أثر السحر
شريفة الغامدي
القليل منها له مفعول السِّحْر في النفوس، فهي قادِرة في لحظة على قلْبِ مزاجِك من حالة الغضَب إلى الهدوء، وبعضُها الآخَر له مفعول السِّحْر الأسود - إن كان للسِّحر ألوان - فهي كفيلة بنقْلِك من شدَّة الهدوء إلى قمَّة الهياج والغضب والانفعال.
إنَّها الكلمات.
فلا يَخفى ما للكلمة الطيِّبة من تأثير ساحرٍ في النُّفوس، وآسرٍ للقلوب، ومُحْتوٍ للعقول، وما للكلِمة الخبيثة السيِّئة من أثر مدمِّر قاتلٍ لا يَمْحُو سُوءَه شيء.
الكلِمة الطيِّبة كالشَّهد الحلْو في الفم، وكالبلْسم الشَّافي في القلْب، وكالنَّغم العذْب في الأذُن.
تقول إحدى الأخوات:
زُرْتُ عيادة الأسنان وكنتُ أقول في نفسي: هذه المرَّة سأقول للطَّبيبة لو سمحتِ "بدون تعليق"، وكلُّنا يعرف تعليقات أطبَّاء الأسنان اللَّاذعة حوْل التسوُّسات في أسنانِك، وضعْف لثتِك وأهمِّيَّة التَّنظيف جيِّدًا، ومهْما كانت درجة عنايتِك بأسنانك فهم لا يتوقَّفون عن التعليق، والحقُّ أنَّهم معْذورون فهُم لا يروْن إلَّا مواطن السوس في فمِك.
تقول: دخلتُ عليها فبادرتْني بابتسامة ودود، مستفسرة عمَّا أعانيه، فأخبرتُها، ثمَّ تقدَّمتْ لرؤية أسناني، ولَم تستطِع - كعادة الأطبَّاء - منْعَ نفسِها من التَّعليق، ولكنَّه كان أجْمل تعْليق سمِعْتُه في حياتي حوْل أسناني.
قالت الطَّبيبة: أسنانُك نظيفة جدًّا ولا تُعانين سوى بعض التسوُّسات البسيطة، والَّتي لو كانت بأسناني أنا لَمَا فكَّرت بعلاجها، ولكنِّي أودُّ منك عند تنظيف أسنانِك أن تُحاولي الوصول لِما بين الأسنان، واستخْدِمي الخيط لذلك، ولثتُك تحتاج لتقْوية؛ لذا سأعطيك غسولًا للفم، وأعقبتْ باسمةً: ليتَ كلَّ المراجعين مثلُك، ثمَّ بدأت التَّعامل مع أسناني، ولأوَّل مرَّة لم أنزعج من عمل الآلات في فمي!
والحقيقة لم تكُن أسناني كما وصفَتْ؛ فأنا أدرَى بحالِها، كما أنَّ تعْليقات سابقيها مِن الأطبَّاء المُتعامِلين مع أَسْناني أعْطَتْني تَصَوُّرًا واضحًا عمَّا عليْه الحال، ولكن كلِماتها كان لها مفعولُ السِّحْر؛ فقد شعرتُ بانتِشاء كبير ورضا.
والعجيب فعلًا في قصَّتها أنَّ كلِمات الطَّبيبة هي نفسها ملاحظات الأطبَّاء المزعجة، لكنَّها غلَّفَتْها بالكلِمة الطيِّبة، فتحوَّلَتْ إلى الثَّناء بدلًا من الانتِقاد، واختارت إبْهاج المريض بدلًا من إزعاجِه، فكسبتْ قلوبَ المرضى ودعواتِهم، كما كسبَت الأجْرَ بإدخالها السرورَ عليهم.
وهذا هو تأْثير الكلِمة الطيِّبة في النفس، فالثناء والمديح، وذكْر المحاسن وترْك الذَّمِّ، والنقد والتغافُل عن العيوب والسيئات - مِن الأمور المحبَّبة للنَّاس جميعًا دون استثناء، ومن الأمور المُهيِّئة للآخر لِتلقِّي وتقبُّل ما ستُعقِبُه مِن ملاحظات أو ما ستطْلُبه مِن طلبات، والكلِمة تؤدِّي آثارَها سلبًا أو إيجابًا على المتلقِّي؛ فقد تُسْعِده أو تُشْقِيه، كما أنَّ آثار الكلِمات في النَّفس تبقى، فكثيرٌ منَّا يتذكَّر كلِمة مدحٍ مميَّزة سمِعها مِن شخصٍ ما، مُعلِّم أو مدير أو رئيس أو صديق، فبقيتْ في ذاكرتِه سنوات، وعمِلتْ إيجابًا في حياته.
وفي الجانب الآخَر: كم مِن كلِمةٍ سيِّئة لا زالت متعلِّقة بالذَّاكرة، يتألَّم المرء مِن تذَكُّرِها لسنوات، وربَّما كان أثَرُها السَّلْبي سببًا في فشلِه أو تأخُّره في أدائِه، أو تَحصيله أو حياته!
سحر الكلمات:
أليس من السحر أن تؤثِّر الكلِمات على بعض المراكز في المخ - كما أَثْبَتَ العِلمُ - فتحفزها لإفراز بعض الإنزيمات أو الموادِّ التي تؤثِّر في الجسم كلِّه؟!
حيث قد تؤدِّي لزيادة إفراز هرمون الأدرينالين في الدَّم، والذي يتلازم ارتِفاعه مع حالات الغضَب فيزيد من شعورِك بالضَّغط النفسي، أو قد تحفز إفْراز بعض المواد المثبِّطة كالأندروفين أو الانكيفالين، اللَّتين تؤثِّران على مراكز الانفعال تحت مهاد المخ "Thalamus"، فتثبِّط الإشارات العصبيَّة، وتقلِّل من الشعور بالألَم.
ولا عجب في ذلك، أوليستْ بعض الكلِمات قادرةً على إثارة النَّفس ودفْعها للغضب، وما يصْحبه من تغيُّرات وانفِعالات وتوتُّر وهياج، ورعشات في الجسم، أو ضيق في التنفُّس، أو زيادة في ضربات القلب، أو ارتفاع في ضغط الدَّم، أو حتَّى إلى الإصابة بأمراض خطيرة؟!
وكلِمات أخرى تجعل الشَّخص ينتشي ويبتهِج، فنراه منشرح الصَّدْر، ضاحك الثَّغْر، يَمشي مسرعًا في خطاه، يكاد يَطير فرحًا فلا تلامس الأرضَ قدماه.
فالكلِمات قادرة على التَّأثير في الحالة النفسيَّة والمزاجيَّة والصحيَّة والجسميَّة للإنسان، والأطبَّاء أكثر مِن غيرهم يدْرِكون أثر الكلِمة الطيِّبة، وما لها مِن قدرة على التَّأثِير في نفوس النَّاس، فكلِمة من الطَّبيب مهْما كانت حالتك الصحّيَّة قادرة على أن تمدَّك بالطَّاقة والرَّغبة في الشِّفاء، وكلِمة مِن آخَر كفيلة بِجَعْلِك قعيدَ الفراش، ملازمًا له؛ رغْم بساطة ما تعانيه.
فمَن يُتقن هذه المهارة؟!
دخل عرْوة بن الزبير بُستانًا لعبد الملِك بن مروان، فقال عروة: ما أحسنَ هذا البستان! فقال عبد الملك: أنتَ، واللهِ، أحسَنُ منه، إنَّ هذا يؤتي أُكُلَه كلَّ عام، وأنت تؤتي أكلَك كلَّ يوم.
فاختِيار الكلمات وإنزالها منازلها المناسبة مهارة لا يتقنها إلَّا القلَّة.
رُوي عن عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنه - أنَّه قال: لولا ثلاثٌ لأحببتُ أن أكون قد لحقت بالله - عزَّ وجلَّ - وذكَر منها: أو أُقاعِد قومًا يَنْتَقُون طيِّب الكلام كما يُنتقى طيِّب الثمر.
فمَن ينتقي أطايب الكلِم؟!
إنَّ تَسْخير العبارات واستِعْمالها في مواطنها يغيِّر كثيرًا من ردود أفْعال الآخرين تجاهَها؛ فالرَّئيس الذي ينتقي العبارات السَّاحِرة التي لا تقبل الرَّفض مع مرؤوسيه عند تكْليفهم ببعض المهام هو رئيس فطن، ليس بِحاجة إلى استخدام سلْطتِه ورفْع صوته لإجبار المرْؤوس على أداء عملِه بشكل متقَن، فعبارةٌ مِن نوعِ "أنتَ أكفأ مَن يقوم بذلك"، أو "كلُّنا نعتمِد عليْك في إتمام هذا العمل" - مِن العباراتِ الآسِرة، الَّتي تجعل الموظَّف أو العامل يُنجز العمل على أتقن وأكمل وأجمل صورة.
وكلِمة ودود، أو دعْوة تودع الزَّوجةُ بها زوجَها صباحًا وهو متَّجه إلى عمله، كـ"وَفَّقَكَ اللهُ أيْنما ذهبتَ"، أو "أستوْدِعكَ الَّذي لا تضيع ودائعه"، "انتبِه لنفسك" - كفيلة بتهيِئَتِهِ لبدْء العمل بنشاط ورغْبة وقوَّة؛ لتحمُّل واجتياز ما قد يقابله من متاعب ومصاعب، وعقبات ومضايقات في عمله.
وأيضًا الزَّوج الَّذي يُبادر زوجتَه بكلِمات الودِّ، فإنَّه يُهَيِّئُها لتقبُّل ما سيعقُبها مِن طلبات، وكذا الَّذي يُثْني على زوجتِه بكلمات الإطراء الجميلة بعد وجْبة غداء، أو بعد وليمةٍ متْعِبة، يَمحو بثنائِه كلَّ تعبها.
وكذا ثناء الآباء على أبنائِهم يشجِّعهم ليؤَدُّوا أداءً أفضل، ويُبْلُوا بلاءً أحسَن، فالكلِمات الجميلة المحفِّزة المشجِّعة تعطيهم طاقةً فاعلة، ونشاطًا كبيرًا، ينعكِس إيجابًا على حياتِهم، فتجعلهم واثقين بأنفُسِهم، قادرين على التَّعامُل والتَّفاعل مع الآخرين.
والكلمات المُهينة، والَّتي تُقلِّل مِن قدْر الابن وفكرِه وفعله، وتذمُّ أخطاءَه وعيوبَه - تثبِّطه وتثقله، وقد تجْعله كارهًا لنفسِه وللآخرين، غيرَ قادر على التَّفاعُل أو التَّعاون معهم.
قولٌ معروف:
إنَّ الأمر يحتاج إلى القليل مِن تعْويد النَّفْس على النَّظر إلى الجانب الجميل في الآخَر، والتَّغاضي عن مواطن القُبْح ومواضع الضَّعف، فتعْويد اللسان على المبادرة إلى الثَّناء على الحسَن مِن الصفات ليس بالأمْر الصَّعب، ولكنَّه يَحتاج إلى المُمارسة لتعتادَ النَّفس عليه، فعند الرَّغبة في توجيهِ المرء إلى عيْب فيه، مِن المناسب البدْء بذكْر المحاسن أوَّلًا، حتَّى لو كانت قليلة؛ حتَّى لا تُحدِث الحزنَ في نفسِه والوحشة، ثمَّ التورية والإيحاء بعيوبِه وليس مواجهته بها مباشرة.
قال بعض الحُكماء: إذا رأيتَ مِن أخيك عيبًا فإنْ كتمْتَه عنْه فقد خُنْتَه، وإذا قُلتَه لغيره فقد اغتبْتَه، وإنْ واجهتَه به أوْحشْتَه، فقيل: كيف نصنع؟ قال: تُكني عنه وتعرِّض به، وتجعله في جملة الحديث.
وليس مِن المناسب الانتِقاد بشكل دائم، ولا ذكْر المعايب عندما يَتطلَّب الموقف المدْح، ومِن السيِّئ التطرُّق للسلبيَّات والمساوئ في لحظات الثَّناء على الصِّفات والأفعال الحسنة الحميدة، فذلك ممَّا يُفْسِد الحديث وينحو به منحًى بعيدًا عن هدفه.
كما أنَّ النُّصح في الخفاء يُؤتِي نتائجَه، بيْنما التَّوجيه والنقد في وجود الآخرين من الأمور المزعجة.
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي وَجَنِّبْنِي النَّصيحَة فِي الجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي فَلا تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تَلْقَ طَاعَهْ[1]
الكلِمة الطيبة صدقة:
ومِن الناس مَن وُفِّق إلى هذه الصدقة فألْجَم فمَه إلَّا عن القول الطيِّب الحسَن، والبعضُ عجزَ لسانُه إلَّا عن لفظ السُّوء مِن القول.
والإسلام يؤكِّد على انتِقاء الكلِمات والعناية بها، واختيار ما يناسِب منها في كلِّ المواضع، فإنَّ الرَّجُل ليتكلَّمُ بالكلِمة لا يُلقِي لها بالًا يَدْخُل بها الجَنَّة، وإن الرَّجُل ليتكلَّم بالكلمة لا يُلقي لها بالًا تهوي به في جهنَّم سبعين خريفًا.
والله تعالى يقول: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263]، ويقول: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 83].
ويحثُّ سبحانه على انتِقاء الكلِمات الحسنة في الوعْظ والدَّعوة؛ لتترك أثرًا طيِّبًا وتؤثِّر إيجابًا في النَّاس، فتُقبِل أنفسُهم بحُبٍّ إلى الإسلام؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
فاختِيار الكلِمات الحسَنة التي لا تؤْذي الآخرين ولا تؤثِّر سلبًا عليْهِم أكثرُ تأثيرًا وفاعليةً، وخيرٌ مِن إطلاق الكلِمات السيِّئة الفظَّة دون اكتراثٍ؛ لما قد تُحْدِثه مِن إساءة أو جرح في نفوس المُتلقِّين، بل الكلِمة الطيِّبة هي التي تجتذِب النُّفوس وتستدرِجُها، أمَّا الخبيثة السيِّئة فتُنفِّرها وتُبعدها.
وفي هذا السياق، قامت مديرة إحدى المدارس[2] في مُحاولة لتغْيير نهج المعلِّمات في استِخْدام العبارات المؤلِمة، عند إبداء ملاحظاتِهنَّ لأولياء الأمور حوْل بناتهم، قامتْ بتوْزيع جدول على المعلِّمات بالعبارات البديلة لعبارات الملاحظات غير المحبَّبة.
فبدلًا مِن استخدام عبارة "مشاغِبة" مثلًا، تستخدم عبارة "نشيطة في الحركة".
وبدلًا عن "كسولة"، تستخدم "قليلة التفاعُل" أو "تَخجل مِن المشاركة"، وهكذا.
وفَّقها اللهُ، فقد أدركَتْ أثرَ الكلِمة السيِّئة على التلميذات وأوليائهنَّ، فارتقَتْ بأسلوب معلِّماتها، وقد حقَّقتْ نجاحًا مشهودًا لها به.
كما سلكَتْ هي نفس هذا المسْلك الجميل في توْجيه المعلِّمات في مدْرستِها وتقويم أخطائهنَّ، فكان النَّجاح حليفًا لها، وتِلْك حقيقة؛ فالكِلمة الطيبة ترْقى بك وتحبِّب بك مَن حولَك، وتهيِّئ لك الفرص، وتفتح لك أبواب القبول وأبواب القلوب.
ولكنَّ كثيرًا من النَّاس يجهلون هذا التَّأثير السَّاحِر للكلمة الطيبة على المتلقِّي، والذي يَبقى ولا يزول، ويَطبع صورة طيِّبة لك في ذاكرة الآخرين؛ لذا احرص على أن تترُك هذا الأثر الطيِّب فيمَن حولك ومَن تتعامل معه.
سلاح ذو حدين:
إنَّ استخدام نفْس العبارة يُمكن أن يحْمل دلالات مختلِفة باختلاف الأسلوب المصاحِب للكلمة، ونبرات الصوت ودرجته، فتتحوَّل مِن الدلالة الإيجابيَّة إلى الدلالة السلبيَّة، والعكس.
فعبارة "أفْلَحْتَ يا ذكيّ" تَحْمل في ظاهرها معنى المديح، لكنَّها قد تدلُّ في سياق آخَر على التهكم "أفْلَحْتَ يا ذكي!"، باختلاف الدلالات التي تُصاحِبها، مِن نبرة الصَّوت، وطريقة النُّطق، وتعابير الوجْه.
لذا؛ فالتنبُّه إلى تدعيم الكلمات الطيِّبة بالعناصر الدلالية الطيِّبة يزيد مِن فاعليَّتها وأثرها الطيِّب، والأجمل مِن ذلك أن تنبع الكلِمات الجميلة مِن قلبِك لتصل إلى قلوبِهم.
هذا هو أثر السِّحْر، أليس في أثر السِّحر صرْف وعطْف؟!
وهذا هو أيضًا أثَر الكلمات، فالطيِّبة تعطِف القلوب إليْك، والسيِّئة تصرِفُها عنك، فاخترْ أي أنواع السحر تُحبُّ أن تُمارس.
ـــــــــــــــ ــــــ
[1] الأبيات للإمام الشافعي رحمه الله.
[2] تلك المديرة هي "مها المهنا" مديرة مدارس الإشراق الأهلية بالدمام سابقًا.