السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخوتي الكرام
يسرني ان انقل اليكم هذا المبحث المهم من كتاب:
"أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة" للدكتور خالد كبير علال رجاء الاستفادة من تعقيبات القراء
موقف ابن خلدون من العرب:
أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب ، فهل قوله هذا صحيح ؟
لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- . و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية .
و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم . و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه .
و أما عن الأحكام التي أصدرها ابن خلدون في حق العرب ، فسنذكر منها ثلاثة ، أولها إنه قال : (( إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط )) ، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم ، فلا يطلبون إلا الأمور السهلة ،و لا يركبون المخاطر ،و لا يذهبون إلى المزاحفة و المحاربة إلا دفاعا عن النفس .
و أقول : أولا إن حكمه هذا خاطئ من أساسه ،و لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب ، شرعا و لا عقلا ، و ليس له في زعمه هذا دليل شرعي ، و لا عقلي ،و لا تاريخي ، فكيف سمح لنفسه بإصدار هذا الحكم المطلق الجائر المضحك ؟ ، نعم ليس له في ذلك دليل صحيح ، و هو حكم لا يصح إصداره في حق أي أمة من الأمم ، لأن كل الشعوب لها القابلية و الاستعداد للنهوض و السقوط ، و الانتصار و الانهزام ، و هي المتحكمة في زمام أمرها ، فإذا اجتهدت و توحدت انتصرت و حققت أهدافها ، و إذا تناحرت و تكاسلت و اختلفت فيما بينها ، انهزمت و ذهب ريحها و فقدت مكانتها بين الدول ، قال تعالى (( و تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/ 140-، و أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل و مضحك ، بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة .
و ثانيا إنه لو كان العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة ، في قوله تعالى (( كنتم خير امة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر))-سورة آل عمران/110- . و ما حملهم أيضا مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء ، و ما وعدهم أيضا بالنصر المؤزر ،و التمكين في الأرض ، في قوله تعالى : (( و عد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ،و ليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم ))-سورة المائدة /9- . و لاشك أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات ، و لا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام ، و لا يعدها بتلك الانتصارات و التمكين في الأرض، و بما أنه وصفها و وعدها بذلك ، فلا شك أنها أهلا لذلك .
و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم )) .
و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان .