الإنسان والحاجة إلى سكينة الإيمان


عبدالباقي يوسف





توطئة:
يقول الله - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]، وورد عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة))، وفي الصَّحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إنِ استطعت إليه سبيلاً))، وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، وعن بَهْزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جَدِّه أنَّه سأل النبيَّ عن الإسلام، فقال: ((أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزَّكاة المفروضة))[1].

وعن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، أنَّه سأل النبي: ما الإسلام؟ فقال: ((أنْ تسلم قلبك لله، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك))، قال: أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: ((الإيمان))، قال: وما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت)).

سكينة الإيمان:
دومًا فإنَّ الإيمانَ يدعوك إلى أن تكون مسالِمًا مع نفسك ومع الآخرين، وتُقبِل على أيِّ عمل من شأنه أن ينمِّي حالةَ السلم هذه في نفسك، إنَّ علاقتَك الكبرى والأولى هي مع الله، ومن ثَمَّ مع نفسك، وأنت يُمكنك أن تحصل الطمأنينة والسكينة لنفسك ما دُمت ترفع عنك وعن غيرك الضر، وتُحقق لنفسك ولغيرك النفع.

يُمكنك أن تُصغي إلى نفسِك، فتقول لك بأنَّ السارق ليس هو ذاك الذي يَمُدُّ يديه إلى ممتلكات الناس فحَسْب، السارق كذلك هو الذي يَمد أذنيه، فيسترق كلمةً ليست له، يَمد عينيه؛ ليختلس نظرة ليست له، وأمام ذلك ترى هذا الشخص يترفَّع عن نفسه، فيقفل سَمَّاعة الهاتف عندما يرد على هاتفه صوتٌ مُتشابك، وكما أنه يرتقي في ألاَّ يَمد يديه إلى جيب جاره، فيسرق ماله، فإنه يرتقي ألاَّ يمد بصره؛ ليسترقَ عرض جاره.

فتعاليم الإسلام فيها الخير كل الخير، لقد كان الناس بحاجة إلى دفء السلم أكثر مما كانوا بحاجة إلى صقيع الحروب، فجاء الإسلام؛ ليُخرجهم من صقيع الحروب إلى دفء وسكينةِ السلم بالكلمة الطيبة، وبواسطة أنبياء حملوا كتبًا، ولم يحملوا سيوفًا إلا لتحقيق الأمن والأمان والسلم في المجتمع, بَنَوْا مساجدَ تَجمع الناس، وتزرع فيهم المحبة لله وللناس.

عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّما أنا بشر، وإنَّكم تَختصمون إلَيَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنَّما أقطع له قطعة من النار))؛ متفق عليه[2].

يُمكن لك أن تعيشَ مع صفحات الإسلام حياةً سعيدة هادئة، بعيدة عن ردَّات الفعل، ورعود الاضطراب، تكون متمسكًا بحالة الهدوء العامَّة في حواسك، وتعطي لكل وقت وقته، ولكل أمر أمره، ولكلِّ فعل فعله، وأنت تنظر في شخص مضطرب يقول:
لساني يقول ولا أفعل، وقلبي يريد ولا أعمل، وأعرف رشدي ولا أهتدي، وأعلم لكنَّني أجهل، ويدركك حينئذ نور أن تفعل وتعمل وتهتدي وتعلم ولا تجهل.

بين الإيمان وقراءة القرآن الكريم:
قال عبدالله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحابُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سمعوا القرآن؟ قالت: "تدمعُ أعينهم، وتقشعر جلودهم، كما نعتهم الله".

وروى ابنُ أبي الدنيا من حديث عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت عبدالله بن حنظلة يومًا وهو على فراشه، وعُدته من علته، فتلا رجل عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، فبكى حتى ظننت أنَّ نفسه ستخرج، وقال: صاروا بين أطباق النار، ثم قام على رجليه، فقال قائل: يا أبا عبدالرحمن، اقعد، قال: منعني القعود ذكرُ جهنم، ولعلي أحدهم.

إنَّ القرآنَ الكريم يَجعلك تتفاعل معه، فتكون مفتيًا على ذاتك، وتفتح القرآن، فترى كلمات ربك الذي يراك تستغفره، وتسبِّح بحمده، إنَّك هنا على عَلاقة تفاعلية مُباشرة مع ربِّك، مع القرآن، ومع آيات الكون تكون في علاقة تفاعلية مُباشرة مع ربك - تبارك وتعالى.

قال ابنُ أبي مليكة: صحبت ابنَ عباس – يعني: في السفر - فإذا نزل، قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفًا حرفًا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب.

ومن حديث أبي بكر بن عياش قال: صليت خلفَ فضيل بن عياض صلاةَ المغرب، وإلى جانبي عليُّ بن فضيل، فقرأ الفضيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] فلما بلغ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6]، سقط عليٌّ مغشيًّا عليه، وبَقِيَ الفضيل لا يقدر أن يُجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاةَ خائفٍ، قال: ثم رابطت عليًّا، فما أفاق إلاَّ في نصف الليل.

وذات يوم سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يتهجَّد في الليل، ويقرأ سورة الطور، فلما بلغَ إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، قال عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى منزله، فمرض شهرًا يعودُه الناس لا يدرون ما مرضُه.

قال محمد بن حجادة: قلت لأم ولد الحسن البصري: ما رأيت منه - أي: الحسن البصري - فقالت: رأيته فتح المصحف، فرأيت عينيه تسيلان وشفتيه لا تتحركان، فبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبيَّن الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنَّجاة من الوبال، والغَيِّ من الرشاد، والزَّيغ من الفساد، والمتقون من الفجار، وإيثار سبيل من أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشُّهداء والصالحين، على سبيل المغضوب عليهم والضالين.

ثمار الإيمان:
فالحقُّ عيوف، والباطل شنوف، والشيطان مُتكئ على شماله يَدِبُّ بين الناس بالعَداوة والشَّحناء، عياذًا بالله من فتنة جاهل مغرور، أو خديعة فاجر ذي دهاء وفجور يَميل به الهوى، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى؛ قال العزيز الحكيم: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123 - 126].

يقول بعضُ المفسرين: إنَّ اللهَ تكفَّل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاَّ يضل في الدُّنيا، ولا يشقى في الآخرة، ففي الدنيا يعطيه أعظم نعمة، وهي نعمةُ الإيمان، وفي الآخرة يُعطيه ما هو أعظم، وهو نعمة النظر إليه - تبارك وتعالى - ورد في دُعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم إنِّي أسألك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة))؛ رواه النسائي.

وفي "صحيح مسلم" وغيره عن صهيب عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة، نادى منادٍ: يا أهلَ الجنة، إنَّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه - سبحانه - فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه))، وليس لك إلا الله، ليس لك دليل إليه أقرب من قلبك؛ {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65]، واعلم أنَّ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، و{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَك} [النساء: 84]، و{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].

ليس لك إلاَّ الله الذي هو وحدَه صمدك، الذي تصمد إليه في استعاذتك وعبادتك، وتعتضد به كل ساعة، وهو الذي لا يَحتاج منك شيئًا، وأنت الذي تَحتاج منه كلَّ شيء؛ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلَّ واحدٍ مَسألته، ما نَقَصَ ذلك مما عندي شيئًا)).

وانظر هنا إلى دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي يُمكن للمرء أن يُردِّده؛ ليدنوَ به من ربِّه، فيشرح له صدره: ((اللهمَّ إنَّك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلم سِرِّي وعلانيتي، ولا يَخفى عليك شيء من أمري، أنا البائسُ الفقير، المستغيثُ المستجير، الوجل المُشفق، المقر بذَنبِه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهالَ المذنب الذَّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضَّرير، مَن خضعت لك رقبتُه، وذل لك جسدُه، ورَغِمَ لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك ربِّ شقيًّا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين))[3].

يقول الخبيرُ بِنِيَّةِ الإنسان في بيانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].

ورأفةً منه - جلَّ وعلا - فقد دعا الإنسان إلى نور الإيمان؛ ليُخرجَه من الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمات نفسه إلى نور ربِّه، فمن دون أن يَمسه شيء من هذا النور الإلهي المبارك، وترتوي روحه بمياه الإيمان النقية - يلبثُ هذا الكائن في معزل عن ربِّه عُرضةً لنوازعِ الشرِّ في كوامنه، وفي كائناتٍ أخرى مَرئية وغير مَرئية، يعيش في مُحيطها، وتعيش في مُحيطه، فيوجه عزَّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]، ولا يلبث توجيه العزيز في محض الأمر، لكنَّه وبواسع رحمته يُظهر لهم أنوارَ الإيمان التي سوف تسطع على ظلماتِهم، واضطراب نفوسهم، فتحقق في دواخلهم الأمن والسكينة والنُّزوع إلى رحاب الفضيلة، وتشفيهم من أمراضٍ رُوحية وبدنية، وتَمحو كل أثر من آثار ما اقترفوا من سيئات الأعمال والأقوال.

نور الإيمان:
قال الله - جل في علاه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، هذا كله إلى جانب وعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، ثم ينتقل بمخيلة الإنسان؛ ليصور نعيمه، وقد تزين بنور الإيمان، وهذه بِشَارة من ربِّ العزة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِ مْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].

تنمو بذرة الإيمان، وتترعرع في تربة الروح بمياه الذِّكر، وبالإكثار من مُمارسة سلوك إيماني، وما أن سبَّح الإنسان في محراب الذِّكر، وحب الله في كل عمل يعمله، وكل لفظ يلفظه، حتى يجد الله يمن عليه بهداية قلبه.

ولا يغرن أحدٌ أن الإيمان ألفاظٌ تَجري على اللسان، فأيُّ لفظ لم يقترن بممارسة إيمانية عَميقة، مثله كمثل الوعاء الفارغ، فليس كل لافِظ لشهادة الإيمان وجد حلاوته، وقد استفاضَ خاتم النبيِّين - الذي أولاه ربه مهمة نشر وشرح كتاب الإيمان - في وضع نقاط كلمة الإيمان على حروفها في قلب المؤمن، وهو في هذا سيد الشراح، والمشكاة التي يهتدي بها الشراح من بعده، ومن شروحاته لكلمات ربِّه للناس، وهو يبين تهيئة أسبابِ حلول نور الإيمان على قلب المؤمن: ((ثلاث من كنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأنْ يُحبَّ المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار))، والحكمة في هذا الموضع من مَحبة الله أنَّها تَملأ قلبَ ومشاعر الإنسان بمحبة رسولِه، الذي يُبادل المؤمن مَحبة أعلى مرتبة منه، ومن مَحبة الرسول تتوالد سلوكيات مَحبة الناس، لا لغايات أو لمصالح دُنيوية زائلة، بل تتوالد كما هي مَحبة خالصة في الله.

فأيُّ مَحبة حقيقيَّة صادقة لا تُحقِّق كينونتَها، إلاَّ إذا سبقتها هذه المحبة الرَّبَّانية الزَّكية، أمَّا إذا كان فاقدًا لهذه المحبة الإلهية الطَّاهرة، فإنَّ بذرة المحبة تلبثُ ميتة لا يُحركها ساكن من دون الله في عمق فؤاده.

هذا الكائن الذي يحيا في الناس ببذرة مَحبة ميتة هو في واقع الأمر لا انتماء له لسلالة البَشَر إلاَّ مظهره، فيكون ممسوخًا في باطنه؛ إذ لا يرى أيَّ قيمة أو مُتعة في الحياة برُمَّتِها خارجًا عن لحظات اكتسابه للمال التي يَمتلئ فيها شعورًا بالرِّضَا عن نفسه، وعن جدارة العيش، ويبلغ مرحلة نرجسية غاية في السلبيَّة لا ينظر فيها نظرة إلاَّ إذا جَرَّت عليه نفعًا، ولا يَخطو خطوةً إلاَّ إذا لمس خلفها مصلحة، لا يَمد كفَّ سلام إلاَّ لطمع في نفسه، لا يلفظ كلمةَ حقٍّ إلاَّ إذا رأى كسبًا، بل لا تتناهى له فكرة إلاَّ وقد قلبها، حتى أتى على وجهها المالي النفعي الزهيد.

كلُّ حركة تبدر منه تكون مرهونة سابقًا بالرِّبح والخسارة في هيئة مادية خالصة، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فلا تلمَس في مَذهبه خَصْلَة حميدة، أو موقف تضحية، أو ذرة رحمة، أو كلمة تسامح، إنَّه كائن بشع فاسد أينما وطأت قدماه، فإنِ ابتاع سلعة، نظر إلى قيمتها قبل أن ينظر إلى جودتها، وإن أنتجَ سلعةً، نظر إلى بَدَلِها النَّقدي قبل أنْ ينظرَ إلى جودتِها، فيرتمي آخر الليل في أحضان كيسه سعيدًا، وكله انتظار لصباح جديد تحسبًا لزيادة أخرى، بينما عباد الله بوغتوا بهشاشة بضاعته وفسادها، وهم يُكيلون اللَّعنة تِلْوَ الأخرى لمنتجها ومروجها وبائعها.





ـــــــــــــــ ــــــــ
[1] رواه أحمد.
[2] "صحيح البخاري"، 9/86، و"صحيح مسلم"، 3/1337.
[3] رواه الطبراني عن ابن عباس.