أصناف الناس في الرؤيا
د. يوسف بن دخيل الله الحارثي
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فينقسم الناس في الرؤيا عدَّة أقسام، تختلف باختلاف الناس، وباختلاف الرؤى، وباعتبارات مختلفة، تدور مع الأحوال، ولعلَّنا نفصِّلها هنا بحسب اعتباراتها المختلفة، فنبدأ مستعينين بالله، وهي كالآتي:
أولاً: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار صِدْق رؤاهم:
قال المناوي في فيض القدير: الناس ثلاثة أقسام:
• الأنبياء: ورؤياهم كلُّها صِدق، وقد يكون فيها ما يَحتاج إلى التعبير.
• والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصِّدق، وقد يقع فيها ما لا يُحتاج إلى التعبير.
• والأضغاث: وهم ثلاثة أقسام:
1- مستورون: والغالب استواءُ الحال في حقِّهم.
2- وفسقة: والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقلُّ فيهم الصدق.
3- وكفَّار: ويندر في رؤياهم الصِّدق؛ قاله المهلب" ا.هـ.
وقال المهلب أيضًا: "إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهْل الشِّرْك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلاَّ أنَّه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافةَ رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كلُّ ما يصحُّ له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءًا من النبوة".
• قال في "التثريب": "وقال أبو العباس القرطبي: لا تكون الرؤيا من أجزاء النبوَّة إلا إذا وقعتْ من مسلِم صادق صالح، وهو الذي يناسب حالُه حال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأكرم بنوْع مما أكرم به الأنبياء، وهو الاطِّلاع على شيء من عِلم الغيب".
• وقال في "شرْح سنن الإمام النسائي": "صِدْق الرؤيا قد يتحقَّق لغير نبي أيضًا، وليس من الخوارق، فدلالته على النبوة خفيَّة".
• قال الشاطبي في "الموافقات": "فاعلم أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مؤيَّد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالَّة على صِدْق ما قال، وصحَّة ما بيَّن، وأنتَ ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا بلا خلاف، إمَّا بأنه لا يخطئ البتة، وإما بأنه لا يقرُّ على خطأ إن فُرِض، فما ظنك بغير ذلك؟! فكلُّ ما حكم به، أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوْم، ورؤيا كشْف، مثل ما حكم به ممَّا ألْقى إليه المَلَك عن الله - عزَّ وجلَّ - وأما أمته، فكلُّ واحد منهم غيرُ معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكونَ رؤياه حُلمًا، وشوفه غير حقيقي، وإن تبيَّن في الوجود صِدقُه، واعتيد ذلك فيه واطَّرد، فإمكان الخطأ والوهم باقٍ".
ثانيًا: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار أهلية التعبير:
مستفاد من كلام المباركفوري - رحمه الله - في "تحفة الأحوذي"؛ بتصرف:
وهم أربعة:
• العالم بالرؤيا: لأنَّ العالِم يُؤولها على الخير مهما أمكنَه لعلمه بها.
• العاقل أو اللبيب: وهو العارِف بتأويلها من فَهْمه ورُشْده.
• الناصح: والناصح يُرشِد إلى ما ينفع في الرؤيا، ويحذر ممَّا قد يراه مضرًّا فيها.
• والحبيب: إن عَرَف خيرًا في الرؤيا قاله، وإن جهل أو شكَّ سكتَ عن ذلك؛ لحديث أبي رزين، وفيه: ((لا تحدِّث بها إلا لبيبًا أو حبيبًا))، وحديث أبي هريرة، وفيه: ((لا تُقصُّ الرؤيا إلاَّ على عالِم أو ناصح)).
ثالثًا: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار الحُسن والقُبح فيها:
أفاده الشهاب العابر في كتابه "البدر المنير في علم التعبير"؛ بتصرف:
• رؤيا الرجل الصالح المطيع: إن كان ظاهرُها حسنًا، وباطنها حسنًا، فهي رؤيا صادِقة ومبشِّرة.
• رؤيا الرجل الصالح المطيع: إن كان ظاهرُها قبيحًا، وباطنها حسنًا، فهي محذِّرة، كرؤيا ابن عمر، وحثه على قيامِ الليل عندما قال النبي الكريم في تعبيرها: ((نِعمَ الرجلُ عبدالله، لو كان يقوم من الليل)).
• رؤيا الفاجر المغتر: إن كان ظاهرها حسنًا، وباطنها قبيحًا، فهي إمهالٌ وغرور، كالرقص في جنازة، فتكون شماتة.
• رؤيا الفاجر المعاند: إن كان ظاهرها قبيحًا وباطنها قبيحًا، فهي رؤيا منذِرة بوعيد الله.
رابعًا: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار الاستحقاق:
• قال الشهاب العابر: "المنام الواحد ربَّما كان للرائي وحدَه، وربَّما كان لِمَن يحكم عليه، كمنام الأولاد، والأزواج، والعبيد، والشركاء؛ لاشتراك مَن ذَكرْنا في الخير والشر غالبًا.
• وكذلك الحُكم لكلِّ جماعة، معاشُهم، أو كسبهم بجهة واحدة، أو في مكان واحد، كأربابِ المدارس، والخوانك، والزوايا، ونحوهم، فما أصاب أحدَهم من خير أو شرّ، ربَّما رجع إلى الجميع.
خامسًا: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار الأحوال عامة:
• قال المناوي في "فيض القدير": "لكلِّ علم أصول لا تتغير، وأقيسة مطَّرِدة لا تضطرب، إلاَّ تعبير الرؤيا، فإنها تختلف باختلاف أحوال الناس، وهيئاتهم وصناعتهم، ومراتبهم ومقاصدهم، ومللهم ونحلهم، وعاداتهم".
• وقال ابن شاهين - رحمه الله - في "الإشارات": "ولو اعتمد المعبِّرون على ما كُتِب في الكتب الخاصة لعَجَزوا عن أشياءَ كثيرة لم تذكر في الكتب؛ لأنَّ علم التعبير واختلاف رؤيا الناس كبحر ليس له شاطئ، وقال: وقد اعتذرتُ أنه لو اعتمد المعبرون على كتب التعبير خاصَّة لعجزوا عن أشياءَ كثيرة، ولكن يحتاج المعبِّر أن يكون عالِمًا بأصول التعبير، ويعبر بما يظهر له من المعاني".
سادسًا: أقسام الناس في الرؤيا باعتبار منشئها:
• قال النووي: "والجميع خلْق الله - تعالى - ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علمًا على ما يسرُّ بغير حضرة الشيطان، ويخلق ما هو عِلم على ما يضرُّ بحضرة الشيطان، فينسب إلى الشيطان مجازًا لحضوره عندها، وإن كان لا فِعْلَ له حقيقة، وهذا معنى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الرؤيا من الله، والحُلم من الشيطان))، لا على أنَّ الشيطان يفعل شيئًا، فالرؤيا اسم للمحبوب، والحلم اسم للمكروه، هذا كلام المازري.
• وقال غيرُه: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافةَ تشريف، بخلاف المكروهة وإن كانتَا جميعًا من خلْق الله - تعالى - وتدبيره، وبإرادته، ولا فِعْل للشيطان فيهما، لكنَّه يحضر المكروهة ويرتضيها، ويُسرُّ بها.
بهذا نفرِّق بين الرؤيا الرحمانية، والحُلم الشيطاني، وهذا شبيهٌ لحديث ابن مسعود : " إن للملك لمة وللشيطان لمة فأما لمّة الملك: فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، وأما لمّة الشيطان: فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق.. "رواه الترمذي والنسائي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إيضاحا هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود وهو محفوظ عنه ، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم.
وقال القرطبي: "والرؤيا لها أسباب أُخَر؛ منها ملاقاةُ الأرواح، وإخبار بعضها بعضًا، ومِن إلقاء المَلَك الذي في القلْب والروع، ومن الرؤيا الروح للأشياء مكافحةً بلا واسطة".
• وقال اللكنوي في شرحه لموطأ مالك: "حديث أبي قتادة يقول: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((الرؤيا من الله، والحُلم من الشيطان، فإذا رأى أحدُكم الشيء يكرهه، فلينفثْ عن يساره ثلاثَ مرَّات إذا استيقظ، وليتعوَّذْ من شرِّها، فإنَّها لن تضرَّه - إن شاء الله تعالى)) قوله: باب الرؤيا بالقصْر: مصدر كالبُشرى، مختصَّة بما يُرى منامًا، وما يرى بالعين يقظةً يقال: رؤية، وقيل: الرؤيا عام، يقال لرأي العين أيضًا في اليقظة، إلاَّ أنَّ الأغلب استعمالُه في المنام، وقد بسط الكلام فيه القسطلاني في "مواهب اللدنية"، والزرقاني في "شرحه" في بحث المعراج.
وقوله: ((الرؤيا من الله)) في المسوى، في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحُلم من الشيطان)): فيه بيان أنَّه ليس كلُّ ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا، إنما الصحيح فيه ما كان من الله يأتيك به مَلَك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع:
قد يكون من فِعْل الشيطان يلعب بالإنسان، أو يريه ما يحزنه، وأَمَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذلك بأن يبصق عن يساره، ويتعوَّذ بالله منه، كأنَّه يقصد به طردَه إخزاءً.
وقد يكون مِن حديث النفس، كمن يكون في أمر أو حِرْفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشِق يرى معشوقَه، وقد يكون ذلك مِن مزاج الطبيعة، كمن غلب عليه الدَّمُ يرى الفصد والرعاف والحمرة، ومَن غلبه الصفراء يرى النار والأشياء الصفر، ومَن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والأشياء السود، والأهوال والموت، ومَن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والثلج، ولا تأويل لهذه الأشياء؛ كما في أوجز المسالك".
• وقال ابن القيم في كتابه العظيم "الروح": "والرؤيا الصحيحة أقسام:
منها: إلهام يُلقيه الله - سبحانه - في قلْب العبد، وهو كلام يكلِّم به الربُّ عبدَه في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
ومنها: مَثَل يضربه له مَلَك الرؤيا الموكَّل بها.
ومنها: الْتقاء رُوح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم.
ومنها: عروج رُوحه إلى الله - سبحانه - وخطابها له.
ومنها: دخول رُوحه إلى الجَنَّة ومشاهدتها".
سابعًا: أقسام الناس في الرؤيا بحسب وضوحها:
• وقال القرطبي في "التفسير": "ومنها – أي: الرؤيا -: ما يظهر معناه أولاً فأوَّل، ومنها ما لا يظهر إلاَّ بعد التفكُّر، ومِن قائل: إنَّ الرؤيا أمثال مضروبة يضربها الله للعبد بحسب استعداده وإلْفه على يَدِ مَلَك الرؤيا، فمَرَّة يكون مثلاً مضروبًا، ومرَّة يكون نفس ما رآه الرائي فيُطابق الواقع مطابقةَ العلم لمعلومة، وهذا أقرب من القولين قبله".
• القرطبي في "المفهم": "ففيه ما يدلُّ على أنَّ الرؤيا قد تقع موافِقةً لظاهرها من غير تأويل، وأن الرؤيا قبل وقوعها لا يَقطع الإنسان بتأويلها، وإنما هي ظنٌّ وحدْس، إلاَّ فيما كان منها وحيًا للأنبياء".
أخيرًا: مسائل متفرِّقة في أقسام الناس في الرؤيا:
مسألة: من كلام القرطبي في "جامع أحكام القرآن": "إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءًا من النبوَّة، فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلِّط أهلاً لها؟ وقد وقعتْ من بعض الكفار وغيرهم ممَّن لا يُرضَى دِينُه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا المَلِك الذي رأى سبعَ بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ورؤيا بختنصر، التي فسَّرها دانيال في ذَهاب ملكه، ورؤيا كِسْرى في ظهور النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومنام عاتكة عمَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمره وهي كافِرة، وقد ترجَّم البخاري "باب رؤيا أهل السجن"؟
فالجواب: أنَّ الكافر والفاجِر، والفاسق والكاذب وإن صدقتْ رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا مِنَ النبوَّة؛ إذ ليس كلُّ مَن صدق في حديث عن غيْب يكون خبرُه ذلك نبوَّة، وقد تقدَّم في "الأنعام" أنَّ الكاهن وغيره قد يُخبر بكلمة الحقِّ فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلَّة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهْل الشِّرْك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلاَّ أنَّه لا يجوز أن تُضاف إلى النبوة إضافةَ رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كلُّ ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءًا من النبوة" ا.هـ.
مسألة: أصدقُ الناس رؤيا أصدقُهم حديثًا، وهي مِنَّة من الله لعباده وإحسان، فأحرى أناس بها أهلُ الأيمان، وما يتضمن ذلك من صِدْق وصلاح، وإحسان وعبادة لله - سبحانه وتعالى - من غير إشراك، وهذا في القول والعمل - قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح - قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27]، وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63 - 64]، قال البخاري: الرؤيا الحَسَنة من الرجل الصالح، وفيه: عدَّة أبواب، باب رؤيا الصالحين.
مسألة: رؤيا الأطفال لا تختلف عن رؤيا الكِبار، بل هي أصدق؛ لأنَّ الطفل لا يعرف الكذب؛ كما ذَكَر ذلك القرطبيُّ في تفسيره على سورة يوسف - عليه السلام.
مسألة: رؤيا النِّساء مثل رؤيا الرِّجال، فقد ترجم البخاري "باب رؤيا النساء"، ثم أوردَ حديث أمِّ العلاء في قصة ابن عثمان بن مظعون ورؤياها: أنَّ له عينًا تجري، وقد نصَّ ابن حجر على عدم الفَرْق في فتحه.