خصائص المنهج السلفي (٢) التوسط والاعتدال بين المناهج الأخرى
أهل السُنَّة والجماعة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين أهل التعطيل الذين عطلوا أسماء الله وصفاته فنفوها وبين أهل التمثيل الذين شبهوا الخالق بالمخلوق
أهل السُنَّة والجماعة وسط في باب القدر بين الجبرية الذين قالوا بأن الإنسان مجبور في أفعاله وبين القدرية الذين أثبتوا للعبد مطلق الحرية في أفعاله وتصرفاته ونفوا خلق الله لأفعال العباد
السلف لم يعطلوا العقل ويحجروا عليه ويلغوا وظيفته كما يزعم خصومهم من أهل الكلام أو من لا خبرة له بمنهج السلف من غيرهم
إن المنهج السلفي يعني الطريق الواضحة البينة لما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمنهج السلفي ليس حقبة تاريخية مضت وانقضت، بل هو منهج له أصوله وقواعده وخصائصه، وليس له وقت ينتهي إليه ولا يتقيد بمكان ينحصر فيه، وإن معرفة خصائص المنهج السلفي تعين على تحديد معالمه وتمييز هويته في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى بالانتساب لهذا المنهج المبارك، ومن الرسائل الجامعية المميزة التي تناولت هذا الموضوع رسالة د. مفرح بن سليمان القوسي (عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) التي كانت بعنوان: (المنهج السلفي: تعريفه، تاريخه، مجالاته، قواعده، خصائصه).
الخاصية الثانية: التوسط والاعتدال بين المناهج الأخرى
من نعمة الله -تعالى- على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطًا عدولاً بين سائر الأمم كما قال -تعالى-: {وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمة وسطا}، ومن نعمته أيضًا أن جعل أهل السُنَّة والجماعة في هذه الأمة وسطاً عدولاً بين سائر الفرق الأخرى، فالدارس والمتفحص لمنهج السلف (أهل السُنَّة والجماعة) ومناهج الفرق الأخرى في كثير من مسائل العقيدة وأبواب الدين، يجد مناهج تلك الفرق تدور بين الغلو والإفراط، وبين التقصير والتفريط، ومنهج أهل السُنَّة والجماعة بين تفريط هؤلاء وإفراط أولئك على هدي قاصد وصراط مستقيم، فهم وسط في اعتقادهم وأقوالهم وعباداتهم وسائر أمورهم. ومن أمثلة تلك الوسطية ما يلي: (1) توسط في الأسماء والصفات
مما يميز منهج أهل السُنَّة والجماعة توسط منهجهم في باب أسماء الله وصفاته بين أهل التعطيل الذين عطلوا أسماء الله وصفاته فنفوها أو نفوا بعضها أو أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، وبين أهل التمثيل الذين شبهوا الخالق بالمخلوق، فجعلوا ماورد من صفات لله -جل وعلا- مماثلة ومشابهة لصفات المخلوقين، وقد أشار ابن تيمية إلى هذه السمة في منهج السلف فقال: «ومذهب السلف بين مذهبين وهدى بين ضلالتين: إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء}، رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، رد على أهل النفي والتعطيل، فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدمًا. (2) توسطهم في باب القدر
توسط منهجهم في باب القدر بين الجبرية الذين قالوا بأن الإنسان مجبور في أفعاله ليس له فيها أي قدرة ولا إرادة ولا اختيار، وبين القدرية الذين أثبتوا للعبد مطلق الحرية في أفعاله وتصرفاته ونفوا خلق الله لأفعال العباد، وقالوا إن أفعالهم حادثة من جهتهم لا فاعل ولا محدث لها سواهم. (3) توسطهم في باب الأسماء والأحكام
توسط منهجهم في باب الأسماء والأحكام بين الخوارج الذين حكموا بكفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار لا يخرج منها، وكذلك المعتزلة الذين قالوا بأنه في منزلة بين منزلتين فليس مؤمنًا ولا كافرًا، وبأنه مخلد في النار إلا أن عذابه فيها دون عذاب الكفار، وبين المرجئة الذين قالوا بأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان فلا يؤثر ارتكاب الكبائر في إيمانه، وبأنه في الآخرة من أهل الجنة إذا مات مؤمناً موحداً، فلا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. حيث يرى أهل السُنَّة والجماعة أن مرتكب الكبيرة مؤمن عـاص أو فاسق، وأنه إذا مات ولم يتب فهو داخل تحت مشيئة الله -سبحانه- إن شاء غفر له وأدخله الجنة دون عذاب، وإن شاء أدخله النار وعذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه منها. يقول أبو عثمان الصابوني: «ويعتقد أهل السُنَّة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت أو كبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله -عز وجل-، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانماً غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب واكتسبه واستصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذَّبه لم يُخلّده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار»، ويقول ابن بطة العكبري: « وقد أجمع العلماء لا خلاف بينهم أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يخرج من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. (4) توسطهم في باب الوعد والوعيد
توسط منهجهم في باب وعد الله ووعيده بين المرجئة الذين غلبوا نصوص الوعد وأغفلوا نصوص الوعيد، فقالوا: كل ذنب سوى الشرك فهو مغفور محتجين بقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وبمقولتهم المشهورة التي ذكرناها آنفاً: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وبين الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في نصوص الوعيد فأوجبوا على الله ما توعد به العصاة من عقاب، وقالوا: إنه لا يجوز أن يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا، كما أوجبوا عليه -سبحانه- أن يفي ما وعد به عباده من أجر وثواب على سبيل الاستحقاق والعوض. حيث يأخذ أهل السُنَّة والجماعة بنصوص الوعد والوعــيــد مــعـاً، ويجمعون بين الخوف والرجاء، ويرون أنه يجوز أن يعفو -سبحانه- عن المذنب من المؤمنين، وأنه -سبحانه- يخرج أهل الكبائر من النار فلا يخلد فيها أحداً من أهل التوحيد، وأن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئاً، وليس له أن يوجب على ر به شيئاً لا لنفسه ولا لغيره، وأنه -سبحانه- لاشك سيثيب المطيعين كما وعد فإنه صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ولكن لو قُدِّر أنه عذَّب من يشاء من عباده لم يكن لأحد منعه ولن يعذبهم ظلماً لهم، كما قال -تعالى-: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ومَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لن يُدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة»، وقال أيضاً في الحديث الآخر: «لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم». (5) توسطهم في الموقف من الصحابة
توسط منهجهم في الموقف من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضوان الله -تعالى- عليهم بين الخوارج الذين يكفرون عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- ومن والاهما ويتبرؤون منهما، والمعتزلة الذين يفسقون عثمان وعلياً وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين -رضي الله أجمعين- ويردون شهادتهم ، ويتبرؤون من بعض الصحابة ويشتمون بعضهم ويطعنون فيهم، ويتهمونهم بالكذب والجهل ونحو ذلك. حيث يرى أهل السُنَّة والجماعة أن خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، كما يرون محبة جميع الصحابة وموالاتهم والدعاء لهم والترضي عليهم ورعاية حقهم وذكر محاسنهم والتحدث بفضائلهم والكف عما شجر بينهم وبغض من يبغضهم، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، كما يرون تعظيم قدر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن والدعاء لهن ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين. هكذا أهل السُنَّة والجماعة في الفرق
ويشير ابن تيمية في نص جامع إلى هذه الأمثلة المتقدمة التي تميز فيها السلف بالتوسط بين مناهج سائر الفرق الأخرى، فيقول بعد حديثه عن وسطية هذه الأمة بين سائر الأمم: «وهكذا أهل السُنَّة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله بها نفسه، حتى شبهوه بالعدم الموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات...، وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}. وهم في باب الأســـمـــاء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية. توسطهم في استخدام العقل
توسط منهجهم في استخدام العقل في القضايا والمسائل الشرعية، فلم يعطلوا العقل ويحجروا عليه ويلغوا وظيفته كما يزعم خصومهم من أهل الكلام أو من لا خبرة له بمنهج السلف من غيرهم، كما أنهم لم يُحكموه في جميع أمورهم ويطلقوا له العنان في الخوض في المسائل الاعتقادية الغيبية مما لا مجال فيها للعقل، ومما هو فوق طاقته وقدرته كما فعل أهل الضلال، وإنما وزنوا الأمور بموازين الشرع وقدروا العقل قدره وأتاحوا له ممارسة وظيفته التي خلقه الله -سبحانه وتعالى- من أجلها دون إفراط ولا تفريط، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في هذا البحث.
اعداد: الشيخ د. مفرح بن سليمان القوسي