حول إعجاز القرآن






كتبه/ أحمد الفيشاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -عز وجل- بلطفه ورحمته، وعلمه وحكمته قد جعل القرآن الكريم أعظم معجزة لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ أنه أعظم الأنبياء وخاتمهم فلا نبي بعده، وشريعته هي الشريعة الخاتمة المحكمة الباقية إلى قيام الساعة، فكان من المناسب أن تكون معجزته أعظم المعجزات وأدومها، فخصه -عز وجل- بما لم يخص به نبيًا من الأنبياء قبله، فجعل معجزته العظمى تجمع بين الحجة والدعوة في آن واحد؛ فلا تزال دعوته ظاهرة بين الخلق ما بقي بينهم القرآن، ولا تزال الحجة قائمة عليهم ما بقي بينهم القرآن، ولا يزال القرآن ظاهرًا بين العباد إلى قرب قيام الساعة.
فهذا من أعظم ما خُص به النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف غيره من الأنبياء الذين كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة، وكانت شريعتهم مؤقتة؛ فكانت آياتهم، ومعجزاتهم مناسبة لحالهم، فلم تـُعرف آياتهم ومعجزاتهم معرفة عامة بين الأمم كما عُرف القرآن، وكثير ممن وصلت إليهم معجزات الأنبياء لم تصل إليهم دعوتهم ودينهم، أو قد وصل إليهم دين محرف ليس هو دين الأنبياء، فلم تجمع معجزاتهم بين الحجة والدعوة كما هو حال القرآن، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبيِّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).
فبيَّن -صلى الله عليه وسلم-: أنه ما من نبي إلا أوتي من الآيات والمعجزات ما يدل على صدقه ونبوته، وتقام به الحجة على أمته، وأن الله -عز وجل- قد خصه من بين الأنبياء بأن قرن بين معجزته ودعوته، فلا ينفكان إلى قيام الساعة، وليس المقصود حصر معجزاته -صلى الله عليه وسلم- في القرآن، ولا أنه لم يؤتَ من جنس معجزات من سبقه من الأنبياء، بل المقصود أنه المعجزة العظمى التي خُص بها -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الأنبياء؛ إذ جعله الله -تعالى- معجزة مستمرة إلى يوم القيامة، وجمع فيه بين الحجة والبرهان، والدعوة والبيان؛ فعمَّ نفعه من حضر ومن غاب، ومن وُجِد ومن سيوجد، ولذلك يكون من يتبعه -صلى الله عليه وسلم- بسببه أكثر ممن اتبع الأنبياء قبله؛ لبقاء معجزته، ودوام دعوته.
فالقرآن العظيم أعظم معجزات الأنبياء على الإطلاق، وفيه من الهدى والفرقان، والحجة والبرهان ما يكفي من له أدنى تأمل، ولذلك لما أعرض عنه من أعرض من مشركي العرب، وتعنتوا في طلب معجزات بعينها أنكر الله -عز وجل- عليهم ذلك؛ فقال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) (العنكبوت:51)، فأي وجه للمطالبة بالآيات والمعجزات بعد هذا القرآن الذي هو أعظم حجة على العباد؟! فليس وراء ذلك سوى الهوى والعناد، فمن لم يكفه القرآن فلا كافي له.
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- بعد قوله -عز وجل-: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ): "هذا كلام مختصر جامع، فيه من الآيات البينات، والدلالات الباهرات، شيء كثير، فإن مجرد إتيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا القرآن، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم علوم الأمم؛ معجزة باهرة، وآية عظيمة على صدقه.
ثم عجزهم عن معارضته، لا سيما مع تحديه إياهم آية أخرى.
وعلمه وجزمه أنهم لا يقدرون على معارضته بمثله آية أخرى.
ثم إخباره عن قصص الأولين، وأنباء السابقين، والغيوب المتقدمة والمتأخرة، مع مطابقته للواقع، ثم هيمنته على الكتب المتقدمة، وتصحيحه للصحيح منها، ونَفْيُ ما أدخل فيها من التحريف والتبديل، ثم هدايته لسواء السبيل في أمره ونهيه، فما أمر بشيء فقال العقل: "ليته لم يأمر به"، ولا نهى عن شيء فقال العقل: "ليته لم ينه عنه" بل هو مطابق للعدل والميزان، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول؛ فإرشاداته وأحكامه مسايرة لكل حال وكل زمان، بحيث لا تصلح الأمور إلا به؛ فجميع ذلك يكفي من أراد طلب الحق، فلا كفى اللّه من لم يكفه القرآن" انتهى من تيسير الكريم الرحمن بتصرف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"القرآن يظهر كونه آية وبرهانـًا من وجوه جملة وتفصيلاً، أما الجملة فإن القرآن نفسه فيه تحدي الأمم بالمعارضة، قال -تعالى- في سورة "الطور": (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ . فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور:33-34)، وقال في سورة "سبحان": (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء:88)، ثم تحداهم بعشر سور مثله؛ فقال -تعالى- في سورة "هود": (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)، ثم تحداهم بسورة واحدة منه فقال -تعالى- في سورة "يونس": (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:37-38)، وهذا التحدي كان بمكة؛ فإن هذه السور كلها مكية، ثم أعاد التحدي بعد الهجرة فقال في "البقرة" -وهي سورة مدنية-: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:23-24).
فأعجز جميع الأمم عن معارضته مع كمال رغبتهم، وحرصهم على معارضته، وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة، فلما كانت دواعي العرب، وغيرهم على المعارضة تامة، وانتفت المعارضة؛ علم عجز جميع الأمم عن معارضته، والإتيان بمثله.
وما زال الأمر على ذلك من حين مبعثه -صلى الله عليه وسلم-، وإلى اليوم؛ لم يتمكن أحد من معارضته بمثله، وقد انتدب غير واحد لمعارضته؛ فجاء بكلام فضح به نفسه، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله.
فلو كان هذا القرآن تكلم به محمد -صلى الله عليه وسلم- من نفسه بلا وحي من الله، بل كما يتكلم به حذاق الناس من نظم ونثر؛ لكان هذا ممكنـًا لغيره، مقدورًا عليه من بني جنسه، فكيف وقد تحداهم بالمعارضة مرة بعد مرة، وهي تبطل دعوته؟! فلو كانوا قادرين لعارضوه؛ فإن وجود الداعي التام المؤكد مع توفر القدرة يوجب وجود المقدور.
ومن أضعف الأقوال: قول من يقول من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم: أنه معجز بصرف القلوب والدواعي عن معارضته، وبسلب قدرتهم على ذلك؛ فإن هذا يقال على سبيل التنزل، وهو أنه لو قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله فامتناعهم جميعًا عن هذه المعارضة مع قيام الدواعي العظيمة لمعارضته من أبلغ الآيات، فثبت كونه خارقـًا للعادة على كل تقدير، فهذا غاية التنزل، وإلا فالصواب المقطوع به الذي عليه أهل الحق أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضته لا يقدرون على ذلك مع أن قدرتهم كما هي قبل سماعه وبعد سماعه، وقبل التحدي وبعده، بل دواعي معارضته بعد التحدي أوفر وأكثر.
أما التفصيل فيقال: نفس نظم القرآن، وأسلوبه عجيب بديع ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر، ولا الرجز، ولا الخطابة، ولا الرسائل، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن، وبلاغته هذا عجيب جدًا، خارق للعادة، ليس له نظير في كلام جميع الخلق، وبسط هذا وتفصيله كثير طويل، ولبيانه مقام آخر.
وكون القرآن معجزة ليس هو من جهة نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة فصاحته وبلاغة ألفاظه في الدلالة على المعنى فقط، بل هو آية بينة من وجوه متعددة: من جهة لفظه، ومن جهة نظمه، ومن جهة بلاغته، ومن جهة معانيه؛ فإن الإعجاز في معناه أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه ونظمه.
فما أخبر به القرآن في باب توحيد الله، وأسمائه وصفاته أمر عجيب، وخارق للعادة لم يوجد له مثل في كلام بشر، لا نبي ولا غير نبي، وما أخبر به عن الملائكة، والجن، وخلق آدم، والعرش، والكرسي، وغير ذلك من أخبار الغيب الماضي والمستقبل، وما أمر به القرآن من الدين والشرائع، وما بيَّن فيه من الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة.
فمن تدبر ما صنفه جميع العقلاء في العلوم الإلهية، والخلقية، والسياسية، وما جاء في الكتب السابقة: كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتب الأنبياء؛ وجد بين ذلك، وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظه ونظمه، وبين سائر ألفاظ العرب ونظمهم، وكل ما ذكره الناس من وجوه إعجازه فهو حق ولا تناقض في ذلك، بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له، وهذه جمل لبسطها تفصيل طويل، ولهذا قال -تعالى-: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ . أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:50-51)، فالقرآن كافٍ في الدعوة والبيان، وكافٍ في الحجة والبرهان" انتهى من الجواب الصحيح بتصرف.
فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء همنا وحزننا، واجعله حجة لنا لا علينا، اللهم آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.