القواعد الأصولية والفقهية المنظِّمة للعمل الخيري – فقه المآلات وأثره في العمل الخيري
من أتلف شيئًا من ممتلكات المؤسسة الخيريّة وهو مفرِّط في ذلك فعليه ضمانُه وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة عن طريق التبرُّعات
إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله تعالى عليه أمرَه
تتضمّن هذه الحلقات تعريفًا مختصرًا بعلم القواعد الفقهية وعلاقته بغيره من علوم الفقه، وتنويهًا بأهميّته، كما يتضمّن تقرير أهميّة التأصيل الشرعيّ لمؤسسات العمل الخيري، في مجالاتها الإداريّة والعملية وأعمالها الميدانية، لا في أرضيّة العمل الخيريّ النظريّة العلميّة فقط، كما تتضمّن مع ذلك سردًا وشرحًا لأهمّ القواعد الفقهيّة التي يتّسع مجال تطبيقها وتكثر الصور المندرجة تحتها في مجال الأعمال الخيرية، واليوم نتحدث عن قواعد الضرورة والحاجة في العمل الخيري.
اعتبار المآلات، ومراعاة نتائج التصرّفات، من أدقّ أبواب الفقه؛ إذ لا يُحسن استشرافَ ما تكون عليه الأمور في المستقبل إلّا ذو نظر نافذٍ وبصيرة، وهذه مجموعةٌ من القواعد التي تُنبئ عن آثار التصرّفات التي قد تترتّب على ما يقوم به العاملون في المجال الخيريّ، مع دلالتها على أحكام تلك الآثار وما يرتبط بها في حال حدوثها. 1- الدفع أسهل من الرفع
التوضيح: القاعدة تدور على تقرير أنّ الوقاية من الشرّ قبل وقوعه أيسر وأسهل من رفعه وعلاج آثاره بعد وقوعه وتمكُّنه، وهذا المعنى مشهور في الطبّ بلفظ (الوقاية خير من العلاج)، فدفع المنتفعين والمغرضين وأصحاب الكفاءات المتدنّية والقدرات المنقوصة عن إدارة المؤسسات الخيرية، وإبعادهم عن المسؤولية المباشرة عن المشاريع، أسهل وأيسر من الانشغال بعلاج وترقيع آثار إساءاتهم والخراب الناشئ عن فشلهم في المؤسسة ومشاريعها، لأن الدفع أسهل من الرفع، وكذلك التنبُّه للشُّبُهات، والدعوات المشبوهة، والنزعات المنحرفة بالإفراط أو التفريط، لا بدّ أن يكون أولاً بأوّل؛ إذ إنّ منعها من التمكُّن من القلوب والعقول أيسر من مكابدة إخراجها منها. 2- المفرِّط ضامن
التوضيح: من أتلف مال غيره عمداً فإنه يضمنه بأن يؤدي مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قِيَمِياً، أمّا إن ضاع منه ذلك قهراً، أو غَلَبَةً، أو بجائحةٍ قضاءً وقدراً، ومن غير تفريط ولا إهمال منه، فإنه لا يضمنه، إلا إذا كان معتدِّياً في وضع اليد أصلاً، فإنه يضمن، كالغاصب. فمن أتلف من ممتلكات المؤسسة الخيريّة شيئًا ممّا يستعمله الموظّفون، كالسيّارات والأدوات المكتبيّة، وهو مفرِّط في ذلك، فعليه ضمانُه، وكذلك التفريط في حفظ الأموال التي تصل إلى المؤسسة على شكل تبرُّعات، سواء منها ما كان نقديًّا أو عينيًّا، كلُّه تجري عليه هذه القاعدة بوجوب ضمانه في حال تلفه نتيجة التفريط في حفظه. 3- {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
التوضيح: هذه القاعدة نصّ آيةٍ كريمة، ومعناها العامّ أنّ من أحسن لغيره بنفسه أو ماله، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، فهو غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، فلا تجوز مخاطبة المتبرِّع خطاباً يشبه خطاب من عليه حقٌّ واجب، لأنّ المتبرِّع في كلّ أشكال التبرّعات محسنٌ، لا سبيل إلى إلزامه أو إيجاب شيء عليه. والمؤسسة الخيرية عند قبولها نقل التبرُّع من صاحبه إلى مستحقِّه بلا مقابل، فهي وكيل متبرِّع بهذه الوكالة، فإذا تلف في يدها شيء من ذلك من غير تفريط أو إفراط فلا ضمان عليها. 4- الخطأ لا يُستدام ولكن يُرجَع عنه
التوضيح : الخطأ إذا اكتُشف يجب الرجوع عنه، ولا يجوز الاستمرار عليه، لأن المخطئ مرفوع عنه الإثم، ولكنه إذا عرف خطأه وأصرّ عليه، واستمرّ ولم يرجع عنه، فلا يبقى حينئذ خطأ، بل يكون قد تعمَّدَ الوقوع في الخطأ، فهو مأخوذ بما أخطأ فيه، وهو آثم في ذلك. وعليه: فكلُّ القرارات الإداريّة التي يتبيّن للمسئول في المؤسسة الخيريّة أنّه جانب فيها الصواب، فالواجب الرجوع عنها وتصويب مسارها ومعالجة آثارها ما أمكن، وكذلك إذا خُصص مشروع خيري لمنفعة ما، ولم يحقق المشروع تلك المنفعة، لخطأ في دراسة الجدوى أو في تقديرات الرّيع، أو لتغير الظروف المحيطة به، فيعمل على تحويل المشروع إلى ما هو أنفع، تصحيحاً للخطأ ومعالجةً لأثره. 5- إذا تبيّن عدم إفضاء الوسيلة إلى المقصود بطل اعتبارها
التوضيح: الوسائل والأسباب المفضيةُ إلى أمورٍ مقصودةٍ للشّارع، وليست مقصودةً في ذاتها، إنّما تُتّخذ وتُتّبع إذا تحقّق المكلّف من إيصالها إذا المقصود، فإذا تبيّن عدم إيصالها إلى المقصود وإسهامها في تحقيقه، فالأخذ بها ليس مطلوباً في الشّرع، واعتبارها ساقطٌ، وكذلك إذا تبيّن في ظرفٍ ما أنّ اعتبار المقصود نفسه قد سقط، فإنّ الوسيلةَ تسقط تبعاً له، فـ «لا شكّ بأنّ الوسائل تسقط بسقوط المقاصد». فإذا كان السعيُ إلى صلاة الجمعة مثلاً -وهو وسيلةٌ مشروعةٌ في ذاتها- يسقط إذا فاتت الصلاة، مع أنّ السعي في ذاته لا مفسدة فيه، فبقياس الأولى تسقط كلّ الوسائل التي تتّخذها المؤسّسات الخيريّة مع كونها تشوبُها في ذاتها شوائبُ من شُبهة أو شكّ أو تعلُّق بأحوال الاضطرار والحاجة دون الأحوال الاعتياديّة. فلا داعي لاستمرار حسابات في بنوك تمّ فتحها لإنجاز مهمّة محدودةٍ في بعض الأماكن، وإذا كان التنقّل والسّفر مشكوكاً في إفادته للمؤسّسة أو مقطوعاً بعدم منفعته، فإنّه يكون عبئاً على ميزانيّات المؤسسات الخيرية وسوءَ تصرُّف من إدارتها. 6- من التَزَمَ معرُوفاً لَزِمَه
التوضيح: من صدرت منه إرادةٌ منفردةٌ، عبَّرَ عنها بطريقةٍ مُعتبرَةٍ شرعاً، تعهّد فيها بفعل ما فيه نفعٌ لغيره لم يُطالبه به الشرع ولم يكن أثراً لتصرُّفٍ آخر، فقد أصبح مُطالباً به بموجب تلك الإرادة. فمن وعدَ طالبَ علمٍ بأن يرصُد له مبلغاً من المال يشتري به كتبًا، فتعجَّلَ طالبُ العلم لنهمته شراءَها بدَيْن في ذمّته معوِّلاً على الوعد، فقد أصبح إنفاذُ الوعد لازماً ما لم يفلس الواعد، وكذلك من وعد بكفالةٍ مريحةٍ تكفي للتوسعةٍ على يتيمٍ وأمِّه، فغَرِمَت الأمُّ في ذمّتها ثمن ضروريَّاتٍ كانت مؤجَّلةً لولدها اتكاءً منها على الوعد، فقد لَزِمَ الوعدُ صاحبَه، ومن قال لآخر: تزوَّجْ وعَلَيَّ صداق امرأتك، ففعلَ الموعودُ، لَزِمَ الواعدَ الوفاءُ. والحقّ أنّ نصّ هذه القاعدةِ يعبّر عن قول المالكيّة، ولفظها ممّا اشتهر عن الإمام مالك نفسِه، والإلزامُ بالوعد بالمعروف عندهم يكون فيما إذا دخل الموعودُ في سببٍ بناءً على الوعد فقط، وليس إلزاماً مطلقاً، أمّا الجمهور فيخالفونهم أصلاً وفرعاً، إلّا أنّ لقول المالكيّة حظًّا قويًّا من النّظر. 7- ما قارب الشيء يُعطى حكمه
التوضيح: من قام بأكثر أو معظم ما كُلِّف به، برئت ذمّته بذلك، واكتُفي منه بما قام به، ما لم يكن ذلك مُعارَضًا بنصٍّ صريح، كما في الأمر بصيام رمضان، فإنّه لا يتمّ الامتثال إلا بصيامه كلِّه. فإذا وُجد في الأضحيّة عيبٌ يسيرٌ، كقطعٍ صغير في الأُذُن، أو الذَّنَب، أو عَرَجٍ خفيف، فكلُّ ذلك معفوٌّ عنه، لأنّها في حالها مُقاربة للحالة الكاملة، وإذا لم يستقرّ العُرف عند المسلمين في بلدٍ ما على قُوت معيّن، لزمهم في صدقة الفطر قُوت أقرب البلاد إليهم، كما أنّ من نقصَ محصولُه عن خمسةِ الأوسُقِ الحبّةَ والحبّتين، فالوجه الذي تقتضيه هذه القاعدة أن الزكاة تجب عليه، لأنّه لو استوفاها من أحدٍ أو أدّاها لأحدٍ لجرى التسامح في مثل هذا القَدْر، إذ «التافه في حكم العدم». 8- الجزاء من جنس العمل
التوضيح: هذه قاعدةٌ فقهيّة، أخلاقيّة، سلوكيّة، قانونيّة، ومعنىً ملحوظٌ في جملة التشريعات الإسلاميّة، وحقيقةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسّنّة والإجماع، تقضي بأنّ الثواب أو العقاب الذي يتلقّاه الإنسان على فعلٍ ما، يكون من جنس ذلك الفعل عادةً، لأن هذا هو مقتضى العدل الإلهيّ. فتأخير مستحقَّات أهل الحاجات بلا داعٍ ولا مسوّغ، يُدخل من يفعل ذلك تحت الوعيد الإلهيّ بأن يُؤخِّر الله عنه ما يحبّ، كما أن إثقال كاهل الفقراء بطلبات تعجيزيّة من أجل إثبات فقرهم، وتكليفهم بتوفير ما يجعلهم أذلَّاء من الوثائق، والتمحُّل في اتّهام من صرّح بحاجته، يضع فاعلَ ذلك تحت وعيد أن يعسِّر الله -تعالى- عليه أمرَه، ويبتليه بمن يمنعه حقَّه، فالتنبُّه لهذا الملحظ الشرعيّ سياسةٌ أخلاقيّةٌ ضروريّة لنجاح الأعمال الخيريّة ونهضة مؤسّساتها.
اعداد: عيسى القدومي