تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية



    اجتهد علماء الأمة وفقهاؤها في تدوين القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية الوقفية وتصنيفها منذ القرن الثاني، ففي كتاب المدونة للإمام مالك بن أنس (ت179هـ) ذكر ضوابط فقهية عدة، ونما هذا التأصيل في العهود الإسلامية، وخصصت له مصنفات مستقلة.
    ولما كانت تلك القواعد والضوابط منثورة بين طيات الكتب المطولة؛ مما لا يسع كل متتبع البحث عنها ومراجعتها والأخذ منها في كتب المصنفين من العلماء في هذا الباب الواسع؛ تملكني الدافع لجمع ما تفرق من كل ذلك، ونظمه وتصنيفه بحلة ميسرة، لتضبط ما يطرأ من مسائل ووقائع في مجال العمل، وليسهل على من جند نفسه لخدمة العمل الوقفي والخيري، الأخذ فيها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.
    وعملت على نقل شروحها من أقوال أهل الاختصاص، وأضفت إليها من الأمثلة المعاصرة لتكون دليلا عمليا ومنهجا تطبيقيا، مبنيا على قواعد وضوابط شرعية، وأحكام مرعية، خدمة للعاملين في القطاع الخيري والوقفي، وسأخص في كل مقال قاعدة أو ضابط شرعي خيري أو وقفي، وأبدؤها بالقاعدة الآتية:
    لا ثواب إلا بنية
    الصدقة والوقف عبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، ولا يترتب عليها ثواب إلا على حسب نية الفاعل وقصده، وقاعدة (لا ثواب إلا بنية) تنبني على قاعدة كلية جامعة هى قاعدة: (الأمور بمقاصدها).
    لا ثواب إلا بنية(1)، قاعدة أدلتها وفيرة، وأشهرها ما روي بالسند إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله [ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) ودلالة هذا الحديث أن الأعمال لا تصح شرعًا ولا تعد إلا بالنية، وأنها الفاصلة فى صحة العمل وعدم صحته.
    فمن أراد أن يتطوع، بأن يقدم أضحية للفقراء فعليه أن ينوي عند الشراء أنها أضحية(3). ومن أراد بالوصية والوقف التقرب إلى الله، فإنه يثاب على ذلك(4)، وإن قصد غير ذلك كأن يقال عنه كريم، فلا ثواب له. فإنفاق المال بنية السمعة والرياء لا يثاب عليه(5). والوقف يصح دون نية، لكن ليس له ثواب إلا إذا نوى التقرب إلى الله تعالى (6).
    قال ابن القيم- رحمه الله- «فأما النيَّة فهي رأس الأمر وعموده، وأساسه وأصله الذي عليه يبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابع لها يبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة»(7).
    الهوامش:
    1- الأشباه والنظائر لابن نجيم 19.
    2- رواه البخارى في صحيحه برقم ( ا ). ومسلم في صحيحه برقم (5036).
    3- ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 34.
    4- ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 34-35.
    5- القواعد الفقهية ودورها في إثراء التشريعات الحديثة للسرحان، ص 36.
    6- الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 23.
    7- أعلام الموقعين 4/255.



    اعداد: عيسى القدومي





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري



    إبراء ذمم المُزَكِّين بوضع الزكاة المفروضة في أهلها فقط واجب وهو مقتضى الوكالة التي يجب على المؤسسة الخيرية أداؤها على الوجه الأكمل

    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
    1- الأصل في الأشياء الإباحة
    التوضيح: هذه قاعدة استصحاب البراءة الأصلية في كلّ ما لم يرد دليلٌ على منعه، وأنّه حلالٌ مباح، وذلك على السّواء في الأعيان والتصرّفات، ويتفرّع عليها: مشروعيّة كلّ ما تتّخذه المؤسّسات الخيريّة من التنظيمات الإداريّة، والهيكليّات، وتقسيم المؤسّسة إلى دوائر واختصاصات وإدارات محليّة وإقليميّة، وكذلك جدولة الصّرف والإنفاق، وكذا الشروط التي تشترطها في عقود العمل والتوظيف، وعقود المشاريع من إنشاءات وتوريد وغيرها، كلّها إجراءاتٌ مشروعةٌ على الأصل، إلّا إذا اصطدمت بدليلٍ يدلّ على المنع منها، فيُرجع فيها إلى حكم الدّليل.
    2- ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب
    التوضيح: هذه قاعد أصوليّة، فكلُّ ما كان مُباحًا في ذاته، ولم يرد نصٌّ شرعيٌّ يدلُّ على وجوبه، وكان لا يُمكن التوصُّل إلى أداء واجب شرعيٍّ إلّا به، فالأخذ به واجبٌ، فنظام البحث الاجتماعيّ ومعاييرُه المدروسة في المؤسسات الخيرية وضعُها واجب، ومراجعتها المستمرّة واجبة، لأنّ إبراء ذمم المُزَكِّين بوضع الزكاة المفروضة في أهلها فقط واجب، وهو مقتضى الوكالة التي يجب على المؤسسة الخيرية أداؤها على الوجه الأكم، ومن ضمن النّشاط الخيريّ الواجب، إقامة مراكز الإغاثة الطبيّة، وتوفير الأطبّاء والأدوية اللّازمة فيها، لأنّ واجب الحفاظ على صحّة المتضرّرين من النوازل المختلفة لا يتمّ إلّا بذلك.
    3- للوسائل أحكام المقاصد
    التوضيح: المقاصد والأغراض، لا يُتوصّل إليها إلّا بوسائل وأسباب، فهذه الأسباب والوسائل تُسوّى في الحكم بالمقاصد والأغراض التي يُتوصّل إليها من طريقها، فتكون الوسيلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى الحرام محرّمة، والوسيلة إلى المستحبّ مستحبّة، وإلى المكروه مكروهة، وكذلك ما يُتوسّل به إلى المباح مباحٌ، وعلى هذا المعنى فالقاعدة السابقة تكون فرعاً من هذه القاعدة، وهذه أصلٌ عامٌّ يتعلّق بما لا يتمّ به المقصود والغرض عموماً، وليس الواجب فقط.
    وممّا يتخرّج عليها: دفع المال لدفع الخطر عن الأموال الخيريّة والتبرّعات، ولتفادي إتلافها والاعتداء عليها ومصادرتها لبعض الجهات المتنفّذة في أماكن الاضطرابات وبقاع الانفلاتات الأمنيّة، مشروعٌ لأجل أنّه موصلٌ إلى غايةٍ مشروعة، ومحقّقٌ لمصلحةٍ راجحة، مع أنّ الأصل أنّ دفع المال لمثل تلك الجهات لا يُشرع، وليس قانونيًّا.
    4- النفل أوسع من الفرض
    التوضيح: الشارع يتسامح في النوافل والتطوّع أكثر ممّا يتسامح في الفُروض، في شروطها وأحكامها، مع كون الجميع يشهد بأنّ الدّين يُسرٌ، فالنافلة من عبادةٍ ما، يصحّ فيها بعضُ ما لا يصحّ في الفريضةِ التي من جنسها، فلا يجوز إعطاء الزكاة المفروضة إلّا في حدود مصارفها الثمانية، بينما يجوز صرف صدقة التطوُّع حيثما يراه العبد مناسبًا، حتى إنّ إعطاءها للكافر لا حرج فيه، بل تكون مقبولة يُؤجر عليها صاحبها. كما يجوز إدخال غير المسلمين من أهل الذمّة في الموقوف عليهم، فيشملهم رَيْع الوقف، بشرط أن لا يكون ذلك في عبادتهم، فتؤول الطّاعة إلى أن يكون سبيلها الإعانة على الشرك، فإنّ هذا لا يجوز بحال.
    5- الترك فعلٌ
    التوضيح: هذه القاعدة ذكرها العلّامة الزركشي -رحمه الله- بلفظ: «الترك فعلٌ إذا قُصد»، وهي قاعدة أصوليّة فقهية، فالتركُ، وإن كان -في الظاهر- حالةً عدميّةً وليس فعلاً قائمًا بالمكلّف، إلّا أنّه شرعًا يأخذ حكم الفعل الوجوديّ، ويُؤاخذ به المكلّف إن كان تركاً على خلاف الشّرع، كما يُؤاخَذ بالفعل، ويُؤجَر عليه إن كان موافقاً للشرّع، كما يُؤجَر على الفعل، فتركُ إطعام الجائع حتى يموت؛ أو ترك إنقاذ الغريق حتى يغرق، أو ترك الأسير في يد الكفّار مع القدرة على افتكاكه، كلُّ ذلك يأثم القادرون عليه إذا لم يفعلوه.
    وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: التلكُّؤ والتباطؤ -فضلاً عن الترك التامّ- في تنفيذ البرامج الإغاثيّة، حتى يفوت وقت الإمكان ويتحقّق الضّرر الذي كان من الممكن أن يُدفع بالتنفيذ، إثمٌ يؤاخذ به التاركون المكلّفون بالتنفيذ، إن كان تركهم من غير عذر مقبولٍ شرعاً.
    6- ما حُرّم سدًّا للذّريعة أُبيح للمصلحة الرّاجحة
    التوضيح: الذّريعة هي الوسيلة أو السبب إلى الشيء، وغلب عليها عند الفقهاء الاستعمال فيما أفضى إلى المحرّم خاصّة، وكان في نفسه جائزاً أو ظاهر الجواز، فالذريعة على هذا المعنى هي التي يدور الكلام حول سدّها بين الأصوليّين.
    وعلى هذا يكون المعنى: التصرّفات التي ليست هي مفسدةً في ذاتها، ولا المفسدة غالبةٌ عليها، إذا تحقّق -أو غلب على الظنّ- أنّها تحقّق مصلحةً شرعيّةً غالبة، كأن تندفع بها ضرورة، أو تحصّل بها حاجة، فإنّ إيقاع تلك التصرّفات تحصيلاً لتلك المصلحة الراجحة مباحٌ، ولا تُمنع حسماً لما قد تفضي إليه من مفاسد في أحوالٍ أخرى. وممّا يتخرّج على ذلك: التعاملات الماليّة للمؤسّسات الخيريّة مع البنوك الرّبويّة، تحت عناوين شرعيّة صحيحة، كالحسابات المفتوحة لاستقبال التبرّعات في الأزمات، تجوز لما يترتّب عليها من مصالح عظيمة، ومنافع لا تقدّر بمقابل، مع كون الأصل أنّ الإيداع في البنوك الربويّة أو التحويل عن طريقها لا يخلو من استغلالها لتلك الأموال في معاملاتٍ ربويّة محرّمة.
    7- كل اسم ليس له حدٌّ في اللّغة ولا في الشّرع فالمرجع فيه إلى العرف
    التوضيح: كلّ لفظٍ استُعمل في كلام الشّارع ليدلّ به على حُكمه ومراده في أمرٍ ما، فالأصل أن يُفهم معناه من كلام الشارع نفسه، فإن لم يكن له فيه حدٌّ فالمرجع فيه إلى لغة العرب، فإن خلا الشّرع واللّغة عن تحديدِ معنىً ثابتٍ لذلك الاسم، رُجع فيه إلى العُرف، والعُرف هو: «عادة جمهورِ قومٍ في قول أو فعل».
    وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: الولاية على الأموال، والنّيابة في التصرّفات عن المتبرّعين والموكّلين، فإنّه لا حدّ في الشّرع للولاية ولا للنّيابة، وإنّما يتغيّر حدّها بتغيّر الأعراف وتقلُّب الأزمان، وكذلك كفاية الفقير من أموال الزكاة والصدقات، بل إنّ أوصاف الفقر والمسكنة والحاجة والعوز في ذاتها، هي في الحقيقة خاضعة للعُرف.
    8- الأصل براءة الذمّة
    التوضيح: الذّمّة: وصفٌ يصير الشخص به أهلاً للإيجاب له وعليه، فيكون معنى القاعدة: الحكم المستمرّ الثابت المعمول به، أنّ ذمّة الإنسان خاليةٌ من وجوب الحقوق فيها، على السواء في ذلك حقوق الله تعالى وحقوق المخلوقين، ولا تُشغل بشيء من ذلك إلّا بدليل، فإنّ المرء يولد ويخرج إلى حيّز الوجود خالياً عن كلّ التزامٍ أو دَيْن أو مسؤوليّة.
    وممّا يتخرّج على هذه القاعدة: أنّ ذمّة المؤسّسة الخيريّة بريئةٌ من ضمان أيّ شيءٍ لأيّ جهةٍ بناءً على ما يقع بينها وبين المتبرّعين من النّيابة والتوكيل، في حال حدوث أيّ خللٍ أو نقصٍ قدريٍّ في تنفيذ المشروعات الخيريّة وإيصال الأموال النقديّة أو المساعدات العينيّة إلى المستحقّين، إلّا في حال ثبوت التقصير والتفريط، وذلك لأنّ الأصل في يد المؤسّسات الخيريّة أنّه يد أمانةٍ لا ضمان عليها إلّا إذا ثبت التقصير.

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 2 )



    ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم
    مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به وبلوغه إيّاه وقدرته على إنفاذه والامتثال له والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة
    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
    الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد
    هذه قاعدة أصوليّة متفقٌ عليها، وتوضيحها: أنّ «اجتهاد المجتهد في المسائل الظنيّة التي لم يرد فيها دليلٌ قاطعٌ، لا يُنقض باجتهاد مثله إجماعاً، أي في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ لأنه لو نُقض الأوّل بالثاني لجاز أن يُنقض الثاني بالثالث؛ لأنّه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدّي إلى عدم الاستقرار، ويلزم التسلسل»، وهذه القاعدة ليست قاصرةً على حُكم الفقيه المجتهد والقاضي فقط، بل يدخل فيها كلّ مكلّف، سواءً كان شخصاً حقيقيًّا أم اعتباريًّا كالشّركة والجمعيّة والمؤسّسة، وذلك فيما يسوغ فيه الاجتهاد من غير المجتهد.
    ممّا يتخرّج على القاعدة
    القرارات الإداريّة التي تُتّخذ في مرحلةٍ ما من عمر المؤسّسة، التي قد يكون ترتّب عليها بعض النّفقات والإجراءات التنفيذيّة، لا يلزم الرجوع عنها بإبطال آثارها إذا تبيّن أنّها كانت خطأ، وإنما يُتحوّل عنها لاتخاذ المسلك الصحيح في المرحلة المستقبليّة. وكذا المجتهد في تقييم استحقاق جهةٍ ما من مال الزكاة، أو في انطباق شروط بعض الواقفين عليها، ثم يتبيّن له خطأ الاجتهاد الذي عمل به مدّةً، يلزمه تصحيحه ولا يلزمه تصحيح آثاره، ولا يضمن شيئاً بسببه، إذا كان ممّا يسوغ منه ويُقبل.
    التكليفُ مشروطٌ بالتمكُّن من العلم والقدرة على الفعل
    التكليف: هو إلزامُ مقتضى خطاب الشارع، فيكون المعنى أنّ مقتضى الخطاب الشرعيّ في ذمّة المكلّف لا يثبت إلا بعد علمه به، وبلوغه إيّاه، وقدرته على إنفاذه والامتثال له، والمراد بمقتضى الخطاب هنا هو الأحكام التكليفيّة الخمسة من وجوبٍ واستحبابٍ وكراهةٍ وتحريمٍ، وكذا الإباحة، لأنّها مقتضى الخطاب إذا كان الخطابُ خطابَ تخيير. ونحن إذا نظرنا في مسألة القدرة المشروطة في القاعدة وجدنا أنّها أصلاً تؤول إلى العلم، لأنّ ما تعذّر العلمُ به لم تكن ثمّة قدرةٌ على الامتثال له.
    ميدان هذه القاعدة
    لذلك فالكلام في هذه القاعدة ليس هو الكلام المشهور للأصوليّين عند تحريرهم لشروط التكليف، إذ يجمعون على اشتراط العلم عند تعدادهم لشروط المكلَّف، أو شروط المكلَّف به، وإنّما ميدان هذه القاعدة هو الجواب على السؤال الآتي: هل يثبت أثرُ الخطابِ الشرعيّ في ذمّة المكلّف قبل بلوغه إيّاه؟ بمعنى أنْ يُطالَبَ بقضاءِ ما يكلّفه به الخطابُ عن الفترةِ التي كانت قبل بلوغه؟ أم لا أثر للخطابِ مطلقاً قبل بلوغه، ولا يمكن أن تترتّب عليه مطالبةٌ إلّا بعد بلوغه المكلَّفَ؟ الرّاجح الثاني، وهو ما تنصّ عليه القاعدة.
    من ثمرات القاعدة
    ومن ثمراتها مثلاً: من لم يبلغه الخطابُ بالصّلاةِ، هل يُؤمَر بقضاء ما فاته من الصّلوات التي كانت بين يوم بلوغه إلى اليوم الذي بلغه فيه الخطاب لأنّه مطالبٌ منذ أن صحّ خطابُه وإن لم يبلغه الخطاب؟ أم لا حكم ولا أثر للخطاب الشرعيّ إلّا بعد بلوغه وسماعه والعلم به؟ الراجح الثاني.
    ما يتخرج عن هذه القاعدة
    ويتخرّج على هذه القاعدة كثيرٌ من الفروع والأنواع: إذا تعامل المسلم -شخصاً حقيقيًّا أو اعتباريًّا- بمعاملةٍ كان يراها صحيحةً باجتهادٍ ممّن يسوغ منه، أو استفتاء، ثمّ ظهر له أنّ الصحيح بطلانها، لم يحرم عليه الانتفاع بآثارها والالتزام بحكمها. وكذا ناظر الوقف، أو الوصيّ على المال، إذا تصرّف تصرُّفاً من مضاربةٍ أو مزارعةٍ أو تأجيرٍ، ثمّ تبيّن له خطأ اجتهاده أو بطلانه، لم يكن ضامناً لآثاره إذا كان محتاطاً بما يكفي لإبراء ذمّته.
    الإنفاق لا يحتمل التأخير
    هذه القاعدة من القواعد الحاكمة على زمن التصرُّف، فالواجب على المُنْفق إعطاء ما وجب عليه من النفقة في وقتها المحدد المعتاد، ففي حالات النكبات والنوازل العامّة والكوارث، فإن تقديم المساعدات الفورية من طعام وشراب وأغطية وأماكن الإيواء مقَدَّم على ما دونه من الأعمال الخيرية؛ لأن في ذلك حفظ النفس، والإنفاق على مثل هذه الأساسيات واجب لا يحتمل أدنى تأخير. ولا يجوز تأخير صرف مستحقات أهل العوز والحاجة، الذين يُصرف لهم مخصصات شهرية من المؤسسات الخيرية؛ لأن في ذلك ضررا وتضييقا عليهم، فلا بدّ من تلافيه طالما كان ذلك ممكنًا، وكذلك صرف مستحقات العاملين في المؤسسات الخيرية، أمر لا يحتمل التأخير، لكون تأثيره على مسيرة المؤسسة الخيريّة يكاد يكون سريعاً ومباشراً.
    إنّما يُؤمر بالانتظار إذا كان مفيداً
    قد يُشرع ويجوز تأخير إيصال الحقّ، وأداء الواجب، إذا كانت تتحقّق بذلك الانتظار منفعةُ أن يلاقي الواجب محلّه الصحيح الكامل شرعاً، أمّا إذا لم يكن في التأخير مصلحةٌ راجحةٌ كهذه، فإنّه لا يجوز. ومن التطبيقات على ذلك: مستحقّو الزكاة، فإنّ الزكاة تُدفع من صاحب المال في وقتٍ مخصوصٍ لا يجوز أن يؤخّرها عنه، وهو اكتمالُ الحول القمريّ، لكن المؤسّسة الخيريّة التي تستلم هذا المال وتنوب عن دافعه في إيصاله إلى المستحقّ، لها أن تنتظر وتتربّص مدةً لتجد من هو متصفٌ بصفات الاستحقاق الكاملة، وهذا الانتظار والتأخير إنّما يُتصوّر أن يكون مفيداً في ظروفٍ دون ظروف، كأن يُنتظر وصول موجاتٍ جديدةٍ من النازحين والمنكوبين إلى بلدٍ ما، من بلدٍ يُتوقّع مجيئهم منها لاضطرابٍ فيها، أمّا في الأحوال الاعتياديّة فلا معنى لهذا الانتظار؛ لأنّ مجيء المستحقّ توهّم، وقد سبق أنّ التوهّم لا عبرة به.
    كلُّ متصرف على الآخر فعليه أن يتصرّف بالمصلحة
    نفاذ ما يصدر عن الحاكم أو من يتولّى أمرًا من الأمور التي تتعلّق بتدبير أمور النّاس وسياستهم، ينبغي أن يكون متعلِّقاً بتحقيق المصلحة لهم، ودفع المفسدة عنهم، وهذا يشمل الوالي، والقاضي، ووليَّ البنت، ومتولِّي الوقْف، والوصيَّ، وغيرهم. فتصرُّف القُضاة في أموال الأيتام، والأوقاف، وكذا قُضاة الاختصاص الذين يتولَّوْن إصدار الأحكام في قضايا المؤسّسات الخيريّة نفسها، سواءً كان ذلك في فترة نشاطها وعطائها، أم عند مرحلة حلِّها، إما على إثر الخلافات، أو لغير ذلك من الأسباب، هم أيضاً مُطالبون بمراعاة المصلحة الشرعيّة في ذلك، والمطالبة نفسها تتعدّى أيضاً إلى مشرِّعي القوانين الخاصة بالجمعيّات الخيريّة.

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – نوازل العمل الخيري ( 3 )



    الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله أو تفضي إلى اتهامه
    والعامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي
    العدل ضدّ الظّلم وأصل الظّلم نقص الحقّ ووضع الشيء في غير موضعه وهو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين وإيتاء الحقوق للمستحقّين من غير نقصٍ ولا شطط
    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن -فضلا عن ذلك- سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية.
    التنـزه عن مواطن الريبة أولى
    التوضيح: الأجدر بالمسلم أنْ يبتعد عن مواضع التُّهَم التي تسبب الشك في حاله، أو تفضي إلى اتهامه بما لا يليق به؛ ولا شكّ أنّ العامل في المؤسسات الخيرية، بحُكم ما يمنحه العمل من الصلاحية والثقة على المستوى الاجتماعي، بما يتوفّر له من الاطّلاع على الحاجات المستورة للفقراء، وما يحتاجه هو من التحقُّق من صدق تلك الاحتياجات، وما يتبع ذلك من العلاقات المباشرة مع أهلها، كلُّ ذلك يجعله عُرضة للرِّيبَةِ والشكوك، إذا لم يلتزم بما وُضع له من قواعد وأصول شرعية ومهنيّة، ولوائح وتعليماتٍ إداريّة. فإطالة الكلام مع النِّساء من أهل العَوَز والحاجة، في كلِّ ما زاد عن حاجة العمل من مواطن الرِّيبة التي يجتنبها العامل الموفّق، كذلك التساهل في الاختلاط بالنِّساء من غير حاجة، وفي مواطن يمكن تجنُّبُه فيها، والأمر ذاته في سؤالهنّ عمّا لا منفعة فيه ولا حاجة للاطّلاع عليه، فكلّ ذلك باب مفسدةٍ عظيمةٍ يجعل من ولجه عرضةً للتهمة، فيتعيّن اجتنابه وإغلاقه والابتعاد عنه.
    لكلِّ مجتهدٍ نصيب
    التوضيح: كلُّ من كان أهلاً للاجتهاد وتقدير الصواب في مجالٍ ما، فإنّ له نصيبًا من الثواب والأجر ولا بدّ، إذا صلحت نيّته لله -تعالى-؛ لأنّه لا يكون ثوابٌ إلا بنيّة، هذه إحدى قواعد باب الاجتهاد الأصوليّة، وأصلها قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكمَ الحاكمُ، فاجتهدَ فأصابَ، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأَ، فله أجرٌ».
    فقد تُنتقد المؤسسات الخيريّة في باب تقديراتها للأنصبة والحصص التي تفرضها شهريًّا للأسر المتعفِّفة وأهل الحاجات، ولن تعدم دوماً داعياً إلى الزيادة أو النُّقصان، ولا شكّ أن الانتقاد بهدف التصويب جيّد ومطلوب، أما الإهدار والانتقاص فلا يجوز؛ لأنّ التقديرات تُقرّر بناء على البحث والتفتيش والتنقيب من مؤهَّلين ومتخصِّصين، وهؤلاء يجوز لهم إبداء الرأي وتقرير ما يرونه مناسباً، وهم مأجورون في خطئهم وصوابهم، لذا لابدّ من الحفاظ عند محاولات النّقد والتصويب، على الحدّ الأعلى من الأخلاقيّات الأخويّة؛ لأنّ المؤهَّل إذا أخطأ، فغاية أمره أنّه سُلب الأجرَيْن واستقرّ له الأجر، ومثل هذا لتصويب عمله سبيلٌ غير سبيل علاج تصرُّفات المعتدين والمقصّرين والمهملين.
    المعتدي في الصدقة كمانعها
    التوضيح: هذا نصُّ حديثٍ شريفٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيان من هو المعتدي في الصدقة، وكيفيّة اعتدائه، أقوال: الأوّل: هو الذي يعطيها غير مستحقِّها.
    الثاني: هو المُصدِّق أو الجابي، الذي يأخذ من الصدقة فوق الحدّ الواجب شرعاً، فيعتدي على أموال النّاس بالباطل، ويستبيح منها ما لا يبيحه الله ولا رسولُه.
    الثالث: هو الذي يجاوز الحدّ المُحتمل في الصدقة، فلا يُبقي لعياله شيئًا.
    الرابع: هو الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي بها.
    لذا فالتساهُل في توزيع الزّكاة الواجبة على أُناس لا تملك المؤسسة الخيريّة معلوماتٍ كافيةً عنهم، من أنواع الاعتداء في الصدقة أيضاً، بل هذا ظاهرٌ في الاعتداء؛ لما فيه من التفريط والاستهانة بالأمانة، بصرف النّظر عن كون هذه الصورة هي المقصودة بالحديث أم لا؛ لأنّ جنس الاعتداء ممنوعٌ شرعاً.
    الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود
    التوضيح: هذه قاعدةٌ كبيرةُ المعنى تتعلّق بخُلُق الالتزام بالمطلوب، والاستقامة عليه، والحذر من الشواغل والجواذب التي تجذب المكلَّف بعيداً عن خطِّ الصواب، وتشغله عن واجب الوقت، فـ «إنّ الأعمال والأحكام المطلوبةَ شرعاً لها مقاصد محدّدة، وأوقاتٌ خاصة أحياناً، فإن اشتغل الشخص بشيء غير مقصودٍ شرعاً من الفعل، فهذا يدلُّ على إعراضه عن المقصود المطلوب، ويتحمل نتائج تصرفه»، فإذا كلَّفت المؤسسة الخيرية أحد موظّفيها بعملٍ، على أنّ له أجراً معيّناً عليه، فلم يقم به، أو تساهل فيه بما أفضى إلى تضييعه وتفويت المصلحة المقصودة منه، استحقّ بذلك حرمانَه ممّا وُعد به، وترتيب كلِّ ما يستحقُّه من العقوبات الإداريّة على تصرُّفه.
    لا عبرة للتوهم
    التوضيح: التوهُّم لا يصلح مستنداً لبناء الأحكام الشرعيّة، كما لا يصلح مستنداً لتأخير الأحكام الثابتة شرعاً وقضاءً عن وقت تنفيذها، والتوهُّم هو: إدراكُ الشيءِ مع احتمالِ ضدٍّ راجحٍ، أو هو: إدراك الطّرف المرجوح من طرَفَيْ أمر مترَدَّدٍ فيه، فكلُّ مُدْرَكٍ على هذا النّحو موهومٌ أو متوهّمٌ، وحكمُه في الشّرع ألا عبرةَ به، بمعنى لا اعتدادَ ولا اعتبار، فلا يمنع حكماً، ولا يعطّل حقًّا، ولا يؤخّر قضاءً، ولا يشوّش على استحقاق. فإذا رأت المؤسسة الخيريّة أن تتصرّف ببعض التبرعات المادّيّة بالبيع، وعُرضت عليها الأسعار المعتادة في السوق لتلك السِّلَع، لا تُؤخَّر المصلحة الخيريّة بناء على توهُّم أن يأتي عرضٌ آخر بسعر أفضل، لأنّ الخروج الفاحش عن المعتاد نادرٌ موهوم، ولا سيما بعد التحرّي والتوقّي واتخاذ التدابير اللّازمة، فإنّ الاعتماد على التوهّم على الرغم من ذلك سيؤول إلى تعطيل المصلحة وتأخير الإجراء النافع، ومن ثم الإضرار بالصالح العام.
    تبدُّل سبب الملك قائمٌ مقام تبدُّل الذّات
    التوضيح: هذه قاعدةٌ عريقةٌ تحتها فروعٌ كثيرةٌ مهمّةٌ، وهي تنتمي إلى قواعد نظريّة الملك في الفقه الإسلامي، مؤدّاها أنّ السبب أو العلّة التي يُملَك بها المال، إذا تغيّر، فهو في قوّة ومنزلةِ وحُكم وتأثيرِ تغيُّر عين المال، فكأنّه صار مالاً آخر غير الأوّل، ولا يخفى عند النّظر في نصّ هذه القاعدة ومعناها أنّ ميدان تطبيقها هو الحكم على مشروعيّة تملُّك المال عند تنقُّله بين أيدي النّاس بأسبابٍ مختلفةٍ في الحكم بين المشروعيّة وعدمها. فمن تطبيقاتها: من كان ذا مالٍ حرامٍ، كسبه من الاتّجار في المحرّمات كالخمر والمخدّرات، أو من مهنةٍ يغلب عليها الحرام غلبةً بيّنةً كتعاطي المعازف والتمثيل ونحو ذلك، فإنّ كسبَه محكومٌ عليه بالحُرمة والخُبث، لكنّه إذا تبرّع به لمستحقٍّ للصّدقة، أو لمؤسّسةٍ خيريّة، فلا تثريب على الآخذ في قبولها والتصرّف فيها؛ لأنّ المتكسّب كسبَ بسببٍ محرّم، فقد كسبَها الآخذ بسببٍ مباحٍ صحيحٍ وهو التبرّع أو الهبة، فلمّا اختلف سبب التملُّك وعلّة الانتقال، انتقل حكم المال من الحرمة إلى الحلّ، فصار كما لو أصبح مالاً آخر تماماً، وذلك بحسب ما تقتضيه القاعدة وتدلّ عليه.
    العدلُ مأمورٌ به في جميع الأمور
    التوضيح: العدل ضدّ الظّلم، وأصل الظّلم نقص الحقّ، ووضع الشيء في غير موضعه تعدّياً، فيكون المعنى: المأمور به شرعاً في كلّ حالٍ ووقتٍ وحينٍ هو أداء الحقوق على وجه الكمال، وتوفية الحاجات للمحتاجين، وإيتاء الحقوق للمستحقّين، من غير نقصٍ ولا شطط، وهذه القاعدة على هذا المعنى من أصول الشريعة وقطعيّاتها وأركانها؛ إذ يدلّ على وجوب العدل في كل الأمور ما لا يحصى من النّصوص، وقد طوّر بعض أهل العلم صياغتها على نحوٍ أوسع فقال: «العدلُ واجبٌ والفضل مسنون».

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري



    الخير مراتب والمعروف مَرَاقٍ وكلّها يتدرّج العاملُ فيها ويتقلّب بحسب قدرته ووُسعه وعلمه بين أعلاها وأدناها والأصلُ في كلّ سالكٍ إلى الله قاصدٍ لخدمة الإسلام والمسلمين، وساعٍ في رفعة الأمّة الإسلاميّة

    الواجب إسناد كلِّ عملٍ إلى من يُحسنه أكثر من غيره ومراعاة التخصصات واعتبار المؤهّلات العلميّة والعمليّة عند إسناد الوظائف والمهمّات إلى أهلها وتوجيه الأفراد إلى المجالات التي تناسبهم بناءً عليها
    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري.
    الخير مراتب، والمعروف مَرَاقٍ، وكلّها يتدرّج العاملُ فيها ويتقلّب بحسب قدرته ووُسعه وعلمه بين أعلاها وأدناها، والأصلُ في كلّ سالكٍ إلى الله وقاصدٍ لخدمة الإسلام والمسلمين، وساعٍ في رفعة الأمّة الإسلاميّة، أن يعتني بمعالي الأمور ويترفّع عن دناياها وسفاسفها، ويتطلّب من الخير أعلاه، ومن المعروف أرقاه، ويعتني بتمييز الفاضل عن المفضول، فيلزم الأعمال الفاضلة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولمّا كانت الأعمال الخيريّة ذات تأثيرٍ اجتماعيٍّ عام، فإنّ التزامَ القائمين على الأعمال الخيريّة باختيار الفاضل دومًا، من شأنه أن يزيد في بصمة المؤسّسات الخيريّة في الحياة العامّة، ويضاعف من قدرتها على النّفع والإصلاح والتأثير الإيجابيّ، ومن القواعد التي يُستعان بها على معرفة الوجوه الفاضلة من المفضولة في عمل الخير:
    1- النّفع المتعدِّي أفضل من القاصر
    التوضيح: يتناسب الثواب مع شيُوع الخير وانتشاره وكثرة المستفيدين منه، فإذا كان أثر الفعل يتعدَّى صاحبَه إلى غيره، فإنّ ثوابه يكون أكثر من ثواب الفعل الذي يقتصر أثرُه على فاعله فقط، فكلُّ مكلَّفٍ قادرٍ على بذل المال لحلّ أزمات المسلمين، واستنقاذهم من الخطر المحيط بهم في الحروب والنّكبات، فبذلُ ماله في هذا الوجه خيرٌ له من إنفاقه على نوافل عباداته، كالحجِّ والعمرة ونحوهما.
    2- خير الأمور أوساطها
    التوضيح: إنّ الخير في الاعتدال في كلّ شيء، واختيار أواسط الأمور في أعمالنا الخيرية، ووجوهها المقترحة، ومجالاتنا التنمويّة، يحافظ على ثقة المتبرعين في المؤسسة الخيريّة طالما ثبتت واقعيّتها ومصداقيّتها باختيار المتوسّط من الأعمال التي يمكن الحفاظ عليها والاستمرار فيها، وترك تحميل المؤسّسة ما يفوق قدرتها الماليّة وطاقاتها البشريّة، الأمر الذي يفضي إلى خلل محتومٍ في العمل ونقصٍ في الأداء.
    فالمؤسسات الخيرية مؤتمنة على الأموال التي بأيديها، ويتوقع المتبرعون أن نقدم لأهل الحاجات ما يفي بمتطلباتهم من غير تقتير ولا إسراف، وما يصرف للعاملين في المؤسسات الخيرية مقابل أدائهم يحدّد بأواسط الأمور وما جرى عليه العُرف وأجرة المثل، فلا ينبغي للمؤسسة أن تُعطي رواتب عالية إلى حدّ الترف والرفاهية، ولا تقتّر على مستخدميها تقتيراً يفضي إلى تقصيرهم وشعورهم بالمظلوميّة، فإنّ التوسّط في هذا الأمر يحقّق الثقة، كما يحقّق الثبات في الأداء، والاستقرار في الإخلاص للعمل. وممّا يتفرّع عن هذه القاعدة أصل: أنّ المتخصّصين في تقدير النّفقات المستحقّة في وجهٍ ما في المؤسّسة الخيريّة، لو اختلفوا اختلافًا لا يمكن حسمُه بالدّليل العلميّ المحسوس، فمن المستحسن أن يتفقوا على العمل برأيٍ يتوسّط الآراء.
    3- يقدَّم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها
    التوضيح: هذه قاعدة تكشف المعيار الأهمّ الذي لابدّ من مراعاته عند اختيار من يراد توليته أو إسناد عمل إليه، وهذا يختلف باختلاف المهامّ والأعمال؛ إذ كلّ عمل يحتاج لمهارة معينة، فيقدَّم في كل عمل من كان أدرى وأقوم بمصالحه.
    فينبغي على المؤسسات الوقفية والخيرية، حين تختار العاملين والمتولّين لأعمالها أن تراعي هذا المعيار، فتُسند الوظائف لمن تتوفّر فيه صفاتٌ تؤهّله تأهيلاً مخصوصاً لأداء تلك الوظيفة المخصوصة على أكمل وجه، وإن كانت فيه نقائصُ بالنسبة لوظيفةٍ أخرى، ومن الواجب ألا تتشوّش أذهان القائمين على هذه المؤسّسات بخلط المعايير، فليس كلّ تقيٍّ دقيقاً في الحساب، وليس كلّ عابدٍ نبيهاً، ولا كلّ متقنٍ لحرفةٍ أمينًا تقيًا، وهكذا؛ إذ اجتماع القوّة والأمانة في النّاس قليل، فيُنظر في المواصفات الأقرب إلى تحقيق المصلحة المخصوصة فالأقرب.
    4- لكلّ عمل رجال
    التوضيح: لكلّ وظيفة رجل مناسب يقوم بها، ولكل مهمّة رجل مناسب ينفّذها، ولكلّ صنعة صانعٌ يتقنها، فالواجب إسناد كلِّ عملٍ إلى من يُحسنه أكثر من غيره، ومراعاة التخصصات، واعتبار المؤهّلات العلميّة والعمليّة والذهنيّة عند إسناد الوظائف والمهمّات إلى أهلها، وتوجيه الأفراد إلى المجالات التي تناسبهم بناءً عليها.
    لذا يُقدَّم لدراسة الحالات المحتاجة وكشف أحوالها من هو مختص بهذا الشأن، وله دراية علمية بالشؤون الاجتماعية وأحوال المجتمع، ممّن تخصّصوا في ذلك واتّسعت فيه خبراتهم، ولا يُجزئ أن يُزجَّ في هذا الميدان بمن تنطلي عليه الأمور، أو ينظر إليها بعاطفته، وكذا يُكلَّف بحساب الزكاة من له اختصاصٌ شرعيٌّ.
    5- الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة
    التوضيح: الأصل في جميع صلاحيّات الوليّ الخاصّ أن تنتقل إلى السلطان بمقتضى ولايته العامّة عند غياب الأوّل، لكن إذا وُجدت الولاية الخاصّة، فتُقدَّم على ولاية السلطان أو نائبه؛ لأنّها ولايةٌ لمُختصٍّ بها، بينما ولاية السلطان تشملُ ذلك بطريق العموم، وما كان أقلّ اشتراكاً، كان أقوى تأثيراً وامتلاكاً، أي تمكُّنًا.
    فلا يملك القاضي عزل القيّم على الوَقْف، ولو كان هو الذي ولَّاه نَظارةَ الوَقْف، إلّا إذا ثبتت خيانة ذلك النّاظر، ولا يملك القاضي التصرُّف في مال اليتيم مع وجود وصيٍّ على اليتيم، ولو كان ذلك الوصيُّ منصوباً من قِبَل القاضي، إلّا إنْ ثبتت خيانة الوصيّ.
    6- الأصل عند اجتماع الحقوق أن يُبدَأ بالأهم
    التوضيح: عند تزاحم الحقوق لا يقدَّم فيها أحد على أحد إلا بمرجّح ومقتضٍ يقتضي تقديمه، ويبرهن على أنّه أولى ممّا تمّ تأخيره عنه وتأجيله إلى ما بعده، فإنّه لا يجوز تقديم ما أخّره الله، ولا تأخير ما قدّمه، لا سيما عند ازدحام الحقوق، وتضاؤل القدرة عن الوفاء بها جميعاً، أو ضيق الإمكانات عن الوفاء بكلّ الحقوق في وقتٍ واحدٍ، وإن كانت تسع الجميع في الواقع.
    ومن تطبيقات هذه القاعدة: تقديم ما قدّمه الواقف في شرطِه، وتأخير ما أخّره، فإذا كان قد اشترط أنّ وقفه على طلبة العلم، فإن فضَلَ عنهم شيءٌ فإلى الجُنْد، لم يجُزْ للنّاظر تقديم الجُنْد على طلبة العلم. ومن موجبات التقديم في الاستحقاق من الزكاة: شدة الحاجة، والإنفاق على المسلمين المنكوبين بأمراض وبائيّة توشك على إبادتهم واستئصالهم أهمّ من الإنفاق على حالاتٍ مرضيّة فرديّة يضرّ تأخيرها ويمكن أن يتعايش المريض معها، أو لا يتأذّى بتأخير علاجها إلّا أذىً يسيراً محتملاً، وهكذا.

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية





    نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع، الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية.

    «الإحسان إلى الأبرار أولى من الإحسان إلى الفجار» (1)، ضابط من ضوابط الصرف في المؤسسات الخيرية والأعمال الخيرية، فالإحسان إلى الغير مطلب شرعي وصفة من صفات المؤمنين، وقد يكون هذا الغير مسلمًا برًا أو مسلمًا فاجرًا، فالإحسان إلى المسلم البر أولى على العموم من الإحسان إلى المسلم الفاجر، إلا إذا كان الإحسان إلى هذا الأخير فيه مظنة التأثير عليه ورجوعه عن فجوره.
    سئل ابن تيمية - رحمه الله - عن إعطاء الزكاة للمبتدع، فقال: «المزكِّي عليه أن يتحرى بزكاته أهل الدين الملتزمين بالشريعة، أما أهل الفجور فلا ينبغي أن يعانوا على فجورهم بالزكاة» (2).
    ففي صدقة الفرض يقدم المسلم التقي الورع على المسلم الفاسق الفاجر، وفي صدقة التطوع يقدم المسلم عموما على الكافر.
    وصاحب الحاجة أولى بالتقديم من ممن لا حاجة له: فالعطية كما تكون بحسب التقوى والصلاح، تكون أيضا بحسب الحاجة، فيقدم المسلم التقي ذي الحاجة على المسلم التقي ذي الحاجة الأقل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأكل طعامك إلا تقي» (3).
    فالصدقة والإحسان وإن كانا يجوزان للبَر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا أن المسلم مقدَّم على الكافر، والمسلم البَر أولى من الفاجر.
    فمن كان من المسلمين مسرفاً على نفسه في المعاصي مرتكباً للكبائر فإنه لا يعان على ذلك لا بصدقة ولا بغيرها، بل يحرم على المرء الدفع إليه منها، إذا كان سيستعين بها على معصية الله.
    جاء في أسنى المطالب من كتب الشافعية، في باب صدقة التطوع: يحرم دفع صدقة التطوع إلى العاصي بسفره أو إقامته إذا كان فيه إعانة له على ذلك، وكذا يحرم دفعها إلى الفاسق الذي يستعين بها على المعصية وإن كان عاجزاً عن الكسب(4).
    فالإنسان ينبغي له أن يتحرى بصدقته المستحقين من أهل الدين والصلاح، وأما من أظهر فجوراً فإنه يستحق العقوبة والهجر فكيف يعان على فجوره ومعصيته!.
    وتَصرف من تولى أمر الصدقة منوط بالمصلحة، جاء في الأشباه والنظائر: «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وهذه القاعدة نص عليها الشافعي، وقال: «منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي في اليتيم»، فالإمام إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل، مع تساوي الحاجات.. ومن فروع ذلك أنه لا يجوز له - أي الإمام - أن يقدم في مال بيت المال غير الأحوج على الأحوج»(5).
    وأضاف السيوطي: «وإنما وظيفة الإمام القسمة، والقسمة لا بد أن تكون بالعدل، ومن العدل: تقديم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجات» (7).
    ولا شك أن الإحسان إلى عباد الله الواجب منه هو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك مِن الحقوق. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (النساء:36)، فأمر بالإحْسَان إلى جميع هؤلاء.
    فعلى العاملين في المؤسسات الخيرية والتطوعية أن يتقوا الله فيما ائتمنوا عليه، وأن يحسنوا للناس، وأن يكونوا منصفين في توزيع مساعداتهم، فالمتبرعون قد أمنوهم على أموالهم لتوضع في أيدي أصحاب الحاجة ومن يستعين بها على أمر دينه ودنياه، وأن يقدم الأحوج ذو الدين والخلق والتعفف.
    الهوامش:
    1- فقه الأولويات، دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي – ط1، 1997، ص 261.
    2- مجموع الفتاوى: (25/87)
    3- سنن أبي داود: (4832)، سنن الترمذي: (2395)، مسند أحمد: (3/38) عن أبي سعيد الخدري، - رضي الله عنه.
    4- أسنى المطالب، باب صدقة التطوع ( 1/406 ).
    5- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، لبنان ط1، (1413-1983م)، ص 121.
    6- الأشباه والنظائر، ص 122.
    7- سورة النِّساء: الآية 36.



    اعداد: عيسى القدومي



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري



    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها، وتكثر الأنواع المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد التفاضل في برامج العمل الخيري.
    7- إذا تعارض الإعطاء والحرمان قُدِّم الإعطاء
    إذا وُجِد سبب يقتضي الإعطاء وآخر يقتضي المنع، ولم يوجد مرجِّح بينهما، قُدِّم الإعطاء على الحرمان.
    ومن أنواع العمل بهذه القاعدة: لفظ الواقف أو المتبرّع تبرّعاً مشروطاً، إذا وُجد في كلامه ما يُعارضُ بعضُه بعضاً، وظهر فيه ما يقتضي منعَ إنسانٍ وما يقتضي إعطاءَه في آنٍ، ولم يمكّن التحقُّق من إرادته والوقوف على مقصده بمرجّح يصلح للعمل، فالإعطاء مقدّمٌ على المنع حينها. ووجه تقديم الإعطاء على المنع هو أنّ الواقف أو المتبرّع نجزمُ بقصدٍ عامٍّ له، وهو أنّه يقصد تكثير الخير، وتعميم الإعطاء، وتوسيع دائرة البذل، فإذا عمي علينا الوقوف على قصده المخصوص في صورةٍ مخصوصة، طرحنا الدّليلين المتعارضين في خصوص تلك الصورة، وأعملنا مقصده العامّ المعروف الظاهر لكلّ أحد.
    8- الإحسان إلى الأبرار أفضل من الإحسان إلى الفجار
    هذا عند استواء البَرِّ والفاجر في الحاجة؛ لأن الحاجة المُعبَّرَ عنها في القرآن بالفقر والمسكنة هي علّة الاستحقاق أصلاً، فإذا استويا فيها، فالأصل تقديم أهل الدِّين والاستقامة والالتزام على غيرهم، لئلّا تكون سببًا في أن يتقوّى بها العُصاة على معصية الله -تعالى.
    فالمزكِّي عليه أن يتحرّى بزكاته أهل الدِّين الملتزمين بالشريعة، أما أهل الفجور فلا ينبغي أن يُعانوا على فجورهم بالزكاة، ويحرُم دفع صدقة التطوع إلى العاصي بسفره أو إقامته إذا كان فيه إعانة له على ذلك، وكذا يحرُم دفعها إلى الفاسق الذي يستعين بها على المعصية، وإن كان عاجزاً عن الكسب، على أنّه لا مانع من أن يعتري الصورة المفضولة ما يجعلها فاضلةً في بعض الظروف، وهذا محكومٌ بالزمان والمكان والأعيان.
    9- ما يُخشى فواته أولى بالتقديم على ما لا يخشى فواته
    أهل الحاجات متفاوتون في حاجاتهم؛ فمنهم الفقير، ومنهم الأفقر، ومنهم المحتاج، ومنهم الأحوج، ومنهم من حالته ملحّة حالّة، ومنهم من حالته متوقّعةٌ قريبة، ومنهم المحتاج إلى الضروريات، ومنهم المحتاج إلى الكماليات. والوجه في كلّ ذلك أن تُقدّم إغاثة المنكوبين في النوازل والكوارث؛ لأنّ المصالح الذي شُرِعَ العَوْن لحفظها، والضروريّات التي نزلت الشرائع أصلاً وخُلق المال أساساً لصيانتها، تفوت في حال تأخّر مدّ يد العون إليهم. في حين أنّنا نجد أمورًا تحتمل التأخير؛ فالإغاثة العاجلة أولى بالتقديم من إقامة الأوقاف والمشاريع وتنمية الخطط المستقبليّة للأجيال القادمة، وكذلك حفظ الأنفس والأعراض من الضروريّات، وهي أولى بالحفظ من الحاجيّات، كإقامة المشاريع التعليمية والتثقيفية، وعلى مستوى التعليم والإرشاد: العناية بتصحيح العقيدة، وتحقيق التوحيد، في الأوساط التي يُستهان فيها بذلك، أولى من الاشتغال بتحقيق مفصّل الاتّباع ونشر السّنن ومحاربة المكروهات والحضّ على الكمالات التعبّديّة.


    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري



    الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب وابتغاء مرضاةِ الله لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل
    إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ
    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
    والحديث هنا خاصٌّ بالقواعد التي تندفع بها الضّرورات، والأمور التي يمكن أن تستباح ويُتسامح فيها في العمل الخيريّ تماشيًا مع المضايق، وكذا بعض القواعد التي تتحقّق بها المصالح وتُستجلب بها المنافع وتُحفظ بها الحاجيّات، فمن هذه القواعد: الضرورات تبيحُ المحظورات
    التوضيح: هذه قاعدة من قواعد التيسير الكبرى، مفادها أن المحظور شرعاً، إذا كان لا يُتوصّل إلى صَوْن ضروريّات الإنسان إلى من خلال تقحُّمه وارتكابه، فإنّه يُباح إذا انحصرت طرائق دفع الضرورة فيه، ويُباح لدفع الضرورة ورفعها ولو كان محظوراً، والضرورات هي ما يضرّ بالإنسان في مصالحه الضروريّة التي اتفق عليها أهل الإسلام، وهي الدّين والنّفس والعقل والمال والنّسل، وهذه القاعدة في الواقع هي أهمّ القواعد المتفرّعة عن القاعدة الكليّة الكبرى: «المشقّة تجلب التيسير»؛ إذ «الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع».
    فإذا لم نجد من يعمل في وظيفة متخصصة تحتاجها المؤسسة الخيرية من المسلمين، فإنه يمكن الاستعانة بغير المسلم، إبقاءً على المصلحة، وحفاظًا على المنفعة العامّة التي تترتب على عمله، وكذلك المؤسسة الخيرية التي لم تجد بنوكاً إسلامية لإيداع أموالها فيها، فقد تُلجِئها الضرورة إلى فتح حسابات جارية في بنوك ربوية، تبعًا للضرورة النازلة بالمستفيدين في النوازل والكوارث، فإذا ارتفعت الضرورة بحيث وجد بنك إسلامي يمكنه الإيداع فيه والتعامل معه، فيجب سحب الودائع من البنك الربوي، لأن الضرورة تقدر بقدرها، وما جاز لعذر بطل بزواله. الضرورة تقدّر بقدرها
    التوضيح: إنّ كلّ تصرُّف محرّمٍ استُبيح بالضّرورة، إنّما يجوز بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة ورفعها، ولا تجوز الزيادة عن هذا الحدّ، وإلا صار إيقاع ذلك التصرُّف عدوانًا.
    ومن صور ذلك: فتح حسابات في البنوك الربوية لاستقبال التبرّعات، أو تسهيل التحويلات لمناطق بعيدة، أو اختلاط الرجال بالنساء، أو الانصياع لبعض القوانين الغربيّة التي تنصّ على مضامين مخالفةٍ للشرع من أجل تسهيل بعض الأعمال الخيرية في البلاد غير المسلمة، ونحو ذلك. الضَّرَرُ يُزَال
    التوضيح: تقتضي القاعدة تحريم سائر أنواع الضرر في الشرع؛ لأنه نوع من الظلم، ونفي الضرر يفيد دفعه قبل وقوعه بطريق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيله، وتمنع تكراره، لا سيما وهذه القاعدة معبَّرٌ عنها عند كثيرين بنصّ الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»، الذي يقتضي تحريمَ ابتداء الضّرر، وتحريمَ إيقاعه على وجه الجزاء والمقابلة، إذا لم يكن في ذلك حقٌّ ولا مصلحةٌ راجحة.
    فلا يسوغ إيذاء أية مؤسسة مسلمة أو الإضرار بها، سواء بالفعل أو بالقول بنشــر الشائعــات، أو الغيبة، أو بانتقاصها، أو بالتخبيب والتحريش والتحريض عليها، أو التشكيك فيها، أو الإضرار بهيكلها ودوائرها، بإفساد الموظّفين وتحريضهم على الانتقال أو إغرائهم بالتقصير ونحو ذلك. وكذلك لا مانع من بيع التبرعات العينية إذا كانت سريعة العطب، كالمواد الغذائية التي تنتهي صلاحيتها سريعًا، أو تكون تبرعات لا تنتفع المؤسسة الخيرية بها في مجال نشاطها، أو لكونها غير صالحة لانتفاع الفئات المستهدفة بالمساعدة بها، ثم يُستبدَل بقيمتها غيرها، ما دام هذا يحقق المصلحة للفئات المستفيدة، وذلك دفعاً لضرر تَلَفِها وضياعها هدرًا. الميسور لا يسقط بالمعسور
    التوضيح: ما لم يكن مقدورًا على تحقيقه كلِّه، وإنجازه بتمامه، لم يُجعل ذلك ذريعة إلى تركه بالكلّيّة، مع كون تحقيق مُعظمه وأكثره ممكنًا.
    فلا يُجعل العجز عن إغاثة جميع المنكوبين مسوِّغًا لترك إغاثة الممكن منهم، فإنّ المقدور عليه لا تبرأ الذمّة منه بسبب العجز عن القَدْر الباقي لتكميله، وإذا قُدّمت للمؤسّسة الخيريّة مساعدات موجّهةٌ لوجهٍ معيّن، كإغاثة اللاجئين في مكانٍ بعيد، ثمّ لم تتمكّن المؤسّسة من نقل كلّ المال إلى هناك لتعثُّر عمليّات التحويل والنّقل، لكنّها تستطيع نقل بعض المال بطرائق ممكنة، فإنّ نقل القَدْر الممكن متعيّنٌ لا يجوز تركُه لعُسر إلحاق الجزء الباقي به. ولا يجوز أن تتوقّف النشاطات العلميّة والدعويّة في مكان ما، بحجّة أن آثارها ومردودها ليس كما ينبغي، وأن الناس في تلك المنطقة مُعرضون عن العلم والدعوة، بل لا بدّ من الحفاظ على المردود والأثر الذي تم تحصيله، ولا يُعطّل الخير بحجّة عدم اكتماله. الاحتساب لا يمنع الاكتساب
    التوضيح: الإتيانُ بالعملِ وإيقاعُه طلبًا في الأجر والثواب، وابتغاء مرضاةِ الله، لا يتعارض ولا يكون مانعًا من أن يترتّب على ذلك العمل كسبٌ ورزقٌ للعامل.
    فالموظّف في المؤسّسة الخيريّة، إذا دخلَها ناوياً وجه الله، والتعبُّدَ بالعمل في وجوه الخير وميادين الحسنات، فأتقن عملَه واهتمّ به والتزمَ بما هو مطلوب، ثم خالجَه مع ذلك الرغباتُ الإنسانيّة في أن ينتفع بالتزامِه في تحسين وضعه الوظيفيّ، أو زيادة راتبه، أو حصولِه على مكافأة، فإنّ ذلك لا يؤثِّر في أجره إن شاء الله. وليس من الصّواب أن يُبخَسَ العاملون في المؤسّسات الخيريّة حقوقَهم، بحجّة أنّ عملَهم عبادة، فإنّ إرضاءَهم والعناية بهم وتعديل رواتبهم حتى يكونوا كأمثالهم في المؤسسات ذات الطابع المشابه، مقصدٌ شريفٌ، ومراعاتُه حسنةٌ جدًّا، ومصلحةٌ شرعيّة، وغايةٌ مهنيّة. ما كان لله استُعين ببعضه على بعض
    التوضيح: ما كان حقًّا لله -تعالى- من الحقوق المالية، كالصّدقات والكفّارات والنذور والأوقاف على جهات البرّ، فإنّه يُعمل في هذا المال بمقتضى المصلحة والنفع، فالكلّ لله -تعالى-، وما دام غير مخصّص ولا مشروطٍ، وإنّما أخرجه من أخرجه لله، فيُستعان ببعضه للصّرف على بعضه، إذا لم يخالف ذلك المصرف الذي اشترطه الواقف أو المتبرع.
    وهذه القاعدة توجه طريقة الصرف في الأعمال الخيرية والوقفية وضوابط نقل المال من مصرف إلى آخر، وأنّ التصرف في المال الخيري والوقفي، الغالب أنّه مقيد بشروط ينبغي أن يراعيها متولّي هذا المال، لكن إذا كان التبرُّع أو الوقف على جهاتٍ عامّة مثل: سبيل الله، ووجوه الخير، ووجوه البرّ، فإنّ هذا المال يُستعانُ ببعضِه على نقل بعضِه، ويستعان ببعضِه على تنمية بعضه الآخر، ونحو ذلك، فإنّ ما أضافه الله -تعالى- إلى نفسه، فجهته جهة المصلحة.

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,530

    افتراضي رد: القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية

    القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – فقه المآلات وأثره في العمل الخيري



    من أتلف شيئًا من ممتلكات المؤسسة الخيريّة وهو مفرِّط في ذلك فعليه ضمانُه وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة عن طريق التبرُّعات
    إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله تعالى عليه أمرَه
    تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
    اعتبار المآلات، ومراعاة نتائج التصرّفات، من أدقّ أبواب الفقه؛ إذ لا يُحسن استشرافَ ما تكون عليه الأمور في المستقبل إلّا ذو نظر نافذٍ وبصيرة، وهذه مجموعةٌ من القواعد التي تُنبئ عن آثار التصرّفات التي قد تترتّب على ما يقوم به العاملون في المجال الخيريّ، مع دلالتها على أحكام تلك الآثار وما يرتبط بها في حال حدوثها.
    1- الدفع أسهل من الرفع
    التوضيح: القاعدة تدور على تقرير أنّ الوقاية من الشرّ قبل وقوعه أيسر وأسهل من رفعه وعلاج آثاره بعد وقوعه وتمكُّنه، وهذا المعنى مشهور في الطبّ بلفظ (الوقاية خير من العلاج)، فدفع المنتفعين والمغرضين وأصحاب الكفاءات المتدنّية والقدرات المنقوصة عن إدارة المؤسسات الخيرية، وإبعادهم عن المسؤولية المباشرة عن المشاريع، أسهل وأيسر من الانشغال بعلاج وترقيع آثار إساءاتهم والخراب الناشئ عن فشلهم في المؤسسة ومشاريعها، لأن الدفع أسهل من الرفع، وكذلك التنبُّه للشُّبُهات، والدعوات المشبوهة، والنزعات المنحرفة بالإفراط أو التفريط، لا بدّ أن يكون أولاً بأوّل؛ إذ إنّ منعها من التمكُّن من القلوب والعقول أيسر من مكابدة إخراجها منها.
    2- المفرِّط ضامن
    التوضيح: من أتلف مال غيره عمداً فإنه يضمنه بأن يؤدي مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قِيَمِياً، أمّا إن ضاع منه ذلك قهراً، أو غَلَبَةً، أو بجائحةٍ قضاءً وقدراً، ومن غير تفريط ولا إهمال منه، فإنه لا يضمنه، إلا إذا كان معتدِّياً في وضع اليد أصلاً، فإنه يضمن، كالغاصب. فمن أتلف من ممتلكات المؤسسة الخيريّة شيئًا ممّا يستعمله الموظّفون، كالسيّارات والأدوات المكتبيّة، وهو مفرِّط في ذلك، فعليه ضمانُه، وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة على شكل تبرُّعات، سواء منها ما كان نقديًّا أو عينيًّا، كلُّه تجري عليه هذه القاعدة بوجوب ضمانه في حال تلفه نتيجة التفريط في حفظه.
    3- {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
    التوضيح: هذه القاعدة نصّ آيةٍ كريمة، ومعناها العامّ أنّ من أحسن لغيره بنفسه أو ماله، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، فهو غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، فلا تجوز مخاطبة المتبرِّع خطاباً يشبه خطاب من عليه حقٌّ واجب، لأنّ المتبرِّع في كلّ أشكال التبرّعات محسنٌ، لا سبيل إلى إلزامه أو إيجاب شيء عليه. والمؤسسة الخيرية عند قبولها نقل التبرُّع من صاحبه إلى مستحقِّه بلا مقابل، فهي وكيل متبرِّع بهذه الوكالة، فإذا تلف في يدها شيء من ذلك من غير تفريط أو إفراط فلا ضمان عليها.
    4- الخطأ لا يُستدام ولكن يُرجَع عنه
    التوضيح : الخطأ إذا اكتُشف يجب الرجوع عنه، ولا يجوز الاستمرار عليه، لأن المخطئ مرفوع عنه الإثم، ولكنه إذا عرف خطأه وأصرّ عليه، واستمرّ ولم يرجع عنه، فلا يبقى حينئذ خطأ، بل يكون قد تعمَّدَ الوقوع في الخطأ، فهو مأخوذ بما أخطأ فيه، وهو آثم في ذلك. وعليه: فكلُّ القرارات الإداريّة التي يتبيّن للمسئول في المؤسسة الخيريّة أنّه جانب فيها الصواب، فالواجب الرجوع عنها وتصويب مسارها ومعالجة آثارها ما أمكن، وكذلك إذا خُصص مشروع خيري لمنفعة ما، ولم يحقق المشروع تلك المنفعة، لخطأ في دراسة الجدوى أو في تقديرات الرّيع، أو لتغير الظروف المحيطة به، فيعمل على تحويل المشروع إلى ما هو أنفع، تصحيحاً للخطأ ومعالجةً لأثره.
    5- إذا تبيّن عدم إفضاء الوسيلة إلى المقصود بطل اعتبارها
    التوضيح: الوسائل والأسباب المفضيةُ إلى أمورٍ مقصودةٍ للشّارع، وليست مقصودةً في ذاتها، إنّما تُتّخذ وتُتّبع إذا تحقّق المكلّف من إيصالها إذا المقصود، فإذا تبيّن عدم إيصالها إلى المقصود وإسهامها في تحقيقه، فالأخذ بها ليس مطلوباً في الشّرع، واعتبارها ساقطٌ، وكذلك إذا تبيّن في ظرفٍ ما أنّ اعتبار المقصود نفسه قد سقط، فإنّ الوسيلةَ تسقط تبعاً له، فـ «لا شكّ بأنّ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد». فإذا كان السعيُ إلى صلاة الجمعة مثلاً -وهو وسيلةٌ مشروعةٌ في ذاتها- يسقط إذا فاتت الصلاة، مع أنّ السعي في ذاته لا مفسدة فيه، فبقياس الأولى تسقط كلّ الوسائل التي تتّخذها المؤسّسات الخيريّة مع كونها تشوبُها في ذاتها شوائبُ من شُبهة أو شكّ أو تعلُّق بأحوال الاضطرار والحاجة دون الأحوال الاعتياديّة. فلا داعي لاستمرار حسابات في بنوك تمّ فتحها لإنجاز مهمّة محدودةٍ في بعض الأماكن، وإذا كان التنقّل والسّفر مشكوكاً في إفادته للمؤسّسة أو مقطوعاً بعدم منفعته، فإنّه يكون عبئاً على ميزانيّات المؤسسات الخيرية وسوءَ تصرُّف من إدارتها.
    6- من التَزَمَ معرُوفاً لَزِمَه
    التوضيح: من صدرت منه إرادةٌ منفردةٌ، عبَّرَ عنها بطريقةٍ مُعتبرَةٍ شرعاً، تعهّد فيها بفعل ما فيه نفعٌ لغيره لم يُطالبه به الشرع ولم يكن أثراً لتصرُّفٍ آخر، فقد أصبح مُطالباً به بموجب تلك الإرادة. فمن وعدَ طالبَ علمٍ بأن يرصُد له مبلغاً من المال يشتري به كتبًا، فتعجَّلَ طالبُ العلم لنهمته شراءَها بدَيْن في ذمّته معوِّلاً على الوعد، فقد أصبح إنفاذُ الوعد لازماً ما لم يفلس الواعد، وكذلك من وعد بكفالةٍ مريحةٍ تكفي للتوسعةٍ على يتيمٍ وأمِّه، فغَرِمَت الأمُّ في ذمّتها ثمن ضروريَّاتٍ كانت مؤجَّلةً لولدها اتكاءً منها على الوعد، فقد لَزِمَ الوعدُ صاحبَه، ومن قال لآخر: تزوَّجْ وعَلَيَّ صداق امرأتك، ففعلَ الموعودُ، لَزِمَ الواعدَ الوفاءُ. والحقّ أنّ نصّ هذه القاعدةِ يعبّر عن قول المالكيّة، ولفظها ممّا اشتهر عن الإمام مالك نفسِه، والإلزامُ بالوعد بالمعروف عندهم يكون فيما إذا دخل الموعودُ في سببٍ بناءً على الوعد فقط، وليس إلزاماً مطلقاً، أمّا الجمهور فيخالفونهم أصلاً وفرعاً، إلّا أنّ لقول المالكيّة حظًّا قويًّا من النّظر.
    7- ما قارب الشيء يُعطى حكمه
    التوضيح: من قام بأكثر أو معظم ما كُلِّف به، برئت ذمّته بذلك، واكتُفي منه بما قام به، ما لم يكن ذلك مُعارَضًا بنصٍّ صريح، كما في الأمر بصيام رمضان، فإنّه لا يتمّ الامتثال إلا بصيامه كلِّه. فإذا وُجد في الأضحيّة عيبٌ يسيرٌ، كقطعٍ صغير في الأُذُن، أو الذَّنَب، أو عَرَجٍ خفيف، فكلُّ ذلك معفوٌّ عنه، لأنّها في حالها مُقاربة للحالة الكاملة، وإذا لم يستقرّ العُرف عند المسلمين في بلدٍ ما على قُوت معيّن، لزمهم في صدقة الفطر قُوت أقرب البلاد إليهم، كما أنّ من نقصَ محصولُه عن خمسةِ الأوسُقِ الحبّةَ والحبّتين، فالوجه الذي تقتضيه هذه القاعدة أن الزكاة تجب عليه، لأنّه لو استوفاها من أحدٍ أو أدّاها لأحدٍ لجرى التسامح في مثل هذا القَدْر، إذ «التافه في حكم العدم».
    8- الجزاء من جنس العمل
    التوضيح: هذه قاعدةٌ فقهيّة، أخلاقيّة، سلوكيّة، قانونيّة، ومعنىً ملحوظٌ في جملة التشريعات الإسلاميّة، وحقيقةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسّنّة والإجماع، تقضي بأنّ الثواب أو العقاب الذي يتلقّاه الإنسان على فعلٍ ما، يكون من جنس ذلك الفعل عادةً، لأن هذا هو مقتضى العدل الإلهيّ. فتأخير مستحقَّات أهل الحاجات بلا داعٍ ولا مسوّغ، يُدخل من يفعل ذلك تحت الوعيد الإلهيّ بأن يُؤخِّر الله عنه ما يحبّ، كما أن إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم، وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق، والتمحُّل في اتّهام من صرّح بحاجته، يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله -تعالى- عليه أمرَه، ويبتليه بمن يمنعه حقَّه، فالتنبُّه لهذا الملحظ الشرعيّ سياسةٌ أخلاقيّةٌ ضروريّة لنجاح الأعمال الخيريّة ونهضة مؤسّساتها.

    اعداد: عيسى القدومي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •