كل علم يُسأل عنه أهله والعارفون به

د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بَعْدَهُ، وبعدُ:
فَمِنَ الضوابطِ التي تعصم الإنسان من الزلل والخطأ أَن يُسأل عَن كلِّ علمٍ أهلُهُ والمتخصصون فيه والعارفون به والمتعمقون في مسائلهِ والمتشبعونَ منه، وليسَ كلُّ مَنْ قرأ كتابًا في علمٍ جَازَ لَهُ أَن يتكلَّمَ فيهِ أَو يحتكمَ إليه.

ذَلِكَ أَنَّ الإحاطةَ بالعلومِ كلِّها أمر يكاد يكون مستحيلًا أو متعذَّرًا عَلَى النَّاسِ؛ وَلذلكَ اتَّجه كلُّ شخصٍ إلى ما يرغبُ من العلومِ، وبرعَ فيهِ، وصارَ رأسًا فيه، وصار ما يعرفه منه أكثر مِمَّا يجهله، واستحقَّ بذلكَ أَن يكون مَرْجِعًا في هذا العلمِ الذي يُحسنه، وصارَ لِزَامًا عَلَى الناسِ أَن يرجعوا إليه فيما يعرفه، فهو أَوْلى بذلك من غيرهِ.

فمن كان من أهل الفقه والنَّظر، فهو المَرْجِع في ذلكَ، ولا ينبغي ولا يصح العدول عنه إلى غيره؛ لأنه أدرى بعلمهِ من غيره.

وفقه الحديث ومعرفة حلاله وحرامه من مهمَّاتِ الفقهاء، فيجب الرجوع إليهم في ذلكَ، وإِلَّا أَوْشك الإنسانُ أَن يقعَ في الحرامِ، أو يُحرَّمَ الحلال بمتابعة مَن لا يُحسنُ إِلَّا رواية الحديث.

لهذا حرص علماء السلف على إسداء النصح لطلابهم لانتهاج هذا المنهج وسلوك هذا السبيل والالتزام بهذا الطريق.

فمن ذلك ما جاء عَن إبراهيم النخعيِّ، وهو ينصح ويوجِّه المغيرة الضبي الذي شغله طلب الحديث عَن حضور مجلس الفقه عند إبراهيم، فقالَ لَهُ: "لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إِلَّا ممن يعلم حلالها من حرامها، وحرامها من حلالها، وإِنَّكَ لتجدُ الشيخ يُحدِّثُ بالحديثِ فيحرِّف حلاله عَن حرامهِ، وحرامه عَن حلالهِ، وهو لَا يشعرُ"[1].

وَكلام الإمام إبراهيم لا يدعو أبدًا إلى العزوفِ عَن الحديث وَإِهماله، والاشتغال بالفقه وحده، وإِنَّما هو نظرةٌ تقومُ على الموازنة بين هذين العلمين والجمع بينهما، وأَنَّ الجمعَ بينهما هو الغاية الحقيقية والصحيحة مِن طلبِ العلم.

وَلذلكَ أَيضًا لَمَّا سألَ الإمامُ مالك نافعًا مولى ابن عمر، عَن حكم البسملةِ، أَخبره نافع أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ الجهر بها، سَلَّمَ له مالكٌ، وقالَ: "كلُّ علمٍ يُسأل عَنه أهله"[2].

ودونك هذه القصة العجيبة التي تُريك ضرورة أن يُسأل عن كل علم أهله والعارفون به، فقد جاء في كُتب العلماءِ أن امرأة وقفت على مجلسٍ فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعةٍ يتذاكرونَ الحديث، فسمعتهم يقولونَ: قالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورواهُ فلانٌ، وما حَدَّث به غيرُ فلان، فسألتهم عَن المرأة الحائض تُغَسِّلُ الموتى – وكانت غاسلة – فَلم يجبها أحدٌ منهم، وجعلَ بعضهم ينظرُ إلى بعضٍ، فأقبلَ أبو ثورٍ، فقيل لها: عليكِ بالمُقْبِلِ، فالتفتت إليه وقد دَنَا منها، فسألته، فقالَ: "نعم تُغَسِّلُ الميت؛ لحديث عثمان بن الأحنفِ، عن القاسم، عن عائشة، أَنَّ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ لَهَا: (أَما إِنَّ حيضتك ليست في يدكِ)، ولقولها: (كنتُ أفرق رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالماءِ وأَنَا حائضٌ)، قالَ أبو ثورٍ: فإذا فرقت رأس الحيِّ بالماءِ فالميتُ أَوْلى به. فقالوا: نعم، رواهُ فلانٌ، ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في الطرق والرواياتِ، فقالت المرأةُ: فأين كنتم إلى الآن؟!"[3].

وفي هذه الرواية بيان أهميَّة أن يجتمع الحديث والفقه عند الرجل، فبدون معرفة الحديث يوشك الفقيه أن يجتهد فيقع في مُخالفة النصوص التي ليست عنده، وبدون معرفة فقه الحديث تظل الحيرة تملأ نفوس النَّاسِ لمعرفة دلالة نص من نصوص الحديث على حكمٍ شرعيٍّ.

[1] الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (صـ169).

[2] التدوين في أخبار قزوين للقزويني (1/ 154)، لطائف الإشارات للقسطلاني (1/ 80، 94).

[3] المحدث الفاصل للرامهرمزي (صـ249)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 88)، تاريخ بغداد (6/ 67).