من الشرك الأكبر دعاء الموتى و المقبورين من أصحاب الأضرحة والمقامات ، والاستعانة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم من شفاء المرضى وتفريج الكربات ، وإغاثة الملهوف ، والنصر على العدو ، مما لا يقدر عليه إلا الله ، واعتقاداتهم بأنهم يضرون وينفعون . وهذا أصل شرك العالم ، كما قال ابن القيم .
وللناس في هذا الشرك أمران :
1 – أن الناس لا يسمون هذا الدعاء والاستعانة والاستغاثة بأصحاب القبور عبادة ، ويظنون أن العبادة إنما تنحصر في الركوع والسجود والصلاة والصيام ونحوها .
والحقيقة أن روح العبادة – كما ذكرنا – هو الدعاء ، كما جاء في الحديث : (( الدعاء هو العبادة )) .
2 – أنهم يقولون : نحن لا نعتقد أن هؤلاء الأموات الذين ندعوهم ونستغيث بهم آلهة أو أرباب لنا ، بل نعتقد أنهم مخلوقون مثلنا . ولكنهم وسائط بيننا وبين الله وشفعاء لنا عنده .
وهذا من جهلهم بالله جل جلاله ، فقد حسبوه مثل الملوك الجبارين والحكام المستبدين ، لا يستطاع الوصول إليهم إلا بوسطاء وشفعاء .
وهو نفس الوهم الذي سقط فيه المشركون قديما ً ، وحين قالوا عن آلهتهم وأصنامهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) .
ولم يعتقدوا يوماً أن آلهتهم وأصنامهم تخلق أو ترزق أو تحيى أو تميت ، كما قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) .
( قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله ، فقل أفلا تتقون ) ؟ .
ومع هذا الاعتقاد في الله تعالى ، أنه خالق السموات والأرض ، وأنه الرزاق المدبر المحيى المميت .. والاعتقاد في الأصنام .. أنها مجرد وسائط وشفعاء لهم عند الله .. مع هذا كله رماهم القرآن بالشرك ، وسماهم المشركين ، وأمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويقولوا : (( لا إله إلا الله )) فمن قالها فقد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام .
إن الله تعالى غني عن الوسائط والشفعاء ، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، كما قال تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) .
(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) .
وبابه تعالى مفتوح لكل من أراد الدخول ، ليس عليه حاجب ولا بواب .
الإسلام يسد المنافذ إلى الشرك
لقد جاء الإسلام بالتوحيد الخالص ، وحارب الشرك أكبره وأصغره ، وحذر منه أشد التحذير ، واتخذ لذلك وسائل شتى ، أبرزها سد كل المنافذ التي تهب منها ريح الشرك .
من هذه المنافذ ما يأتي :
• الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم – عن الغلو في تعظيمه ومدحه فقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله )) ( متفق عليه ) .
والقرآن الكريم أثنى عليه صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله في أشرف المقامات ، تأكيداً لهذا المعنى كقوله تعالى : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً )، وقوله ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ) ، وقوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) .
وكان صلوات الله عليه إذا رأى أو سمع ما يؤدي إلى الغلو في شخصه ، زجر من قال ذلك أو فعله ، ونبهه إلى الحق والسداد .
روى أبو داوود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيدنا .. قال: (( السيد الله تبارك وتعالى )) .
وعن أنس أن أناساً قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : (( يا أيها الناس ، قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان .. أنا محمد عبد الله ورسوله . وما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )) (( رواه النسائي بسند جيد ) .
ولما قال له رجل : ما شاء الله وشئت قال : (( أجعلتني لله نداً ؟ قل : ما شاء الله وحده )) . ( رواه النسائي ) .
• الغلو في الصالحين :
ومما نهى عنه الإسلام وحذر منه ، الغلو في شأن الصالحين .
فقد غلا قوم في شأن المسيح حتى جعلوه أبناً لله ، أو ثالث ثلاثة ، وقال بعضهم : إن الله هو المسيح ابن مريم .
وغلا قوم في أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أرباباً من دون الله ، من هنا حذر الله من غلو أهل الكتاب وشنع عليهم في ذلك فقال : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ) ، ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ) .
وأول شرك وقع في الأرض – هو شرك قوم نوح – كان سببه الغلو في الصالحين . جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس في الحديث عن آلهتهم (( ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر)) قال : (( هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا فيها أنصاباً ، وسموها بأسمائهم . ففعلوا ..ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت )) .
وقال بعض السلف : لما ماتوا علقوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثليهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم .
ومن هنا نعلم أن غلو بعض المسلمين فيمن يعتقدون صلاحهم وولايتهم الله ، وبخاصة أصحاب الأضرحة والمزارات – يؤدي إلى أنواع من الشرك ، كالنذر لهم والذبح لهم والاستعانة بهم والإقسام بهم على الله ونحو ذلك ، وقد يفضي بهم الغلو إلى الشرك الأكبر وهو اعتقاد أن لهم سلطة وتأثيراً في الوجود ، وراء الأسباب والسنن الكونية ، فيدعون من دون الله أو مع الله ، وهذا هو الإثم العظيم والضلال البعيد .
• تعظيم القبور :
ومما حذر منه الإسلام أشد التحذير . تعظيم القبور ، وبخاصة قبور الأنبياء والصالحين ، ولذلك نهى عن جملة أشياء تفضي إلى تعظيم القبور منها :
1- إتخاذها مساجد :
روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس : (( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك )) .
وعن عائشة وابن عباس قالا : (( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم – أي في حالة الاحتضار – طفق يطرح خميصة له على وجهه . فاذا اغتم كشفها ، فقال وهو كذلك : (( لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا . ( متفق عليه ) .
2- الصلاة إليها :
ففي الحديث : (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) ( رواه مسلم ) .
أي لا تجعلوا القبور في اتجاه القبلة .
3- إضاءتها وإيقاد السرج عليها :
في الحديث : (( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) . ( رواه أحمد والترمذي وغيرهما ).
4- البناء عليها وتجصيصها :
روى مسلم عن جابر قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر ، وأن يقعد عليه وأن يبني عليه بناء )) .
5- الكتابة عليها :
لحديث جابر : (( أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها )) ( رواه أبو داوود والترمذي ) .
6 – تعليتها ورفعها :
لحديث عليّ : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه )) . ( رواه مسلم ) .
كما جاء في سنن أبي داوود نهيه عليه الصلاة والسلام أن يزاد عليها غير ترابها من الأحجار ونحوها . ولهذا كان السلف يكرهون الآجر على قبورهم .
7 – إتخاذها عيداً :
روى داوود عن أبي هريرة مرفوعاً : (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) .
وروى أبو يعلي بسنده عن علي بن الحسين ، أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . فيدخل فيها ويدعو ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم )) ومعنى اتخاذ القبر عيداً قصده للاجتماع فيه والقعود عند ونحو ذلك .
وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل قبر على وجه الأرض ، فإذا نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهى ، كائناً من كان . ويكفي أن يصلي ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فتصله صلاته وسلامه حيثما كان .
########
• الحكمة في هذا التحذير :
والحكمة في نهى الإسلام عن تعظيم القبور أنه ذريعة إلى الشرك الأصغر والأكبر كما رأينا في قوم نوح ، وكما هو مشاهد إلى اليوم . فالغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً معبودة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) . ( رواه مالك ) .
ومما يأسف له كل مسلم غيور على دينه أن ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقع فيه كثير من أهل الإسلام . فقد اتخذوا قبور بعض الصالحين أعياداً ، وشيدوها وزخرفوها ، وبنوا عليها المساجد والقباب ، وأوقدوا عليها السرج والقناديل ، ووقفوا لذلك الوقوف ، ونذروا لها النذور ، وطافوا بها كالكعبة ، واستلموها كالحجر الأسود ، وأوسعوا جدرانها لثماً وتقبيلاً ، ومنهم من يسجد لها ، ويعفر الخدود على ترابها . ويقف خاشعاً مستكيناً ، يستغيث بأصحابها ، يسأله – مشافهة – قضاء الديون ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وشفاء المرضى ، والنصر على الأعداء ، وبعضهم يقدم طلباته مكتوبة في رقاع إلى صاحب القبر ، وهذا من الشرك الصريح ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .