُلًا، مثل أن ينويَ أن يصليَ ركعتي الضُّحى، فقرَع عليه البابَ أحدُ أصحابه، وقال له: هيا بنا نتمشَّى، فترَك الصلاة وذهَب معه يتمشَّى، فهذا يُثاب على الهمِّ الأول والعَزْم الأول، ولكن لا يُثاب على الفعل؛ لأنَّه لم يفعلْه بدون عذْر، وبدون انتقال إلى ما هو أفضل.

    ((وإن هَمَّ بِها فَعمِلَها)): تُكتب عشر حسنات والحمد لله، ودليلُ هذا من القرآن قولُ الله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 160].
    ((كَتَبَها اللهُ عِندَه عَشْرَ حَسَناتٍ)): هذه العشر الحسنات كتبَها الله على نفسه، ووعَد بها، وهو لا يُخلِف الميعاد.
    ((إلى سَبعمَائةِ ضِعْف)): وهذا تحت مشيئة الله تعالى؛ فإنْ شاء ضاعَف إلى هذا، وإنْ شاء لم يضاعف.
    ((إلى أضعافٍ كَثيرةٍ))؛ يعني: أكثر مِن سبعمائة ضِعْف.

    قال: ((وإن هَمَّ بِسَيئةٍ فَلَم يَعمَلْها، كَتَبَها اللهُ عِندَه حَسَنةً كامِلَةً)): جاء في الحديث: ((لأنه إنَّما تَرَكَها مِن جَرَّائي))؛ أي: مِن أجْلي، فتُكتب حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله.

    واعلم أنَّ الهمَّ بالسيئة له أحوال:
    الحال الأولى: أن يهمَّ بالسيئة؛ أي: يعزم عليها بقَلْبه، وليس مجرَّد حديث النفس، ثم يراجع نفسَه فيتركها لله عزَّ وجلَّ، فهذا هو الذي يُؤجَر، فتُكتب له حسنة كاملة؛ لأنَّه تركَها لله، ولم يعملْ حتى يكتبَ عليه سيئة.

    الحال الثانية: أن يهمَّ بالسيئة ويعزم عليها، لكن يعجز عنها بدون أن يَسعَى في أسبابها، كالرَّجل الذي أخْبر عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ليتَ لي مثلَ مال فلان، فأعمل فيه مثل عمله، وكان فلان يُسرِف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يُكتب عليه سيِّئة، لكن ليس كعامل السيِّئة؛ بل يُكتب وزْر نِيَّته، كما جاء في الحديث بلفظه: ((فَهوَ بِنيَّته، فَهُمَا في الوِزرِ سواء)).

    الحال الثالثة: أن يهمَّ بالسيئة ويَسعَى في الحصول عليها، ولكن يَعجِز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السيئة كاملًا، دليل ذلك قولُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا الْتَقَى المُسلِمانِ بِسيفَيهِما، فالقاتِل والمقْتول في النَّار))، قال: يا رسولَ الله، هذا القاتِلُ، فَمَا بالُ المَقتُول؟! - أي: لماذا يكون في النار - قَال: ((لأَنَّهُ كانَ حَريصًا عَلى قَتْلِ صاحبِه))، فكُتب عليه عقوبة القاتل.
    ومثاله: لو أنَّ إنسانًا تهيَّأ ليسرقَ، وأتى بالسُّلَّمِ ليتسلَّق، ولكن عجَز، فهذا يُكتب عليه وزرُ السارق؛ لأنه همَّ بالسيئة، وسعى في أسبابها، ولكن عجز.

    الحال الرابعة: أن يهمَّ الإنسان بالسيِّئة، ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقَع كثيرًا، يهمُّ الإنسان بالسيئة، ثم تطيب نفسُه ويعزف عنها، فهذا لا يُثاب؛ لأنه لم يتركْها لله، ولا يعاقَب؛ لأنه لم يفعلْ ما يوجب العقوبة.

    وعلى هذا فيكون قوله في الحديث: ((كتبَها عِندَهُ حَسَنَةً كامِلَةً))؛ أي: إذا تركَها لله عزَّ وجلَّ.

    ((وإنْ هَمَّ بِها فَعَمِلَها، كَتبَها اللهُ سَيئةً واحِدةً))؛ ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: ((إِنَّ رَحْمَتِيْ سَبَقَتْ غَضَبِي))، وهذا ظاهِر من الثواب على الأعمال، والجزاء على الأعمال السيئة.

    رأى رجلٌ تائِب رؤيةً عجيبة، وهي أنَّه رأى رؤوس ناسٍ محترقين بالنار، متناثِرة في الأرْض، فقيل له: أما أنت فلستَ منهم؛ لأنَّك عملت عملية السلام مع ربِّك، فمَن ذا الذي يستطيع أن يُحارِب ربَّه؟! أمَّا مَن عمل الحسنة فتُضاعَف له عشْر حسنات إلى سبعمائة ضِعْف كما جاء ذلك في حديثٍ صحيح.

    ومن ذلك أيضًا أنَّ الله لا يأخذ بكلِّ الذنوب التي يعملها المرء؛ بل يعفو ويصفح، وأنَّه سبحانه يحلم ويُمْهل للظالم؛ ليرجعَ إلى ربه ويتوب، ويعطيه فرصةً واسعة، وأنَّه سبحانه لا يأخذ أحدًابذنبِ ابنه وأبيه، ولا بذنب أيِّ أحدٍ من الناس؛ بل الله سبحانه بفضْله ورحمته يُلحِق الأبناءَ بآبائِهم إنْ كان الآباء في درجات عالية مِن الجَنَّة، والعكس صحيح إنْ شاء الله.
    ومن ذلك أيضًا: أنه سبحانه جعل الناسَ يَشفع بعضُهم لبعض، كما جعَل الشهداءَ يشفعون لسبعين مِن أقاربهم، وهكذا جعَل الله سبحانه رسولَنا صلَّى الله عليه وسلَّم يشفع لنا بشفاعة عظيمة، ويتردَّد إلى ربه شافعًا لأُمَّته؛ حيث سيُخرِج مِن النار ما شاء الله أن يُخرِج، إلا مَن حبَسه القرآن، ثم كذلك الله سبحانه وتعالى بفضْله وبرحمته يُخرِج منها مَن كان في قلْبه مثقالُ ذرَّة مِن إيمان؛ بل وأدْنى وأدنَى مِن ذلك، ثم يُخرِج الله مِن النار كلَّ مَن لم يفعل خيرًا قط بفضْله ورحمته فحسْبُ.

    ثم اعلم أنَّ الرحمة والفضْل لها عموم وخصوص، كما يدلُّ اسما الرحمن الرحيم مثلًا، ففضْل الله ورحمته عامٌّ لخلقه جميعًا، فيَرزقهم ويُعافيهم في الدنيا، بما فيهم الكفَّار الذين يسبُّونه، أما الرحمة والفضْل الخاص، فهو لعباده المؤمنين بتوفيقه وتأييده ونصره في الدنيا، وإدْخالهم الجَنَّةَ يومَ القيامة، كما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156].

    قال الإمام الطبريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثَنا القاسم، قال: ثَنَا الحسين، قال: ثَنِي حجَّاج، عن ابن جريج، قال: لمَّا نزلت: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، قالَ إِبْلِيس: أَنَا مِنْ كُلِّ شيء، قال اللَّه: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156] الْآيَة، فقالتِ الْيَهُود: وَنَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْتِي الزَّكَاة، فأَنْزلَ اللَّه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ [الأعراف: 157]، قالَ: نَزَعَها اللَّه عن إبْلِيسَ وَعَنِ اليَهُود، وَجَعَلَها لأُمَّةِ مُحَمَّد، سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ قَوْمك.

    بل إنَّنا نجد أنَّ الله سبحانه يُعَبِّر في القرآن عنِ الجَنَّة بأنها فضْل ورحمة، كما في آياتٍ كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُم ْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175]، وقوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ [الإنسان: 31].

    والمقصود هو أن نتذكَّر دائمًا فضْلَ الله ورحمته العظيمين، مع كرَمِه ولُطفه بعباده، وأن نكون متيقِّنين مِن ذلك، مهما استَعْصَتْ علينا الأمور واستَفحَلتْ، وإلا فسيغلبنا الشيطانُ وسنكُون فريسةً سهلةً لليأس مِن رُوح الله، المتسبِّب في الكفر بالله والعياذ بالله، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56].

    وقد قال تعالى:﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14]، وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: 7].

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَق اللهُ الخَلْقَ كتَب في كتاب، فهو عندَه فوق العرش: إنَّ رحمتي تَغْلِب غضبي))؛ متفق عليه.
    وفي رواية: ((سبَقتْ غضبي))، وفي رواية: ((غَلبَت غضبي)).

    فالواجب إذًا ألَّا يقنطَ أحدٌ مِن رحمة الله، فمَهْما أسرفَ الإنسانُ في الذنوب، فإنَّ رحمة الله أوسعُ وأعظم؛ ولذلك لا يَنبغي أن يُتمادَى في العصيان، ويُستَمَعَ إلى وساوس الشيطان وقد قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]، قال الحسَن البصريُّ رحمه الله: (انظروا إلى هذا الكَرَم، قَتَلوا أولياءَه ويَدعوهم إلى التوبة!)[1].

    ومِن كرَمِ اللهِ وحِلْمه العظيمين أن يَرزُق ويُعافِي مَن يسبُّه وينسب إليه آناءَ الليل وأطرافَ النهار الولدَ، وقد كادتِ السماوات أن يَتفطرْنَ مِن ذلك السبِّ، وتنشقَّ الأرض، وتخرَّ الجبال هدًّا، بل وأكثر مِن ذلك أنه سبحانه يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74] بعدَما قالوا ما قالوا، وفعلوا وما فعلوا!

    ولكن لا بدَّ أن يكون المرءُ بيْن الخوف والرجاء، ولا يرجِّح أحدهما عن الآخَر - كما قرَّرته الشريعة - بل تجد أنَّ أسلوب القرآن كله بَيْن الرجاء والخوف، حتى إنك تجد الآية الواحدة منه فيها الرَّجاء والخوف، كما قد تجد مثلَ ذلك في آيتين أو آيات كثيرة بالأسلوب نفسه، كما قال تعالى على سبيل المثال: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: 3]، وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]، وقال تعالى:﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49، 50]، ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 12 - 14].

    وأيضًا مِن فضْل الله ورحمته أنْ تَشكُرَ نِعَمَ الله عليك، الظاهرة والباطنة، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20].

    فمَن أنتَ يا ابنَ آدم، حتى تُجادِل ربَّك جهلًا وظلمًا وعدوانًا منك؟ حتى تنكرَ نِعمه الظاهرة والباطنة، وقد خلَقَك في ظلمات ثلاث، في هذا القرار المكين، وأخرجك مِن بطن أمِّك وأنت كقطعة لحم، وجعل لك السمعَ والبصر والفؤاد، ثم أنبتك نباتًا حسنًا، حتى سوَّاك بشرًا سويًّا؟!

    واعلمْ أنَّ أعظم نِعمة على وجه هذه البسيطة نِعمةُ الهداية إلى الإسلام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120، 121].

    فسببُ اجتباء الله لإبراهيم هو توحيدُه وعبادته، مع شُكْره لأنعُم الله المتنوِّعة كما ترى، ومِن ذلك الشكر العظيم أن يبقَى المرء شاكرًا متحسِّسًا بنعم الله، ولو ذهبتِ الدنيا وولَّت، بل حتى لو ابتلاه الله في جِسمه - نسأل الله السلامة والعافية - ما دام منعمًا بِنعمة الإسلام، وهَداه إلى الصِّراط المستقيم؛ ولذلك مِن السُّنَّة أن يقول المصاب: ((الحمد لله على كلِّ حال، وأعوذ بالله من حالِ أهل النار))، بل كل ذلك يدعو إلى أن ينظرَ المرء إلى الأمور بالتعمُّق وبالبصيرة وبالتيقُّن.

    وانظر واعتبر - يا أخي/ ويا أختي الكريمة - كيف جعَل اللهُ ثمرةَ هذا التوحيد والعبادة، والشكر والتقوى لإبراهيم عليه السلام؛ فعاقبتها الاجتباء والهداية إلى الصِّراط المستقيم، وكيف جعَلَه اللهُ وحْدَه أُمَّةً؛ بل وإمامًا للمتقين، حتى أمَرَ اللهُ في كتابه العزيز خيرَ البشرية محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يتَّبع مِلَّة إبراهيم حنيفًا، والله أعلم.

    ثم اعلم - أيها الأخ/ والأخت الكريمة - أنَّه لا يُمكن أن تدخل الجَنَّةَ بفضْل أعمالك - وإنْ كنتَ مأمورًا بها - إنْ لم يتغمَّدْك الله برحمته وفضْله يومَ القيامة؛ بل حتى الأنبياء لا يُمكن أن يدخلوا الجَنَّة بفضْل أعمالهم، فكيف بمَن هم دونهم؟!

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قارِبوا وسدِّدوا، واعلموا أنَّه لن يَنجوَ أحد منكم بعمَلِه))، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟! قال: ((ولا أنا، إلا أنْ يتغمَّدَني الله برحمة منه وفضْل))؛ رواه مسلم.

    من ثمرات الرحمة والفضل:
    التنعُّم في الدنيا بولاية الله وكلَئِه، وحِفْظه ورعايته.
    التوفيق والسَّداد.
    النصر والتأييد.
    الرِّفْعة في الدنيا، ولو لم يقصدْها المؤمن ولم يطلبها.
    خاتمة حَسَنة.
    تيسير الله له السَّكرات.
    والأمان مِن الفتَّانَيْن.
    وأنْ يُيسِّر الله له ويُعينه على أهوال يوم القيامة، أما الكافر، فقدْ قال الله تعالى في حقِّه: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [المدثر: 8 - 10].
    الدخول إلى الجَنَّة.

    أمَّا موجبات الرحمة، فمنها:
    الإخلاصُ والعمل بالدِّين: ((تركتُ فيكم ما إنْ تمسكْتُم لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّتي)).
    الرَّحمة والإحسان، والعدل مع الخَلْق، كما في الأحاديث: ((مَن لا يَرْحم لا يُرْحم))، ((الرَّاحِمون يَرْحمهم الرحمنُ))، ((ارْحموا مَن في الأرض يَرْحمْكم مَن في السماء))، ((إنما يَرْحم اللهُ مِن عباده الرُّحماءَ)).

    أما خصائص الرحمة والفضل، فهي:
    صِفتان مقدمتان من الغضب.
    منسوبتان إلى الرحمن حقيقة.
    محبوبتان إليه.
    وهُمَا واسعتان، كما قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، وقال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].

    أما الفَضْل، فكقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130].

    حدَّثَنا أبو اليمان، أخبرَنا شعيبٌ، حدَّثَنا أبو الزناد، عن الأعْرج، عن أبي هُريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يدُ اللهِ ملأى، لا يُغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ اللَّيْلَ والنهارَ، وقال: أرأيتُم ما أنفق منذ خَلَق السماوات والأرض، فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وقال: عرْشُه على الماء، وبيده الأُخرى الميزان يخفِض ويرفع))؛ رواه البخاري.

    وقال تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].
    والله سبحانه وتعالى أعْلى وأعْلم.
    ـــــــــــــــ
    [1] نصيحتي لك - يا أخي الكريم/ ويا أختي الكريمة - ملازمة الاستغفار، وكثرة التضرُّع والدعاء مع البكاء، وإصلاح ما أفسدته، بكثرة الأعمال الصالِحة؛ مِن حجٍّ وصَدقة، وبِرٍّ وصِلة، وجهاد، لا سيَّما كثرة الإحسان وتنويعه، ولقد ثبَت في الصحيحين: ((بينما كَلْب يُطِيف برَكِيَّة قد كاد يقْتلُه العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ مِن بغايا بني إسرائيل, فنزَعت مُوقَها، فاستقتْ له به فسقتْه، فغُفِر لها به)). "الموق": الخف، و"الرَكِيَّة": هي البئر.
    وكذلك ثبت أيضًا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أنه قال: ((لقد رأيتُ رجلًا يتقلَّب في الجَنَّة؛ في شجرة قطعَها مِن ظهْر الطريق، كانت تُؤذِي المسلمين))؛ رواه مسلم.



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •