القدوات وعمق التأثير

سالم محمد



تتهافت معظم الشركات وخصوصًا الكبرى منها بمختلف أنواعها على بذل الملايين الكثيرة لمشاهير المجتمعات كأصحاب الفن والرياضة وما ذلك إلا لإيمانهم بأن انفاق الملايين على مشهور ما مقابل ثوان معدودات يُصور فيها وهو يحمل منتجهم أو وضع صورته على بضائعهم له مردود كبير على حجم المبيعات وانتشار السلع، والشركات لجئت إلى هذه الطريقة لعلمهم أن كثير من الناس سيما الشباب قد اتخذوا الفنانين واللاعبين قدوات لهم، ولهم مكانة خاصة في قلوبهم والله المستعان.
القدوات تهدم وتبني ..
ومن نافلة القول أن القدوة الصالحة مهمة لإصلاح المجتمعات بدءً بالأُسَر وانتهاءً بالدول، كما أن القدوات السيئة من أعظم معاول الهدم لعقيدة وقيم وأخلاق مجتمع ما، والله تعالى في كتابه أشار في غير ما آية إلى هذا المعنى فبعد أن ذكر الله تعالى ثمانية عشر نبيًا، وأثنى عليهم، وذكر بعض صفاتهم الحميدة أرشدنا إلى الاقتداء بهم فقال: ( { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ) وأمر الله نبيه بذلك فقال جل شأنه ( {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ) وكذلك أرشدنا الله إلى الاقتداء بالصالحين في قوله: ( {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ) ( {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ) ( {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} )[البقرة: 124] كما جاء في القرآن التحذير من القدوات السيئة وذكر العاقبة الوخيمة لذلك؛ فقال تعالى: ( {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} ) [الفرقان:27-28].
أعظم قدوة ..
ومن فضل الله علينا أن هدانا إلى أعظم قدوة وأسوة فقال تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم نجاة، ومخالفته هلاك، وما من خير في الدنيا والآخرة إلا بسبب الاقتداء به وما من شرًّ في الدنيا أو الآخرة إلا بسبب معصيته ومخالفة هديه، فاتخاذ غير المصطفى قدوة، ضلال وهلاك وطريق إلى جهنم وبئس القرار، ولكي يكون محمد صلى الله عليه وسلم قدوة لك ونبراسًا في حياتك عليك بتعلم هديه وسيرته وذلك بالاستماع أو الفراءة إلى بعض المواد النافعة مثل اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون.
أعظم جيل نقتدي به ..
وقدوتنا صلى الله عليه وسلم قد أمرنا وحثنا على الاقتداء بأصحابه من بعده لا سيما الخلفاء الراشدون فقد قال في إشارة إلى ذلك (النجومُ أمنَةٌ للسماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النجومُ أتَى السماءَ ما توعَدُ، وأنا أمنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابِي ما يوعدونَ، وأصحابي أمنَةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يوعدونَ)[1] وقال أيضًا ( «فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» ) [2] وخص أفضل اثنين من البشر بعد الأنبياء بقوله ( «اقتدوا باللّذينَ من بعْدِي أبي بكرٍ وعمرَ» ) [3]
والصحابة قدموا أفضل النماذج في اتِّباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فقد (اتّخذ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خاتما من ذهب فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " «إنّي اتّخذت خاتما من ذهب". فنبذه وقال: "إنّي لن ألبسه أبدا" فنبذ النّاس خواتيمهم» )[4] وعمر الفاروق رضي الله عنه (جاء إلى الحجر الأسود فقبّله، فقال: إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقبّلك ما قبّلتك)[5] فالحمد لله الذي بيَّن لنا من نقتدي بهم، فالمنهج واضح، والتطبيق العملي حاضر، وما علينا سوى الاتباع والاقتفاء والسير على خطاهم، والنتيجة سعادة في الدنيا ونجاة في الأخرى.
القدوات الأكثر تأثيرًا ..
وفي الحديث عن القدوة ينبغي العناية بأهم قدوتين ومؤثرين في حياة الأبناء إنهم الآباء فـ ( «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ» )[6] فأثر الوالدين من العمق بمكان بحيث يؤثر في عقيدة الابن فيصرفه عن الفطرة السليمة وهي توحيد الله وإفراده بالعبادة إلى عبادة مخلوق، سواء كان بشرًا أو حجرًا فهذا في العقيدة فكيف بما دون العقيدة، فعناية الأب والأم بأنفسهما والتزامهما هدي المصطفى يسهم بجهد أقل وأثر أعمق في صلاح الأبناء بإذن الله تعالى؛ فـ (من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى؛ فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادُهم من قبَل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائضَ الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءَهم كباراً)[7]ولو أن الأسرة كما تجتمع على مائدة الطعام تجتمع على وجبة نور وهداية من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي بفضل الله متوفرة بكافة الأنواع مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة.
لماذا تزداد أهمية القدوة في زماننا؟
مما لا يخفى على المسلم الفطن أننا نعيش في زمن ارتفاع الأسافل، وتسمية الأمور بغير مسمياتها الشرعية فالخمر مشروب روحي، والزنا علاقة رضائية وحية شخصية، وفاحشة قوم لوط حق المثلية، والتطاول على الأنبياء والصحابة والعلماء حرية تعبير، والربا فوائد بنكية، والحكم بغير ما أنزل الله حق للشعب، والهجوم على السنة وحملتها تنور فكري وانفتاح عقلي، والراقصة والممثلة والمغنية المتبرجة وربما شبه العارية نجمة ورمز وطني ويغدق عبيها من الأموال والجوائز وغيرها من المفاهيم المقلوبة وهذه القدوات السيئة تصب عليها الملايين وربما المليارات صبًا، ويُمكَّن لها في وسائل الإعلام، وإن نسينا فلا ننس أن المناهج في عامة بلاد المسلمين بعيدة كل البعد عن تقديم القدوات الصحية وربما استبدلتها برموز سيئة فاسدة، فيتخرج الطالب بكثير من المعارف إلا أن حظ الشريعة منها قليل أو معدوم وربما حوربت الشريعة بالمناهج الدراسية والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونختم بخطوات عملية علينا أخذها بالاعتبار لتوجيه الناس عمومًا والشباب خصوصًا إلى القدوات الحسنة والابتعاد عن القدوات السيئة:
غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الأبناء والشباب وعامة الناس، فمن صحت عقيدة عرف عدوة من صديقه وتبين له قدوته ومثله الأعلى.
العناية بقصص الأنبياء والتركيز على جوانب العظمة في حياتهم بما في ذلك أخلاقهم وتضحيتهم في سبيل الله، وكذلك العناية بقصص القرآن عمومًا فثلث القرآن تقريبًا قصص، والتربية بالقصة لها بالغ الأثر لا سيما في نفوس الناشئة.
تنوعت قصص القرآن بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فمعرفة قصص الظالمين تؤدي إلى النفور من الظلم وأهله وقبل ذلك معرفتهم وأساليبهم في محاربة هدي أنبياء والمرسلين وإضلال الناس.
السيرة النبوية وما أدراك ما السيرة النبوية، هي كنز إيماني تربوي ثقافي تعليمي، والعيش مع السيرة وأحداثها يغير حياة الإنسان ولا بد، وبفضل الله المواد التي تقدم السيرة متنوعة ما بين مكتوب ومسموع ومشاهد، فمن المكتوب مثلًا كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، أو مختصرة لمن قصرت همته.
أحداث السيرة ة هي جهاد في سبيل الله قام به رسول الله صلى الله وسلم وأصحابه، وبالتالي فمعرفة حياة الصحابة مهم في جانب الاقتداء بهم.
استخدام الوسائل الحديثة ما أمكن ذلك لإبراز عظمة الإسلام وحملته، فما راج الباطل إلا بسبب الزخرف الذي يحاط به فيخدع كثير من الناس.
استغلال الحاجة الفطرية لدى المراهقين والمراهقات باتخاذ مثل أعلى وملء تلك الحاجة بعظماء الإسلام ما لم فإنهم سيتخذون أسافل الناس قدوات لهم.
من كان بيده القرار في التعليم فليشحن المناهج بسير العظماء بمعيار العظمة الشرعي لا الجاهلي.
تنبيه مراكز تحفيظ القرآن ودور التعليم النسائية على التركيز على إبراز قدواتنا الحسنة في القرآن والسنة والتاريخ ولا ينشغلوا فقط بالحفظ والمراجعة.
وصلى الله على قائدنا وقدوتنا وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء

[1] صحيح الجامع 6800

[2] صحيح أبي داود4607

[3] الترمذي (3662)

[4] رواه البخاري:7298

[5] رواه البخاري:1597

[6] البخاري:٤٧٧٥، ومسلم:٢٦٥٨

[7] تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم رحمه الله