تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: مكارم الأخلاق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (1)
    فضل حسن الخلق
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - شأن الأخلاق عظيم ومنزلتها عالية في الدِّين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، *وَإِنَّ *أَبْغَضَكُمْ *إِلَيَّ *وَأَبْعَدَكُمْ *مِنِّي *فِي *الْآخِرَةِ مَسَاوِئُكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُ ونَ الْمُتَشَدِّقُو نَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    - كانت الأخلاق في حياة المسلمين سببًا رئيسًا لعزتهم وقوتهم ومنعتهم وسعادتهم، فعاشوا فيما بينهم حياة يسودها الحب والتعاون، والاحترام المتبادل، وأسسوا حضارة بهرت العالم، فسادوا الدنيا من حولهم: قال -تعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).

    - المسلمون الآن يعيشون حياة الذل والضعف والهوان والتبعية؛ بسبب تنازلهم عن أخلاق الاسلام، فصاروا في ذيل الأمم: قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) (طه: 123، 124).

    وقال الشاعر:

    إنـما الأمـم الأخـلاق مـا بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

    - حاجتنا إلى الرجوع إلى أخلاق الإسلام وتعاليمه، وإقامة نصوص الشرع التي تحض على محاسن الأخلاق وتحذر وتنفر من مساوئ الأخلاق: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

    مكانة حُسْنُ الخُلُق في القرآن الكريم:

    - جعله الله من أبرز صفات أهل الجنة المتقين: قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 131، 132).

    - جعل الله نوعًا منه -الحلم- سببًا للجزاء الأوفر من الله؛ فكيف بمن تحلى بعمومه؟ قال -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40).

    - جعل الله نوعًا منه -اللين والرفق- سببًا لنجاح الإنسان في حياته مع الناس: قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).

    - أرشد الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والأمة من بعده الى استعمال الأخلاق الحسنة بأنواعها، وفق كل ظرف ومكان وحال، فهو سبب النجاح والفلاح وتأليف القلوب: قال -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199).

    مكانة حُسْنُ الخُلُق في السنة النبوية:

    - حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على حسن الخلق، وأخبر بأن له الأثر العظيم والثواب الجزيل، الذى يعدل درجة العابد الدائم الصيام والقيام: قال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *الرَّجُلَ *لَيُدْرِكُ *بِحُسْنِ *خُلُقِهِ، *دَرَجَةَ *الصَّائِمِ *الْقَائِمِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

    - عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق من أعظم أسباب كمال الإيمان: فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ *الْمُؤْمِنِينَ *إِيمَانًا *أَحْسَنُهُمْ *خُلُقًا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

    - وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حسن الخلق، والتمسك به، من أعظم السبل للجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ: *تَقْوَى *اللهِ، *وَحُسْنُ *الْخُلُقِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    - ولذا رغب -صلى الله عليه وسلم- في بذل كل خصال حسن الخلق ولو كانت يسيرة؛ لما لها من آثار وأجور كثيرة: فقال -صلى الله عليه وسلم-: (*الْكَلِمَةُ *الطَّيِّبَةُ *صَدَقَةٌ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*تَبَسُّمُكَ *فِي *وَجْهِ *أَخِيكَ *صَدَقَةٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    - وبالجملة؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- حض على حسن الخلق بكل صوره وشعبه: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: (أحَبُّ *النَّاسِ *إِلَى *الله *أنْفَعُهُمْ *وأحَبُّ *الأعْمَالِ *إِلَى *الله -عز وجل- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ على مُسْلِمٍ، أوْ تَكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأَنْ أمْشِيَ مَعَ أخِي المُسْلِمِ فِي حاجَةٍ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ شَهْرًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*اتَّقِ *اللهَ *حَيْثُمَا *كُنْتَ، *وَأَتْبِعِ *السَّيِّئَةَ *الْحَسَنَةَ *تَمْحُهَا، *وَخَالِقِ *النَّاسَ *بِخُلُقٍ *حَسَنٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك؛ فلذلك أنزل الله -عز وجل-: (*وَإِنَّكَ *لَعَلَى *خُلُقٍ *عَظِيمٍ) (القلم: 4). وقال -تعالى-: (*لَقَدْ *كَانَ *لَكُمْ *فِي *رَسُولِ *اللَّهِ *أُسْوَةٌ *حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الأحزاب: 21).

    مواقف نبوية في حسن الخلق:

    لقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها مواقف في حسن الخلق، وذلك بما تضمنته على جميع الجهات والمستويات.

    1- موقف في الايثار:

    - كان -صلى الله عليه وسلم- لا يسأله أحد من الناس شيئًا إلا بذله له ولو كان في أشد الحاجة إليه: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: أن امرأةَ جاءت إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنسُوجَةٍ، فقالت: نَسَجتُها بيديَّ لأَكْسُوَكَها، فأخذها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، فخرجَ إلينا وإنها إزارُهُ، فقال فلانٌ: اكسُنِيها ما أحسَنَها! فقال: (نَعَمْ)، فجلسَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في المجلسِ، ثم رجع فطَوَاها، ثم أرسلَ بها إليه، فقال له القومُ: ما أحسَنتَ! لبسها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، ثم سألته وعَلِمتَ أنه لا يَرُدَ سائلًا، فقال: "*إِنِّي *وَاللَّهِ *مَا *سَأَلْتُهُ *لِأَلْبَسَهَا، *إِنَّمَا *سَأَلْتُهُ *لِتَكُونَ *كَفَنِي"، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. (رواه البخاري).

    2- موقف في الوفاء:

    - كان -صلى الله عليه وسلم- يحفظ لأم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- معروفها وحسن عشرته معه بعد أن توفاها الله -تعالى-: فقد صحَّ عنه أنه لما استأذنت عليه هالة بنت خويلد -أخت خديجة-رضي الله عنها- عرفها لتشابه صوتهما، فقال: (اللهم هالة)، وهو مرتاح لذلك، تذكرًا وحبًّا لخديجة. وكان كثيرًا ما يذكر خديجة، ويقول: "لقد كانت وكانت"، وعندما سمعت ذلك أمّ المؤمنين عائشة غارت، وقالت: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ -عز وجل- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْرًا مِنْهَا؛ قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي *إِذْ *كَذَّبَنِي *النَّاسُ، *وَوَاسَتْنِي *بِمَالِهَا *إِذْ *حَرَمَنِي *النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عز وجل وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ) (رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له).

    3- موقف في الرفق والحكمة:

    - كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تعليم المسلمين باللين والحسنى، لا سيما من كان منهم حديث العهد بالإسلام: فبينما كان مع أصحابه في المسجد، إذا بأعرابيّ جاء على بعير أناخه، ثمّ اتجه إلى ناحية من نواحي المسجد وبال فيه؛ فثار الصحابة الكرام لمّا رأوا الأعرابي يبول في المسجد، فحاولوا أن ينهروه ويثنوه عن فعله؛ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن ذلك، وبعد أن أنهى الأعرابي بوله دعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليأتي إليه، ثم أرشده باللين قائلًا: (*إِنَّ *هَذِهِ *الْمَسَاجِدَ *لَا *تَصْلُحُ *لِشَيْءٍ *مِنْ *هَذَا *الْبَوْلِ *وَلَا *الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)، ثمّ أمر أحد الصحابة فنضح البول بدلو من الماء ليزيل النجاسة، فما كان من الأعرابي إلا أن قال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ، *وَلَا *تَغْفِرْ *لِأَحَدٍ مَعَنَا!"؛ وهذا لعظيم تأثره بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وعظيم مراعاته لحاله.

    4- موقف في العفو والرحمة:

    - في السنة الثامنة من الهجرة نصره الله -تعالى- على كفار قريش، ودخل -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل -صلى الله عليه وسلم-، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، ومع كل ذلك قابل -صلى الله عليه وسلم- كل تلك الإساءات بموقف أخلاقي كريم في العفو -يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين-، فقال لهم: "ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء" (رواه البيهقي). ولما قال رجل من المسلمين: اليوم يوم الملحمة، قال -صلى الله عليه وسلم- له: "بل اليوم يوم المرحمة!".

    خاتمة:

    - ومع كل هذه الأخلاق الكريمة، كان -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله -تعالى- حسن الخلق! فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*اللهمَّ *كَمَا *حَسّنْتَ *خَلْقِي *فَحَسّنْ *خُلقِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي دعاء الاستفتاح الطويل كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*وَاهْدِنِي *لِأَحْسَنِ *الْأَخْلاقِ، *لَا *يَهْدِي *لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ)، فمن أحوج إلى ذلك عباد الله؟!


    - نحن والله أحوج الى السؤال والتحلي بحسن الخلق، ومكارم الأخلاق؛ لا سيما في هذه الأيام التي ذهبت فيها كثير من مكارم الأخلاق عند كثير من الناس! نحن والله أحوج إلى نشر الأخلاق الحسنة، والترغيب في التحلي بها.

    - ومن هذا الباب: ستكون لنا كلمات وعظية حول بعض الأخلاقيات التي ننشدها في حياتنا ومجتمعاتنا، نقف في كل موعظة منها على خُلُق من الأخلاق الكريمة بالبيان والترغيب؛ عسى الله أن يرزقنا والمسلمين حسن الخلق.

    فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق

    مكارم الأخلاق (2)
    توقير كبار السن
    (موعظة الأسبوع)


    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة: "توقير كبار السن": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *مِنْ *إِجْلَالِ *اللَّهِ *إِكْرَامَ *ذِي *الشَّيْبَةِ *الْمُسْلِمِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - المقصود بكبار السن: هم مَن صاروا في مرحلة الكبر، وهي مرحلة يظهر على الإنسان فيها الضعف العام، بحيث تظهر بعض التغيرات على جسم الإنسان في حالة تقدمه في السن؛ مثل: تجعد الجلد وجفافه، وثقل السمع، وضعف البصر والشم والحواس بشكل عام، وبطء الحركة، وتغير لون الشعر، وضعف العظام، وضعف الذاكرة والنسيان، وصعوبة الحركة والمعاناة، والحاجة إلى مقويات حسية وطبية كالاستناد على العصي، والأجهزة التعويضية أحيانًا، وهذه التغيرات تقتضي رعاية خاصة لهم، من كل من حولهم ومن يتعاملون معهم.

    (1) فضل كبار السن:

    - كبار السن الصالحين لهم مكانة خاصة في الإسلام، بما قدموا من طاعة الله سنوات مديدة، فلا يزدادون في أعمارهم إلا كان خيرًا لهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (*خِيَارُكُمْ *أَطْوَلُكُمْ *أَعْمَارًا *إِذَا *سَدَّدُوا) (رواه أبو يعلى، وقال الألباني: حسن لغيره). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خِيَارُكُمْ *أَطْوَلُكُمْ *أَعْمَارًا، *وَأَحْسَنُكُمْ *أَعْمَالًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ؛ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ *الْمُؤْمِنَ *عُمُرُهُ *إِلَّا *خَيْرًا) (رواه مسلم).

    - كبار السن سبب للخير والرزق والبركة في المجتمع: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: (الْبَرَكَةُ *مَعَ *أَكَابِرِكُمْ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ *تُنْصَرُونَ *وَتُرْزَقُونَ *إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري).

    (2) واجبنا نحو كبير السن:

    1- توقيره وإكرامه وإحسان معاملته:

    - أن يكون له مكانة في النفوس، ومنزلة في القلوب، ببذل كل ما فيه إجلال واحترام، وإكبار له: كحسن الخطاب، وطيب الكلام، وتقبيل يده ورأسه، والتودد إليه؛ وعدم محاسبته على كل صغيرة وكبيرة، أو تعمد إحراجه أمام الآخرين، فإن إكرام الكبير وإحسان معاملته هو في الأصل إجلال لله -عز وجل-؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *مِنْ *إِجْلَالِ *اللَّهِ *إِكْرَامَ *ذِي *الشَّيْبَةِ *الْمُسْلِمِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وفي رواية عن ابن عمر موقوفًا: "إن مِن أعظم إجلال الله -عز وجل-: إكرامَ الإمام المقسط، وذي الشيبة في الإسلام".

    2- التواضع له:

    - أن نبدأه بكل عمل وخير، دون انتظار فعله منه، ولو بلغت مكانة الأصغر ما بلغت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة يوم الفتح وجلس في المسجد والناس حوله، ذهب أبو بكر -رضي الله عنه- وجاء بأبيه عثمان -ويكنى بأبي قحافة- يقوده وقد كف بصره، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: (هَلَّا *تَرَكْتَ *الشَّيْخَ *فِي *بَيْتِهِ *حَتَّى *أَكُونَ *أَنَا *آتِيهِ فِيهِ؟)، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِي إِلَيْهِ قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) فَأَسْلَمَ (رواه أحمد، وحسنه الألباني). وهنَّأ النبي أبا بكر بإسلامه فقال أبو بكر: والذي بعثك بالحق، لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه. (رواه البزار مسنده وابن عساكر في تاريخ دمشق، والطبراني في الكبير، وابن أبي الدنيا في منازل الأشراف).

    3- إحسان خطابه:

    - أن نناديه بألطف خطاب، وأجمل كلام، وألين بيان، نراعي فيه احترامه وتوقيره، وقدره ومكانته، بأن نخاطبه بـ"العم"، و"الحاج"، و"الوالد"، وغيرها من الخطابات التي تدل على قدره ومنزلته في المجتمع بكبر سنه؛ فعن أنس -رضي الله عنه-: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (*يَا *خَالُ، *قُلْ: *لَا *إِلَهَ *إِلَّا *اللهُ)، فَقَالَ: أَوَخَالٌ أَنَا أَوْ عَمٌّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا، بَلْ خَالٌ) فَقَالَ لَهُ: (قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، قَالَ: هُوَ خَيْرٌ لِي؟ قَالَ: (نَعَمْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)(1).

    4- تقديمه في الكلام والمكان ونحوه:

    - أن نقدمه في الكلام والمكان في المجالس، ونقدمه في الطعام والشراب والدخول والخروج: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: جاء شيخ يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ *مِنَّا *مَنْ *لمْ *يُجِلَّ *كَبِيرَنَا *وَيَرْحَمْ *صَغِيرَنَا *وَيَعْرِفْ *لِعَالِمِنَا *حَقَّهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، وعن ابن عمرَ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَرَانِي فِي الْمَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الْأَصْغَرَ مِنْهُمَا *فَقِيلَ *لِي: *كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الْأَكْبَرِ) (رواه مسلم).

    5- الدعاء له:

    - ندعو له في حضوره وغيبته بطول العمر، والازدياد في طاعة الله، والتوفيق بالسداد والصلاح، والحِفظ من كل مكروه، والتمتع بالصحة والعافية، وبحُسن الخاتمة، ونحوه: قال -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24).

    (3) التحذير من الإساءة إلى كبار السن:

    - ولكن من المؤسف والمحزن والمؤلم، أن تجد الأمر من بعض الناس الذين يتعاملون معهم على عكس ذلك، فلا يكون منهم إلى كبار السن إلا الإساءة وسوء الأدب، والتي تتمثل في صور لا نستطيع أن نحصيها(2)، وهذه الصور لا تصدر إلا من جاهل قاسى القلب، لا يعرف حقهم، ويجهل أو يتجاهل أمر الله ورسوله تجاههم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ *مِنَّا *مَنْ *لمْ *يُجِلَّ *كَبِيرَنَا *وَيَرْحَمْ *صَغِيرَنَا *وَيَعْرِفْ *لِعَالِمِنَا *حَقَّهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

    - الإساءة إلى الكبير دَيْن لا بد أن يرد، وإثم يحاسب عليه يوم المرد: قال -تعالى-: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) (الروم: 10). وروي: "مَن أهان ذا شيبة لم يمُتْ حتى يبعث الله عليه مَن يهين شيبه إذا شاب".

    خاتمة:

    - إلى كبارنا وآبائنا: يا كبار السن.. أبشروا وأملوا الجزاء الأوفر عند الله ببركة أعماركم في طاعة ربكم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَيْسَ *أَحَدٌ *أَفْضَلَ *عِنْدَ *اللهِ *مِنْ *مُؤْمِنٍ *يُعَمَّرُ *فِي *الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال: (خَيْرُ *النَّاسِ *مَنْ *طالَ *عُمُرُهُ *وحَسُنَ *عَمَلُهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    - يا كبير السن أبشر.. ويا عجوز الإسلام أبشري، فليس في الجنة ضعف ولا شيخوخة: مرّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: بعجوز فقالت: يا رسول الله، ادعوا الله أن يدخلني الجنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أمَّ فلانٍ إِنَّ الجنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ)، فبكت، فقال: (إنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ فتدخلُها شابَّةً بكرًا)، وتلا قول الله -تعالى-: (*إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنّ َ *إِنْشَاءً . فَجَعَلْنَاهُنّ َ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا) (الواقعة: 35-37).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

    (1) من صور الإساءة في هذا: بعض المسئولين أو الموظفين، ينادي أو يخاطب الكبير المسن باسمه.

    (2) أولًا: الجانب المجتمعي:

    - وجود كبار السن في طوابير الانتظار بكل ألوانها (المصالح الحكومية - أماكن الخدمات اليومية - سوء معاملة بعض الموظفين لهم في المصالح وأماكن الخدمات -...).

    - تجاهلهم في وسائل المواصلات وأماكن الانتظار؛ كالعيادات، والمستشفيات.

    - مشاهد قلة المروءة في الطرق العامة تجاههم (تعسر مروره للطريق - ظهور علامات الإعياء على بعضهم والناس يمرون من حولهم دون أدنى مبالاة - تعطل سيارة المسن مع محاولاته ومعانته وعدم المبالاة من المارة).

    ثانيًا: الجانب الأسري:

    - تسفيه آرائهم بين أفراد الأسرة.


    - السماح بتطاول الأطفال عليهم.

    - السخرية منهم، وتصويرهم بأنهم لا يشغلهم إلا الأمور التافهة (فيديو على النت في حصر انشغالهم بإطفاء الأنوار، وإغلاق الحنفيات..)، وغيرها بما لا يحصى! والتي تدل على جهل عظيم بدين الله، الذي عظَّم من قدر الكبير.




  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (3)
    الغَيْرَة على الحريم
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - الغيرة على الحريم خلق كريم، يتصف به الكرام، وهو شعور غريزي يجعله الله في نفوس الصالحين، وبه لا يحبون أن ينظر الرجال إلى حريمهم أو يخالطونهن: "خطب علي بن أبي طالب في الناس يومًا -وقد بلغه إكثار النساء من الخروج إلى الأسواق- فقال: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون اليها". وفي رواية: "إنه لا خير فيمن لا يغار" (المسند). قال النحاس رحمه الله: "الغيرة هي أن يحمي الرجل زوجته وغيرها من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهن، أو يراهن غير محرم" (نقلًا عن عودة الحجاب).

    - حاجتنا إلى شيوع خلق الغيرة على الحريم في هذا الزمان الذي ضعفت أو ماتت فيه الغيرة في قلوب كثير من الرجال: (صور من ذلك: الرضا بخروج النساء متبرجات متعطرات إلى الشوارع والطرقات - الرضا بدخول العمال والصناع والأقارب على النساء في غياب المحارم - الرضا بسفر النساء في الرحلات والاقامة بدون محرم - الرضا بمشاهدة المسلسلات والأفلام الهادمة لكل فضيلة - الرضا بالاختلاط في الزيارات والحفلات والنوادي - الرضا برقص النساء أمام الرجال في الأفراح - الرضا بتعري النساء على شواطئ البحور - الرضا بالمهاتفات التليفونية بين النساء وغير المحارم -...) .

    فضل الغيرة على الحريم:

    - الغيرة على الحريم من صفات المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *اللهَ *يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ) (متفق عليه).

    - الغيرة على الحريم دليل على علو الايمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ *غَيْرَةِ *سَعْدٍ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).

    - الدفاع عن الحريم والعرض جهاد يبذل من أجله الدم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ *دُونَ *أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).

    - بل الغيرة على الحريم شعور غريزي عند أكثر الحيوان: عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم" (رواه البخاري).

    - الذي لا يغار على حريمه ديوث في الدنيا، متوعد بالعقاب في الآخرة: قال العلماء: "الديوث الذي لا غيرة له على أهل بيته" (النهاية في غريب الحديث نقلًا عن عودة الحجاب). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*ثَلَاثَةٌ *لَا *يَدْخُلُونَ *الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ بوَالِدَيْهِ، *وَالدَّيُّوثُ، وَرَجِلَةُ النِّسَاءِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

    نماذج من غيرة الصالحين:

    - غيرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*رَأَيْتُنِي *دَخَلْتُ *الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاء ِ، امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ)، فَقَالَ عُمَرُ: بِأُمِّي وَأَبِي يَا رَسُولَ اللهِ، أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟! (متفق عليه).

    - غيرة الزبير -رضي الله عنه-: ذكر أبو عمر في التمهيد: "أن عمر -رضي الله عنه- لما خطب عاتكة بنت زيد، شرطت عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مرت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: إن لله، فسد الناس، فلم تخرج بعد" (أُسْد الغابة نقلًا عن عودة الحجاب)(1).

    - غيرة رجل صالح -رحمه الله-: قال ابن كثير في حوادث سنة 286هـ: "من عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة، ان امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به. فقال القاضي: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم انها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه؛ فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة". وزاد الحافظ السمعاني في الانساب: "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يكتب هذا في مكارم الأخلاق" (انتهى من البداية والنهاية).

    الغيرة صنعت أحداثاً:

    - الغَيْرَة على الحريم كانت سببًا في تحريك الجيوش، وبذل النفوس؛ حيث كانت سببًا في غزوة بني قينقاع: ذكر ابن هشام في السيرة: "كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت المرأة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع" (السيرة النبوية لابن هشام).

    - الغَيْرَة على الحريم كانت سببًا في فتح عمورية (أعز بلاد الروم): وقعت هذه المعركة بين المسلمين بقيادة المعتصم الخليفة العباسي وبين الروم، وذلك بعد أن استنجدت امرأة بالمعتصم فصرخت: "وامعتصماه"، فسمع المعتصم بالخبر وجهز جيشًا وفتح عمورية، وقيل له: إن امرأة هاشمية من الأسرى صرخت عندما أسرها الروم (وامعتصماه)، فأجابها من موضعه عندما بلغه ذلك (لبيكِ.. لبيكِ)، ونهض من ساعته وأمر بالنفير لحرب الروم، وجهز جيشًا لم يجهزه خليفة قبله، ووجَّه فرقة من هذا الجيش يقودها ثلاثة من أشجع قواده إلى (زِبَطْرة) لإعانة أهلها فوجدوا ملك الروم قد غادرها بجيوشه، فاستقروا بها قليلًا، وأرسلوا إلى الأطراف يطمئنون أهلها أن جيوش الإسلام قد وصلت إلى بلادهم، وأن الروم قد خرجوا منها، فعاد الناس إلى قراهم واستقروا بها، سأل المعتصم القادة: أي بلاد الروم أحصن وأمنع؟ فقيل له عمورية، لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية، ففتحها. (انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبري).

    - حاكم مصر الفاطمي -الشيعي- يستنجد بوالي الشام -السني- "نور الدين زنكي" بإرسال بعض خصلات من شعور نسائه، وكتب فيها: "استنقذ نسائي من أيدي الفرنج" فقام بنصرته رغم مخالفته له، وكان ذلك سببًا في عودة مصر الى المنهج السني بعد ذلك" (البداية والنهاية).

    خاتمة: أولياء النساء.. أنتم مسئولون:

    - أنتم مسئولون في الدنيا عن حفظهن بتعاليم الإسلام: (الحجاب - منع الاختلاط المحرم - إقامة تعاليم الإسلام عمومًا): قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:59). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*كُلُّكُمْ *رَاعٍ، *وَكُلُّكُمْ *مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهُ *سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفَظَ *أَمْ *ضَيَّعَ؟!) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

    - وأنتم مسئولون في الآخرة عن حفظهن وأنفسكم من العذاب: وقال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).

    فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ

    (1) ومما يذكر حول غيرة الزبير -رضي الله عنه- حديث أسماء -رضي الله عنها- في حملها النوى على رأسها ولقائها بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: "تزوجني الزبيرُ ومالَه في الأرضِ من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيٍء، غيرَ فرسِه. قالت: فكنتُ أعلفُ فرسَه، وأكفيهِ مؤنتَه، وأسُوسُه، وأدقُّ النوى لناضحِه، وأعلفُه، وأستقي الماءَ، وأخرزُ غربَه، وأعجنُ. ولم أكن أُحسنُ أخبزُ. وكان يخبزُ لي جاراتٌ من الأنصارِ. وكن نسوةَ صدقٍ. قالت: وكنتُ أنقلُ النوى، من أرضِ الزبيرِ التي أقطعَه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: على رأسي، وهي على ثلثيْ فرسخٍ. قالت: فجئتُ يومًا والنوى على رأسي. فلقيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ومعَهُ نفرٌ من أصحابِه. فدعاني ثم قال: (إِخْ! إِخْ)، ليحملني خلفَه. قالت: فاستحييتُ وعرفتُ غيرَتَكَ. فقال: واللهِ! لحمْلُكِ النوى على رأسِكِ أشدُّ من ركوبِكِ معَه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكرٍ، بعد ذلك، بخادمٍ، فكفَتْني سياسةَ الفرسِ. فكأنما أعتقتْني" (رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم).





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (4)
    العفة
    (موعظة الأسبوع)








    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة "العفة": "وهي الكف عن المحارم والأطماع الدَّنية" (لسان العرب).

    العفة على ذلك نوعان:

    الأول: التعفف عما في أيدي الناس (عدم سؤال الناس - عدم التشوف أو التطلع إلى ما عند الناس - عدم أخذ أموال الناس بالباطل: كالرشوة، والغش، ونحوه).

    الثاني: التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها (اجتناب الزنا - اجتناب النظر إلى المحرمات - اجتناب سماع المحرمات - اجتناب أماكن المحرمات). وسيأتي التفصيل حول النوعين.

    مكانة العفة في الإسلام:

    أولًا: التعفف عما في أيدي الناس:

    - رغب الإسلام في العفة والتعفف عما في أيدي الناس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ *يُحِبُّكَ *النَّاسُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*واعْلَمْ *أنَّ *شَرَفَ *المُؤمِنِ *قِيامُهُ *باللَّيْلِ *وعِزُّهُ *اسْتَغناؤهُ *عنِ *النَّاسِ) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وحسنه الألباني).

    - بل رغَّب الإسلام في العفة والتعفف عما في أيدي الناس وعدم سؤالهم، ولو مع شدة الحاجة، وأثنى على من اتصف بذلك: قال الله -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) (البقرة: 273).

    - وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن التعفف عما في أيدي الناس، عاقبته الغن والستر من الغنى الحميد -سبحانه-: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (*مَا *يَكُونُ *عِنْدِي *مِنْ *خَيْرٍ *فَلَنْ *أَدَّخِرَهُ *عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه).

    نماذج في التعفف عما في أيدي الناس:

    1- عفة صاحب جرة الذهب: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ، وَمَا فِيهَا، قَالَ: فَتَحَاكَمَا إلى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (متفق عليه).

    2- عفة حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: قال -رضي الله عنه-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، *إِنَّ *هَذَا *الْمَالَ *خَضِرَةٌ *حُلْوَةٌ، *فَمَنْ *أَخَذَهُ *بِسَخَاوَةِ *نَفْسٍ *بُورِكَ *لَهُ *فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى). قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- يَدْعُو حَكِيمًا إلى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. (متفق عليه).

    ثانيًا: التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها:

    - أوجب الإسلام التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها، ودعا إلى ذلك بالوسائل الكثيرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*سَبْعَةٌ *يُظِلُّهُمُ *اللهُ *فِي *ظِلِّهِ *يَوْمَ *لَا *ظِلَّ *إِلَّا *ظِلُّهُ... )، وفيه: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ) (متفق عليه).

    قال -صلى الله عليه وسلم-: (*يَا *مَعْشَرَ *الشَّبَابِ، *مَنِ *اسْتَطَاعَ *مِنْكُمُ *الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَلْيَسْتَعْفِف ِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور: 33). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*ثَلَاثَةٌ *حَقٌّ *عَلَى *اللَّهِ *عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    - وشرع الإسلام أحكامًا كثيرة لسدِّ باب الفتنة واجتناب الوقوع في الفاحشة، هي من باب الوقاية خير من العلاج: (فرض الحجاب - الأمر بغض البصر - تحريم الخلوة - تحريم الاختلاط - تحريم الدخول على النساء في غيبة الأزواج - تحريم سفر المرأة بغير محرم - تحريم تطيُب المرأة بين الأجانب): قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*أَيُّمَا *امْرَأَةٍ *اسْتَعْطَرَتْ *فَمَرَّتْ *عَلَى *قَوْمٍ *لِيَجِدُوا *مِنْ *رِيحِهَا، *فَهِيَ *زَانِيَةٌ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ *ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها، وخَيْرُ صُفُوفِ النِّساءِ آخِرُها، وشَرُّها أوَّلُها) (رواه مسلم).

    نماذج في التعفف عن فعل الفواحش ودواعيها:

    1- عفة نبي الله يوسف -عليه السلام-: قال الله -تعالى-: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 22).

    2- عفة صاحب الغار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إلى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ -تعالى- بِهَا؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ.... وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ...) (متفق عليه واللفظ لمسلم).

    أمور تعين على العفة:

    1- مراقبة الله في السر والعلن: قال الله -تعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19).


    2- التربية على تعاليم الإسلام من الصغر: وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في يد الحسن تمرة من الصدقة، فقال: (كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا *لَا *نَأْكُلُ *الصَّدَقَةَ؟!) (متفق عليه).

    3- البعد عن مواطن ودواعي الفاحشة: (وسائل الإعلام والاتصالات المفسدة - أماكن الفتن والعري والتهتك - كل ما يؤدي إلى الفاحشة - ...).

    4- الالتزام بأحكام الإسلام وآدابه: (الحجاب - الاستئذان - غض البصر - عدم الاختلاط المحرم - سائر الآداب المتقدمة - إلخ).

    5- الدعاء: كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*اللَّهُمَّ *إِنِّي *أَسْأَلُكَ *الْهُدَى *وَالتُّقَى، *وَالْعَفَافَ *وَالْغِنَى) (رواه مسلم).

    فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق

    مكارم الأخلاق (5)
    التراحم
    (موعظة الأسبوع)






    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:


    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة "التراحم": قال النبي- -صلى الله عليه وسلم- -: (*الرَّاحِمُونَ *يَرْحَمُهُمُ *الرَّحْمَنُ، *ارْحَمُوا *مَنْ *فِي *الأَرْضِ *يَرْحَمْكُمْ *مَنْ *فِي *السَّمَاءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - المقصود بالتراحم: إشاعة الرحمة بين الناس في جميع مجالات التعامل. وتراحم النَّاسُ: تعاطفوا، وتعاملوا برقَّة وعَطْف ولين.

    - حاجتنا إلى التراحم في هذا الزمان الذي شاعت فيه القسوة والغلظة والعنف، وصارت أخبار القسوة والعنف تطالعنا في كل لحظة تقريبًا، بل نجد من الأفلام والإنتاج الإعلامي ما يصور العنف والقسوة على أنه بطولة، حتى صار كثير من الشباب يقلدون هؤلاء، ظنًّا أن ذلك من مظاهر الرجولة.

    (1) مكانة التراحم في الإسلام:

    - ورد ذكر الرحمة ومشتقاتها في القرآن الكريم في نحو (268) موضعًا، وهذا يدل على أهميتها وعناية الإسلام بها كخلق من الأخلاق التي يدعو لها ويحث عليها.

    - التراحم هو أعظم صفات مجتمع المسلمين: قال -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

    - التراحم من أعظم صفات نبي العالمين -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) (رواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيحٍ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ) (رواه البخاري)، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة لجميع الناس، فمَن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق" (تفسير القرطبي).

    - التراحم من أعظم صفات المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلُ الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).

    - التراحم علامة على لين القلوب: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: تقبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (*أَوَأَمْلِكُ *لَكَ *أَنْ *نَزَعَ *اللهُ *مِنْ *قَلْبِكَ *الرَّحْمَةَ) (متفق عليه).

    (2) أثر التراحم في الدنيا والآخرة:

    - التراحم من أسباب المحبة والاجتماع بين أفراد المجتمع: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلُ الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه).

    - التراحم من أسباب نيل رحمة الرحيم -سبحانه-: قال النبي- -صلى الله عليه وسلم- -: (*الرَّاحِمُونَ *يَرْحَمُهُمُ *الرَّحْمَنُ، *ارْحَمُوا *مَنْ *فِي *الأَرْضِ *يَرْحَمْكُمْ *مَنْ *فِي *السَّمَاءِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال: (*إِنَّمَا *يَرْحَمُ *اللهُ *مِنْ *عِبَادِهِ *الرُّحَمَاءَ) (رواه البخاري).

    - التراحم من أسباب مغفرة الذنوب والكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنا رَجُلٌ يَمْشِي، فاشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَنَزَلَ بئْرًا، فَشَرِبَ مِنْها، ثُمَّ خَرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟ قالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ) (رواه البخاري). وفى الرواية الأخرى: (غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بكَلْبٍ علَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فأوْثَقَتْهُ بخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ له مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بذلكَ) (متفق عليه). (أهمية الإشارة لطريقة الرجل في جلب الماء، وكذلك المرأة، التي يستنكف كثير مِن الناس من فعلها مع بني جنسهم).

    (3) نماذج من التراحم:

    - رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمساكين والفقراء: عن جرير بن عبد الله قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1)، وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (الحشر:18)، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ. (رواه مسلم).

    - رحمة الفاروق عمر -رضي الله عنه- براهب نصراني: (مرَّ عمر -رضي الله عنه- براهب، فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلمَّا رآه عمر بكى، فقيل له: إنَّه نصراني، فقال عمر: قد علمت، ولكني رحمته، وذكرت قول الله -عزَّ وجلَّ-: (هل أتاك حديث الغاشية . وجوه يومئذ خاشعة . عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ . تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) (الغاشية: 1-4)، فرحمتُ نصبَه واجتهاده، وهو في النَّار) (رواه عبد الرزاق).

    - رحمة السلف -رحمهم الله- بالحيوان: كتب عمر بن عبد العزيز إلى حيَّان -عامله- بمصر: "إنَّه بلغني أنَّ بمصر إبلًا نقالات، يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفنَّ أنَّه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل"، وكتب إلى صاحب السكك: "أن لا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل من هذه الرستنية، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة" (رواه الإمام مالك). وعن معاوية بن قرة قال: "كان لأبي الدرداء جمل يقال له: دمون، فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون! لا تخاصمني غدًا عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق".

    (4) التحذير من القسوة والغلظة:

    - صور من القسوة والغلظة: (عدم الاكتراث بما يصيب الآخرين من أذى ومصائب - جمود العين عن البكاء - عدم الاتعاظ بالموت والضحك عند القبور أو الكلام في أمور الدنيا عند الدفن - عدم التأثر بالقرآن أو سيرة النبي وربما يتأثرون بالأفلام والأغاني - صور مباشرة العنف التي لا تحصى - مشاجرات، تعذيب الناس - ...).

    - القسوة والغلظة من أسباب نفرة الناس عن صاحبها: قال -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).

    - القسوة والغلظة عقوبة على الغفلة وترك أوامر الله: قال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: 13).

    - القسوة والغلظة من أسباب العذاب والإبعاد عن رحمة الله -سبحانه-: قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الزمر:22)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَا يَرحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ) (متفق عليه). وقال: (لَا *تُنْزَعُ *الرَّحْمَةُ *إِلَّا *مِنْ *شَقِيٍّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) (متفق عليه).

    (5) أمور تعين على زيادة الرحمة في القلوب:

    1- طلب العلم الشرعي؛ لأنه يزيد الخشية، والرحمة من ثمرات الخشية: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: 28).

    2- اجتناب مواطن القسوة والغفلة والعنف (أماكن - أشخاص - وظيفة): قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) (الكهف: 28). وقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *الْقَسْوَةَ *وَغِلَظَ *الْقُلُوبِ *فِي *الْفَدَّادِينَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ: رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) (متفق عليه). قال الخطابي: "إنَّما ذمهم لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمر دينهم، وذلك يفضي إلى قسوة القلب" . الفدادون: أصحاب الإبل في البوادي.


    3- حضور مجالس الذكر، وارتياد المساجد: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُون َهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).

    4- اغتنام مواسم وأوقات زيادة الرحمة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

    5- الدعاء وسؤال الله خلق الرحمة: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)، (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10).

    فاللهم هب لنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا مِن أمرنا رشدًا.



  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (6)
    الاحتساب
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة "الاحتساب": قال -تعالى- عن قيل أهل الاحتساب: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (الإنسان: 9-10).

    - المقصود بالاحتساب: هو احتساب الأجر وثواب الأعمال الصالحة، وما يصيبه في الدنيا من البلايا، عند الله يوم الحساب، ومنه قول النبي اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *صَامَ *رَمَضَانَ *إِيمَانًا *وَاحْتِسَابًا، *غُفِرَ *لَهُ *مَا *تَقَدَّمَ *مِنْ *ذَنْبِهِ *وَمَا *تَأَخَّرَ) (متفق عليه)، وقوله في العزاء لأهل الميت: (*فَلْتَصْبِرْ *وَلْتَحْتَسِبْ) (متفق عليه)(1).

    - صور بسيطة من الاحتساب: (من يرفع الأذى عن الطريق احتسابًا، لا نظافة فحسب - من يسعى في قضاء حاجة مسلم احتسابًا، لا مجرد شهامة أو رياء - من يحضر جنازة احتسابًا، لا عرفًا أو مجاملة - من يمشى المسافات البعيدة غير الواجبة عليه لحضور خطبة جيدة أو درس علم - من يدعو الى الله ويصبر على مشاق الطريق لا يريد أجرًا دنيويًّا ولا علوًّا في الأرض - من يمشى من بيته إلى المسجد المسافة البعيدة مع مرضه ومشقة ذلك عليه احتسابًا - خدمة الزوجة لزوجها احتسابا لا عادة - قصة تاجر الحبوب الذى كان ينهى عماله عن جمع الحبوب الملقاة على الأرض أثناء تنزيلها إلى المخازن لتأكلها الطير ثوابًا من الله). وما أحسن كلمة "ثواب" التي يجيب بها بعض الناس عندما يسأل عن سبب فعله للخير.

    - حاجتنا إلى خلق الاحتساب في زمان قلَّ فيه المحتسبون، وكثر فيه العاملون الطالبون لأجور الدنيا.

    (1) شواهد الاحتساب في الكتاب والسنة:

    - بيَّن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الاحتساب هو الفيصل في قبول الأعمال عند الله -تعالى-: فعن أَبِي قَتَادَةَ: أن رَجُلا َقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ) (رواه مسلم).

    - وبيَّن الحق -تبارك وتعالى- أن الاحتساب هو الفارق العظيم بين الأعمال المشتركة: قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:104).

    - وبين -عز وجل- أن الأعمال الصالحة ليست وحدها تكتب، بل آثارها كذلك إذا احتسبها أصحابها: قال -تعالى-: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) (يس:12). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كانت منازل الأنصار بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، فقالوا: نثبت مكاننا، فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (*يَا *بَنِي *سَلِمَةَ، *أَلَا *تَحْتَسِبُونَ *آثَارَكُمْ) (رواه البخاري).

    - الصالحون لا يكتفون بالآثار للعبادات، بل يحتسبون العادات طاعات بالاحتساب: قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "أما أنا فأنامُ وأقومُ، فأحتَسِبُ نوْمتي كما أحتَسِبُ قوْمتي" (رواه البخاري). وقال سفيان بن زبيد: "يسرني أن يكون لي في كل شيء نيَّة حتى في الأكل والنوم". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّكَ *لَنْ *تُنْفِقَ *نَفَقَةً *تَبْتَغِي *بِهَا *وَجْهَ *اللهِ *إِلَّا *أُجِرْتَ *عَلَيْهَا، *حَتَّى *مَا *تَجْعَلُ *فِي *فِي *امْرَأَتِكَ) (متفق عليه).

    - وفي الجملة: فالمؤمن الناصح من يحتسب حياته كلها لله (المال - المنصب - المعاملات - الولد - الزواج - العمل - الحب والبغض - ...): (?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).

    (2) نماذج من المحتسبين:

    - المسلم الذي زار أخاه في الله، مع تكبد نفقات السفر ونحوه، لا يريد من ذلك مصلحة دنيوية، ولكن احتسابًا للأجر من الله: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي -صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له علَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ -عزَّ وجلَّ-، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ) (رواه مسلم).

    - المهاجرون والأنصار.. سيرتهم وحياتهم كانت احتسابًا لله: قال -تعالى- فيهم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:7-9).

    صور من احتسابهم:

    - مصعب بن عمير يترك الجاه والثراء والأهل احتسابًا لما عند الله: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثُمَّ لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتّى لقد رأيت جلده يسقط كما يسقط جلد الحية". وقال عنه البراء بن عازب: "أول المهاجرين مصعب بن عمير".

    وقال خبَّاب بن الأرت: "هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم: مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر، ووقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند مصعب بن عمير وقال: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ثم ألقى نظرة على بردته التي كفن بها وقال: لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. ثم أنت شعث الرأس في بردة" (سيرة ابن هشام).

    - عبد الله المزني -ذو البجادين- يترك الأهل والمال احتسابًا لما عند الله: كان ينازع إلى الإسلام، فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما كان قريبًا منه، شق بجاده باثنين، فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: ذو البجادين لذلك. وقال ابن هشام بسنده في السيرة عن وفاته: "إن عبد الله بن مسعود كان يحدث، قال: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: اللهم إني أمسيت راضيا عنه، فارض عنه. قال: وعبد الله بن مسعود يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفرة!".

    خاتمة:

    - الاحتساب سلوى قلوب المؤمنين في هذه الدنيا، فلولا الاحتساب ما صبر المؤمنون على البلاء والآلام في هذه الحياة الدنيا: قال -تعالى- عنهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) (الإنسان: 9-13)، وقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 156، 157).


    فاللهم ارزقنا نعمة الاحتساب في كلِّ أعمالنا.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) احتسابًا: ناويًا العمل لله وانتظارًا لثوابه من الله، ولتحتسب: ناويًا صبرك لله منتظرًا منه الأجر، فالنية هي التي عليها مدار الأعمال، وهي الفاصلة بينها.

    (2) تنبيه: لا يشترط أن يكون العمل الخالي من الاحتساب رياء. (مثاله: أخذ الطبيب الأجرة الدنيوية من المريض الفقير).



  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (7) الاستقامة (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - فمن مكارم الأخلاق المنشودة "الاستقامة": قال -تعالى- عن أهل الاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30).

    - والاستقامة واجبة على كل مسلم إلى آخر لحظات عمره(1): قال -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:112). وعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه-، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ) (رواه مسلم).

    المقصود بالاستقامة:

    - لقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك ببيان ومثال توضيحي: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خطَّ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- خطًّا بيدِه ثم قال: (هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا)، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ) (رواه أحمد بسند صحيح).

    - لذا تنوعت أقوال السلف في وصف الاستقامة من خلال فهمهم لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب". وقال ابن رجب -رحمه الله-: "والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهي الدين القيم من غير تعريج عنه يمنةً ولا يسرةً، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك" (جامع العلوم والحكم).

    نماذج من الاستقامة:

    - عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على الاستقامة حتى الأنفاس الأخيرة: روى البخاري عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ -رضي الله عنه- جَعَلَ يَأْلَمُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ صَحَبَتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّه ُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ. قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ -تعالى- مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلاَعَ الأَرْضِ ذَهَبًا لاَفْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ -عز وجل- قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ!".

    وفي روايةٍ أخرى: "قَالَ عمر لابن عباس: أَتَشْهَدُ لِي يَا عَبْدَ اللهِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَلْصِقْ خَدِّي بِالْأَرْضِ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ. فَوَضَعْتُهُ مِنْ فَخِذِي عَلَى سَاقِي. فَقَالَ: أَلْصِقْ خَدِّي بِالْأَرْضِ. فَتَرَكَ لِحْيَتَهُ وَخَدَّهُ حَتَّى وَقَعَ بِالْأَرْضِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ وَوَيْلَ أُمِّكَ يَا عُمَرُ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللهُ لَكَ. ثُمَّ قُبِضَ رَحِمَهُ اللهُ".

    - أحمد بن حنبل على الاستقامة ولو تحت سياط التعذيب: ذكر أصحاب التاريخ والسير في محنة خلق القرآن: "أن الخليفة المعتصم أمر بحبس الإمام أحمد في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه، وفي السجن أجريت له عديد من المناظرات مع أئمة المعتزلة في محاولة لإثنائه عن رأيه، لكنهم فشلوا في ذلك، ثم أجريت معه مناظرة علنية في شهر رمضان وبحضور الخليفة المعتصم وكبار رجال الدولة الذين حاولوا استمالته عن رأيه، لكنهم فشلوا في ذلك، مما دفع بأحد مناظريه وهو المعتزلي المبتدع -أحمد بن داؤد- لأن يفتي المعتصم بأن ابن حنبل ضال وكافر ومبتدع ويجب قتله، وبعد استمرار المناظرة لثلاثة أيام متوالية والفشل المتوالي بإقناع الإمام أحمد بالعدول عن رأيه، أحضرت السياط وشد الإمام على العقابين -وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد-، وجلد الإمام أحمد جلدًا شديدًا وعُذِّب وأهين، وهو ثابت على رأيه لا يغيره قيد أنملة، وقام إليه الخليفة المعتصم طالبًا منه تغيير رأيه ويقول له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق، وأغمى على الإمام من شدة التعذيب والضرب بالسياط، حتى أطلق المعتصم سراحه خوفًا من موته تحت التعذيب، وخرج الإمام لبيته لتلقى العلاج، ومات الخليفة المعتصم وولى مكانه "الواثق"، وكان من أشد الناس في القول بخلق القرآن، لدرجة أنه أمر بالتفريق بين الرجل الذي لا يقول بخلق القرآن وبين زوجته، وأرسل الواثق لابن حنبل يأمره بالخروج من بغداد، وقال: "لا يجتمعن إليك أحد ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها"، فأختبأ ابن حنبل في بيت أحد تلاميذه، ثم انتقل لمكان آخر وظل هكذا عدة أشهر لا يخرج لصلاة في المسجد ولا يلقى دروسه حتى مات الخليفة الواثق عام (231هـ)، وجاء بعده الخليفة "المتوكل" الذي أبطل الله به هذه المحنة، ورفع الاختبار فيها، كل ذلك والإمام أحمد ثابت مستقيم لا يحيد عن الجادة والمنهج الصحيح".

    - مؤذن معاصر على الاستقامة حتى الأنفاس الأخيرة برغم العجز عن التأذين: قال الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في مقاله "تباريح" بالمجلة العربية: "وكان خال أبي وابن عم جدي عمر بن محمد العقيل -رحمه الله- مؤذنًا بمسجدنا خمسة وثلاثين عامًا، أدركتُ منها ربع قرن، لم يتخلف عن فرضٍ واحد لحَرٍّ أو قر، ومات في الرياض وعمره تسعون عامًا، وكان مُقْعدًا، فلما حضرته الوفاة بعد صحوة الموت وجده ابنه محمد واقفًا بعد أن كان مقعدًا يصدح بجمل الأذان: الله أكبر، الله أكبر" ثم مات!" (نقلًا عن سكب العبرات، د. سيد عفاني).

    - ولذلك كانت الاستقامة أعظم ما يرزق العبد في هذه الحياة الدنيا: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "أعظم الكرامة لُزوم الاستقامة" .

    من ثمرات الاستقامة:

    لقد جعل الله -عز وجل- لمن آمنوا بدينه حقًّا، واستقاموا عليه صدقًا فضائل عظيمة ومنازل رفيعة، جاء ذكر بعضها في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30)، وذلك عند خروج الإنسان من الدنيا مقبلًا على الآخرة.

    1- تتنزل عليهم الملائكة بالبشرى من عند الله -سبحانه- بالسرور والحبور في المواطن العصيبة: قال وكيع: "البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث" (فتح القدير للشوكاني).

    2- الطمأنينة والسكينة (أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا): قال العلماء: "لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال"، وقال عطاء: "لا تخافوا ردَّ ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم".

    3- البشرى بالجنة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزمر:74).

    4- الولاية في الدارين (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ): قال الشوكاني -رحمه الله-: "أي: نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة. وقيل: إن هذا من قول الملائكة. قال مجاهد: إذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة" (تفسير فتح القدير).

    5- مغفرة الذنوب قبل القدوم (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت: 32): قال ابن كثير -رحمه الله- في التفسير: "(مِنْ غَفُورٍ) لذنوبكم، (رَحِيمٍ) بكم، حيث غفر وستر ورحم ولطف" .

    عوامل تحصيل الاستقامة:

    1- فعل الواجبات ومجاهدة النفس عليها، مع الاستزادة والإكثار من النوافل: ففي الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ *أَحَبَّ *إِلَيَّ *مِمَّا *افْتَرَضْتُ *عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري).

    2- الإخلاص في العلم والعمل: قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (الروم:30).

    3- الدعاء بالاستقامة والثبات عليها: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربَّه الثبات على الدين"، وقد أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة وفيها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: 6، 7).

    4- الإكثار من قراءة القرآن وتدبره، ومحاولة حفظه؛ فقد جعله الله -تعالى- سبيلًا لمن أراد الاستقامة: قال -تعالى-: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير: 28)، وقال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء:9).

    5- الصحبة الصالحة؛ لأن الميل لأهل المعاصي يضعف الاستقامة(2): قال -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود:112، 113).

    - الاشتغال بالعلم الشرعي والدعوة إلى الله، فذلك حصن حصين: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28)، وقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) (فصلت:33).

    فاللهم ارزقنا الاستقامة على دينك حتى الموت، واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ

    (1) إن بعض الناس يستقيم فترات ويعوج فترات أخرى، وبعضهم يستقيم في أول التدين والالتزام، ثم يعوج في أواخر التزامه، كمن قال الله فيهم: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).


    (2) تأمل كيف أن الله -تعالى- بعد أن أمر بالاستقامة حذَّر من الركون إلى أهل المعاصي؛ لأن هذا يؤثر على الاستقامة.




  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (8)
    التودد
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها:

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    من مكارم الأخلاق المنشودة "التودد":

    عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا. وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) (رواه مسلم).

    المقصود بالتودد:

    التَّودُّد لغةً: من الوُدِّ، والوُدُّ مصدر الموَدَّة. والوُدُّ هو الحُبُّ ويكون في جميع مداخل الخير، والتواد التحاب.

    واصطلاحًا: قال ابن حجر -رحمه الله-: "هو تقرُّب شخصٍ من آخر بما يحب"، وقال ابن أبي جمرة: "التَّوَادُد هو التَّواصل الجالب" (فتح الباري).

    حاجتنا إلى التودد في زمان كثرت فيه الخلافات والخصومات والاعتداد بالنفس:

    قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم).

    أنواع التودد:

    التودد نوعان:

    تودد محمود: وهو ما كان ناشئًا من محبة معتدلة لأهل الخير والصلاح(1).

    قال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71).

    تودد مذموم: وهو التودد إلى الكفار والظالمين وفسقة الناس.

    قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة: 22).

    التودد منه فطري وكسبي:

    الفطري: من الناس من عنده ذلك طبيعة وفطرة ووراثة أحيانًا.

    الكسبي: يكون بالتعلم والتدرب.

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الطبراني وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني).

    من صور التودد:

    التزاور:

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّي نَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِ ينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِ ينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِ ينَ فِيَّ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).

    التهادي:

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد ومالك، وصححه الألباني).

    الإعانة والمعاونة:

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).

    التبسط والانبساط عند اللقاء:

    عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    التواصل بالوسائل العصرية الحديثة: مثل الهاتف، الإنترنت بفروعه، البرقيات والبوستات (أحبك في الله - بارك الله لك في أهلك ومالك - ...).

    شواهد التودد في القرآن والسنة:

    التودد بين الزوجين:

    قال الله -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).

    المرأة الودود الولود:

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

    محبة الصالحين:

    قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم:96).

    تحمل الأذى:

    عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم).

    ومن كلام السلف في التودد:

    قال عمر -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ يُصفّينَ لك وُدَّ أخيك: أن تُسَلِّمَ عليه إذا لقيته أولًا، وتوسِّعَ له في المجلس، وتدعوه بأحبِّ أسمائه إليه".

    وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "التَّقدير نصف الكسب، والتَّودُّد نصف العقل" (إحياء علوم الدين).

    النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة في التودد:

    تودُّد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وهو صاحب المقام العالي: عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: "ما حَجَبَني النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّمَ في وجهي" (متفق عليه). "وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمرُّ بالصِّبيان فيُسلِّم عليهم" (متفق عليه).

    وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ، وَشَمِمْتُ الْعِطْرَ كُلَّهُ، فَلَمْ أَشُمَّ نَكْهَةً أَطْيَبَ مِنْ نَكْهَتِهِ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَامَ مَعَهُ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ يَدَهُ، نَاوَلَهَا إِيَّاهُ، فَلَمْ يَنْزِعْ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ عَنْهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ *فَتَنَاوَلَ *أُذُنَهُ، نَاوَلَهَا إِيَّاهُ، فَلَمْ يَنْزِعْهَا عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُهَا مِنْهُ" (أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، وحسنه الألباني).

    وعن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- *يَأتِي *ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، *وَيَزُورُهُمْ، وَيَعُودُ مَرْضَاهُمْ، وَيَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ" (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

    عوامل اكتساب خلق التوادد في عناوين:

    1- التواضع: (المتكبِّر لا يتودَّد، وله تأويلات كثيرة: يقلل من شخصيَّتي ومكانتي - أنا أعلى منه قدرًا - ...).

    2- لين القول وحسنه: (فالغلظة والفظاظة حاجز في طريق التودد).

    3- إغلاق باب الجدال والمراء: (فالخلاف الكثير يغير القلوب ويفسد الوُد).

    4- السخاء والجود والإيثار: (فالبخيل والشحيح يحسب كل شيء بالمقابل المادي).

    5- بسط الوجه، وبذل العون عند المعاملة: (فهي مفاتيح للقلوب لتأليفها).

    نسأل الله الغفور الودود، أن يمنَّ علينا بودِّه، وأن يجعل بيننا وإخواننا الود.

    والحمد لله رب العالمين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ

    (1) والذين نتودد إليهم أنواع، وحكم التودد إليهم أنواع؛ فمنهم: الآباء والأمهات، ومنهم الأبناء والقرابات والأرحام، ومنهم الأزواج والأصهار، ومنهم الأصحاب والمشايخ والعلماء، ومنهم الجيران والزملاء.


    فمنهم مَن يكون التودد إليه واجبًا، ومنهم من يكون مستحبًا.

    وبالجملة: يتفاوت الحكم بين الواجب والمستحب في حق مَن يشرع لنا التودد إليهم.




  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (9)
    الحياء
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من الأخلاقيات الكريمة المنشودة: "خلق الحياء": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإسلام الْحَيَاءُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

    - تعريف الحَيَاء: "الحَياء خُلُقٌ يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ" (قاله الحافظ في الفتح). وقيل هو: "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه" (التبيان في تفسير غريب القرآن).

    ويدل عليه قول أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ" (متفق عليه).

    - ما أحوجنا إلى نشر خلق الحياء في زمان قَلَّ فيه الحياء، وربما انعدم عند بعض الناس: (مظاهر قلة الحياء في الأقوال والأفعال والسلوك، تنتشر وتسري كالنار في الهشيم)(1).

    مكانة الحياء في الدين:

    - عرفت العرب في جاهليَّتها هذا الخلق، فكانوا ذوي مُروءة واستحياء: (أبو سفيان قبْل إسلامه يسأله هرقل ملك الروم عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأجابه بما علم من حال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقال: "فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ *أَنْ *يَأْثِرُوا *عَلَيَّ *كَذِبًا *لَكَذَبْتُ عَنْهُ" متفق عليه).

    - ثمَّ جاء الإسلام، فأمر بالحياء وحثَّ عليه، وحضَّ الناس على لزومه والتخلُّق به: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإسلام الْحَيَاءُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ) (متفق عليه). وقال: (الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم). وقال: (*وَمَا *كَانَ *الحَيَاءُ *فِي *شَيْءٍ *إِلَّا *زَانَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    - بل شرع الإسلام أحكامًا خاصة للمرأة اعتبارًا للحياء: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) (متفق عليه).

    - لذا كان نبي الإسلام هو أعظم الناس حياء: قال أبوسعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ" (متفق عليه). وقال -تعالى-: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (الأحزاب: 53)، قال الشوكاني -رحمه الله-: "أي: يسْتَحْيِي أن يقول لكم: قوموا، أو اخرجوا" (فتح القدير).

    - فالحياء خلق وسمت الصالحين والصالحات: قال -تعالى- في قصة نبي الله موسى -عليه السلام-: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص: 25)، قال مجاهد: "يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها، ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ" (تفسير مجاهد).

    أنواع الحياء:

    - ينقسم الحياء باعتبار مجالاته إلى ثلاثة أنواع:

    1- الحياء من الله:

    عَنْ سَعِيدِ بنِ يَزِيدَ الأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: (أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِييَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، كَمَا تَسْتَحِيي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ). قَالوا: إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال -تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) (النساء:108)، وفي الحديث: (فَاللَّهُ *أَحَقُّ *أَنْ *يُسْتَحْيَا *مِنْهُ مِنَ النَّاسِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    2- الحياء من الناس:

    عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: "لا خير فيمن لا يستحيي من الناس"، وقالت العرب في تمدحها بالحياء: "من كساه الحياء ثوبه لم يَرَ الناس عيبه"، وفي حديث أبي سفيان -رضي الله عنه-: "فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ" (متفق عليه).

    3- الحياء من النفس:

    - وهذا أكمل أنواع الحياء؛ لأن مَن استحى مِن نفسه كان استحياؤه من غيره أجدر، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيا مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر" (مدارج السالكين).

    نمَاذِجُ مُشرِقَةٌ مِنَ الحَيَاءِ:

    1- أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا-: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: (يُرْخِينَ شِبْرًا) فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ! قَالَ: (فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(2).

    2- المَرْأَةُ السَّودَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا: عَنْ عَطَاءَ بنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا-: أَلَا أُرِيْكَ امرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّودَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي؛ قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ) فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. (متفق عليه)(3).

    3- حياء أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: قالت: "كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي، وَأَقُولُ: إِنَّمَا *هُوَ *زَوْجِي *وَأَبِي، *فَلَمَّا *دُفِنَ *عُمَرُ مَعَهُمْ، فَوَاللهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي، حَيَاءً مِنْ عُمَرَ" (رواه أحمد، وصححه الألباني)(4).

    4- حياء عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: قالت عائشة -رضي الله عنها-: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ، *ثُمَّ *اسْتَأْذَنَ *عُمَرُ *فَأَذِنَ *لَهُ *وَهُوَ *كَذَلِكَ *فَتَحَدَّثَ، *ثُمَّ *اسْتَأْذَنَ *عُثْمَانُ *فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ! فَقَالَ: (أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) (رواه مسلم)، وفي رواية لمسلم: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لاَ يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ).

    خاتمة:

    - الحياء خُلق من أسمى الصِّفات الإنسانيَّة وألطفِها، وأنْبلِ الأخلاق الإسلاميَّة وأشرفِها، حسبُك إن كنتَ ذامًّا أحدًا، أن تَسْلُب منه هذا الخلق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ؛ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).

    وقال ابن القيم -رحمه الله-: "خُلقُ الحياءِ من أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمِها قدرًا، وأكثرِها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية، فمَنْ لا حياءَ فيه ليس معه من الإنسانية إلاَّ اللحم والدم وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء" (مدارج السالكين).

    وقال الشاعر:

    فَـلا وَاللَّهِ مَا فِي العَـيْشِ خَـيـْرٌ وَلا الـدُّنـْيـَا إِذَا ذَهَـبَ الحـَـيَاءُ

    يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَـيْرٍ وَيَـبْـقَى العُودُ مَا بَقِيَ الـلِّحَاءُ

    فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

    (1) إنَّ الحديث عن خلُق الحياء ليتأكَّد في هذا العصْر؛ الَّذي تحارَب فيه الأمَّة في أخلاقها حربًا لا هوادةَ فيها، قنوات تصبِّح النَّاس وتمسيهم ببرامج ومشاهدَ تدمِّر الأخلاق، وتمزِّق الحياء، وتطبِّع الرَّذيلة، وتغرِّب المجتمع في سلوكه وأخلاقيَّاته، وطبعه وعاداته، ثمَّ لا تسَلْ بعد ذلك عن هُموم شبابِنا واهتِماماتهم، وثقافة أبنائِنا وسطحيَّة أفكارهم.

    (2) لَمْ تَرْضَ -رضي الله عنها- أَنْ يُرْخَى الثَّوْبُ شِبْرًا يُجَرْجِرُ فِي الأَرْضِ؛ خوفًا أن تنكشف الأقدام! وَلَكِنَّ نساء هَذَا الزَّمَانِ رَضِيْنَ منهن مَن رضيت بِهَذَا الشِّبْرِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ شِبْرًا يُجَرْجِرُ فِيْ الأَرْضِ، لَكِنَّهُ شِبْرٌ فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ ! فإنا لله وإنا إليه راجعون.


    (3) فأين نسوة هذا الزمان من هذه المرأة؟ أين نسوة هذا الزمان اللاتي يكشفن عوراتهن باختيارهن للناس أجمعين؟!

    (4) فأين نسوة هذا الزمان من ذلك؟ أين نسوة هذا الزمان اللاتي يكشفن عوراتهن، ويلبسن الضيق من الثياب أمام الأولاد البالغين، وغيرهم؟




  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (10)
    الشجاعة
    (موعظة الأسبوع)










    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة: "الشجاعة"؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْمُؤْمِنُ *الْقَوِيُّ *خَيْرٌ *وَأَحَبُّ إلى *اللهِ *مِنَ *الْمُؤْمِنِ *الضَّعِيفِ، *وَفِي *كُلٍّ *خَيْرٌ) (رواه مسلم).

    - تعريف الشجاعة: قال ابن القيم -رحمه الله-: "هي: ثبات القلب عند النوازل، واستقراره عند المخاوف".

    - ما أحوجنا إلى التذكير بفضل الشجاعة في زمان غابت فيه الشجاعة عند كثير من الناس(1)، وكثر فيه النفاق والجبن، والمداهنة، والتملق بالباطل تحت مسميات زائفة: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا *نَخَافُ *فِي *اللهِ *لَوْمَةَ *لَائِمٍ" (متفق عليه).

    (1) شواهد الحث على الشجاعة في القرآن والسنة:

    - أمر الله -سبحانه وتعالى- المسلمين بالشجاعة عند القتال في سبيله، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة: قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ) (البقرة: 190)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45)، وقال: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 16).

    - وقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمَّته على الشجاعة، وجعَلها مَجلبة لحب الله ورضاه، وسببًا في تحصيل الدرجات العالية: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *قُتِلَ *دُونَ *مَالِهِ *فَهُوَ *شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: («*أَلَا *لَا *يَمْنَعَنَّ *رَجُلًا *هَيْبَةُ *النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ولما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (*كَلِمَةُ *حَقٍّ *عِنْدَ *سُلْطَانٍ *جَائِرٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

    - وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن المؤمن الشجاع أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، من غيره من المؤمنين؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: -: (*الْمُؤْمِنُ *الْقَوِيُّ *خَيْرٌ *وَأَحَبُّ إلى *اللهِ *مِنَ *الْمُؤْمِنِ *الضَّعِيفِ، *وَفِي *كُلٍّ *خَيْرٌ) (رواه مسلم).

    وكان -صلى الله عليه وسلم- ينفِّرهم من الجبن؛ فالشجاع مُحبَّب إلى جميع الناس حتَّى إلى أعدائه، والجبان مُبغض حتى إلى أوليائه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شَرُّ *مَا *فِي *الرَّجُلِ *شُحٌّ *هَالِعٌ، *وَجُبْنٌ خَالِعٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الشجاع يقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفر عن عروسه!" (نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري). والعرب تقول: "إن الشجاعة وقاية، والجُبن مَقتلةٌ" .

    وقال شاعرهم:

    وإنَّا لَتَسْتَحْلِي المَنَايا نُفُوسُنا وَنَتْرُكُ أُخْرَى مُرَّةً لا نَذُوقُهَا

    قلتُ: "والجبناء يقولون: عش جبان تمت مستورًا!".

    - وكان -صلى الله عليه وسلم-: يعلم المسلمين أن يتعوذوا من الجبن؛ لما له من الأثر السيئ في الدنيا والآخرة: فعن سعد -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يتعوذ دبر الصلاة: (*اللَّهُمَّ *إِنِّي *أَعُوذُ *بِكَ *مِنَ *الْجُبْن وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَاب الْقَبْر) (رواه البخاري).

    (2) ضوابط حول أنواع الشجاعة ومجالاتها:

    1- الشجاعة مصدرها قوة القلب، وليس قوة البدن: قال ابن القيم -رحمه الله-: "كثير من النَّاس تشتبه عَلَيْهِ الشجَاعَة بِالْقُوَّةِ، وهما متغايران، فَإِن الشجَاعَة هِيَ ثبات الْقلب عِنْد النَّوَازِل وَإِن كَانَ ضَعِيف الْبَطْش" (الفروسية المحمدية لابن القيم).

    وقال الشاعر:

    تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فَتَزْدَرِيْهِ وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ مَزِيرُ

    وَيُعجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ

    2- الشجاعة فطرية وكسبية:

    - فالفطرية: يولد بها الإنسان، أو يرثها من أهله وعشيرته، ومثالها: شجاعة الغلام الذي قال لعمر: "ليس الطريق ضيقًا فأوسعه لك، ولم أقترف ذنبًا فأخاف منك" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

    - والكسبية: يكتسبها الإنسان بالتعلم والتجارب والمخالطة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا *الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني). (أمثلة: الجندي الجديد - الخطيب الجديد -...).

    3- الشجاعة طبيعية وأخلاقية:

    - فالطبيعية: تكون تجاه الألم الطبيعي والمشقة، أو التهديد والتخويف بالموت. (مثاله: الثبات عند ملاقاة عدو).

    - والأخلاقية (الأدبية): هي القدرة على التصرف بشكل صحيح تجاه المخالف. (مثاله: توجيه النصيحة للمخطئ - أو إنكار المنكر على صاحبه وعدم الاستحياء من ذلك).

    4- الشجاعة منها محمود ومذموم:

    - فالمحمود منها: ما كان في نصرة الحق ورد الباطل.

    - والمذموم منها: ما كان من أجل حظ النفس والأمور الدنيئة.(الحمية للقبيلة والعائلة في الباطل - الرياء ليسمع الناس - في الفجور والاجتراء على المحرمات - ...)(2).

    4- الشجاعة ليست قاصرة على القتال، بل لها ميادين كثيرة: (الدعوة والتعليم - الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - سياسة الناس،).

    5- الشجاعة ليست في الإقدام فحسب؛ بل الشجاعة هي الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، والثبات في مواضع الثبات، والزوال في موضع الزوال. وضدُّ ذلك مُخل بالشجاعة، وهو إما جُبن، وإما تهور، وإما خفة وطيش: (شجاعة خالد بن الوليد، وقرار الانسحاب يوم مؤتة).

    (3) نماذج في الشجاعة:

    1- شجاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ" (متفق عليه)، وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، *وَكَانَ *مِنْ *أَشَدِّ *النَّاسِ *يَوْمَئِذٍ *بَأْسًا" (أخرجه أحمد بسند صحيح).

    2- شجاعة أبي بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما تولى الخلافة: (يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - إنفاذ جيش أسامة - حروب الردة ومانعي الزكاة - وغيرها).

    3- شجاعة مؤمن آل فرعون -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وموقفه الشجاع في الاجتماع الظالم للفراعنة، لما دبروا لقتل موسى -عليه السلام-: قال الله -تعالى- عنه: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: 28).

    4- شجاعة داعي القرية الظالمة: قال -تعالى-: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُ مْ وَلَيَمَسَّنَّك ُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ . وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس: 13-27)، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبه من دُبُره" (تفسير الطبري).

    5- شجاعة شباب الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: قال الذَّهبي -رحمه الله- في السِّير: "وبلغنا أنَّ البراء يوم حرب مسيلمة الكذَّاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترسٍ، على أسنة رماحهم، ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم وشدَّ عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة"، يعني: للمسلمين ليدخلوا "فجُرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحًا، ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه، وقد اشتهر أن البراء قَتَل في حروبه مائةَ نفسٍ من الشُّجعان مبارزة" (سير أعلام النبلاء).

    6- شجاعة نساء الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُن-: (أسماء بنت أبي بكر): قالت لابنها -عبد الله بن الزبير- حين قال: "إني أخاف أن يمثَّل بي الحجاج، قالت: يا بني ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها"؛ عندئذٍ خرج فقاتل قتالًا باسلًا حتى استُشهد، وأقبل عليه الحجاج فحز رأسه، ثم بعث بها إلى عبد الملك بن مروان، وصلبه منكسًا. فقالت: "ما يمنعني من الصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل"، وحين طرح الحجاج جسد ولدها في مقابر اليهود، ثم أرسل إليها أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأرسل إليها: لتأتين أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأرسلت إليه: "وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ *مَنْ *يَسْحَبُنِي *بِقُرُونِي! قَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ! فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ! بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ! قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا" (رواه مسلم). والمبير هو: المسرف في إهلاك الناس وقتلهم.

    7- شجاعة صبيان الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: معاذ بن عمرو بن الجموح وصاحبه، قالا لعبد الرحمن بن عوف وهو واقفٌ بينهما يوم بدر حيث غمزه أحدهما فقال: "يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ *سَوَادِي *سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا ، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ" (متفق عليه). (الصبي الذي ثبت ولم يفر عند رؤية عمر -رضي الله عنه-).

    8- شجاعة عُميان المسلمين (عبد الله بن أم مكتوم): ومع أنَّ الله أنزل عذره، فكان يغزو بعد ذلك، ويقول: "ادفعوا إليَّ اللواء فإنِّي أعمى لا أستطيع أنَّ أفرَّ وأقيموني بين الصَّفين!" (سير أعلام النبلاء).

    خاتمة:

    - على الأمة أن تسعى بكل الوسائل الممكنة لبثِّ هذا الخلق العظيم في أبنائها؛ لأنه من أسباب عودة عزها وصلاحها: قال ابن تيميَّة -رحمه الله-: "لَمَّا كان صلاح بني آدم لا يَتمُّ في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم؛ بيَّن الله -سبحانه- أنّه من تَولَّى عنه بترْكِ الجهاد بنفْسِه، أَبدَلَ الله من يَقوم بذلك: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) (الاستقامة).

    نسأل الله أن يجعلنا من الشُّجعان في الحقِّ والعمل به.


    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ

    (1) من المؤسف أننا صرنا نرى الشجاعة في أصحاب الباطل، يدافعون عن قضياهم بكل قوة، وفي المقابل: لا نرى في أكثر أصحاب الحق ذلك. وصدق عمر -رضي الله عنه-: "عجبت لجلد الفاجر، وعجز الثقة!".


    (2) ومن أقبح أمثلة الشجاعة في الباطل: شجاعة ابن أخطب اليهودي يوم عرض على القتل يوم بني قريظة، فجعل يبدي جَلَدًا وشدة عداوة للمسلمين.




  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: مكارم الأخلاق



    مكارم الأخلاق (11)
    الوفاء
    (موعظة الأسبوع)









    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    مقدمة:

    - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

    - من مكارم الأخلاق المنشودة "الوفاء"(1): قال تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237). ومدحت العرب الوفي، فقالوا:

    الحر مَن راعى وداد لحظة وانـتـمى لـمـن أفـاده لفـظة

    - حاجتنا إلى نشر خُلُق الوفاء، في زمان قلَّ فيه الأوفياء أو ذهبوا، وكثر فيه اللئام وانتشروا(2)، وصار فيه لسان حال الكرماء ومقالهم:

    أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يَومٍ فلمَّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني

    وَكَم علَّمتُه نظمَ القوافِي فَلمَّا قالَ قافيةً هجاني

    أعلمه الفُتُوَّة كلَّ وَقتٍ فلمَّا طَرَّ شارِبُه جَفاني

    (1) مكانة الوفاء والأوفياء:

    - الإسلام يأمر بالوفاء وحفظ المعروف، ورد الجميل، ومقابلة الإحسان بالإحسان، والمكافأة للمعروف بمثله أو بأحسن منه والدعاء لصاحبه: قال -تعالى-: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

    - الوفاء هو خلق أصحاب النفوس الكريمة السوية، فالأوفياء لا ينسون المعروف والجميل، ولو كان شيئًا يسيرًا: فهذا كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما بُشِّر بتوبة الله -تعالى- عليه انطلق مسرعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرحًا بذلك، فقال عن نفسه: "دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ" (متفق عليه).

    - الأوفياء الكرام يزيدهم الإحسان وفاءً واعترافًا بالجميل، وينتظرون الفرصة لرد الجميل وفاء لصاحبه: روى مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (رواه البخاري). فقد حمى النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن أذى المشركين بعد عودته مِن الطائف. (حكاية في الوفاء: الحاجة الريفية التي كانت تريد أن يكون حجها لزوجها المتوفى)(3).

    - بل لا يردون الإساءة لصاحب المعروف، ولو أساء إليهم (الإنسان الكريم أسير الإحسان): عروة بن مسعود -المتحدث عن المشركين يوم الحديبية- يقول لأبي بكر -وقد سبَّه أبو بكر سبًّا شديدًا-: "أمَا والَّذي نفسي بيدِه لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِك بها لأجَبْتُك" (رواه البخاري وغيره).

    (2) ذم الجحود ونكران الجميل:

    - وأما اللئام: فلا يحفظون معروفًا، ولا يشكرون جميلًا، بل لا يزيدهم الإحسان والمعروف إلا تمردًا!

    قال الشاعر:

    إذا أنتَ أكرمتَ الكريم ملكته وإن أنتَ أكرمت اللئيم تمردا

    وقالوا: "اتق شر اللئيم إذا أحسنت إليه".

    - اللئام يعرفونك ويتملقونك زمان الانتفاع منك، فإذا زال نسوك أو تنكروا لك: قال الله -تعالى- عن صاحب السجن الذي نسى معروف يوسف -عليه السلام- بمجرد خروجه ومسايرة حياة القصور: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف: 42). (حكاية المدير البترولي الذي تنكرت له زوجته وأولاده بعد المعاش وقد جرَّدوه من كل شيء. انظر الهامش: 4).

    - اللئام يهدمون كل جميل، وينكرون كل معروف، إذا أسأت إليهم: قال -تعالى-: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى? إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ . فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى? أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص: 18، 19).

    (3) عاقبة الجحود وعدم الوفاء:

    - مِن عاقبة نكران الجميل (زوال النعم، وحلول النقم، واستحقاق العقاب): ففي حديث الأقرع والأبرص والأعمى أن الملَك قال لمَن أعترف بالجميل: "لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ" (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه).

    (4) أعظم مَن يجب علينا الوفاء لهم:

    - مدخل: أعظم مَن يجب علينا الوفاء لهم وحفظ جميلهم ثلاثة: (النبي -صلى الله عليه وسلم-، والوالدان، والمشايخ والعلماء).

    - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بطاعته واتباع سنته والموت على ذلك): روي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد لطلب سعد بن الربيع، وقال: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: كيف تجدك؟ قال: فأتيته وهو في آخر رمق به سبعون ضربة ما بيْن طعنة برمح وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: إني في الأموات، فأبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وقل: إني أجد ريح الجنة، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله -تعالى- إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مكروه، وفيكم عين تطرف، ثم لم يبرح أن مات" (السيرة النبوية لابن هشام).

    - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل للوالدين (ببرهما وعدم عقوقهما، والدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما): كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يمشي في الصحراء على دابته، فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل، ووقف معه، وقال: ألستَ فلانَ بن فلان؟ قال: بلى، ثم ألبسه عمامة كانت عليه، وقال له: اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر، وقالوا له: إن هذا مِن الأعراب، وهم يرضون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ) (رواه مسلم).

    - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل للمشايخ والعلماء (باحترامهم وتوقيرهم والدعاء لهم، والحذر مِن الإساءة إليهم): قال أبو حنيفة -رحمه الله-: "ما صليتُ منذ مات شيخي حماد إلا استغفرتُ له مع والدي!". وقال أبو يوسف -رحمه الله-: "إني لأدعو لأبي حنيفة قبْل أَبوي!". وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما بتُّ منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له!". وقال الشافعي -رحمه الله-: "الحر مَن راعى وداد لحظة، وانتمى لمَن أفاده لفظة".

    خاتمة: وجوب الوفاء وحفظ الجميل مع كل الناس:

    - بالجملة يجب الوفاء وحفظ الجميل لكل مَن له علينا معروف، والحذر مِن نكران الجميل؛ فإنه خبث في الطبع، وحمق في العقل: قال -تعالى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237). وقال بعض العقلاء: "تعلموا أن تنحتوا المعروف على الصخر، وأن تكتبوا آلامكم على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها!".

    - إن عدم الوفاء ونسيان الفضل دليل على قلة المروءة، ونقص في كمال الرجولة؛ فالسوي لا ينسى المعروف المسدَى إليه؛ لأن مِن صفات الرجولة: الكرم والوفاء، وصون العشرة وحفظها(5).

    إن الوفـاء عـلى الـكـرام فريضة واللـؤم مــقـرون بذي الـنسيـان

    وترى الكريم لمن يعاشر حافظًا وتـرى اللـئـيـم مـضيـع الإخوان

    جعلنا الله وإياكم مِن الأوفياء الشاكرين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ

    (1) نعني بالوفاء هنا: حفظ جميل مَن لهم علينا معروف وإحسان، وعدم نسيان فضلهم، بما يأتي التنبيه عليه.

    (2) يحسن الإشارة إلى بعض صور الجحود وعدم الوفاء: (الوالد الذي عقه أولاده وأهملوه بعد الكبر حتى مات وحده في شقته - الوالدة التي وضعها ولدها بدار المسنين ليتخلص من خدمة زوجته لها - الزوج الذي كافئ زوجته التي عاشت معه على المرة والمرة، بطلاقها والزواج من غيرها بعد ما أغناه الله - الشيخ أو المعلِّم الذي بعد ما ربَّى وعلَّم، ناطحه التلميذ وصار له ندًّا - وغيرها كثير يتكرر في اليوم عشرات أو مئات المرات، مع اختلاف الأشخاص والأماكن).

    (3) ملخص الحكاية: كانت لنا دروس في مسجد الفندق قبل أيام المناسك، وجاءت هذه المرأة تسأل وهي متأثرة جدًّا وتبكي، فقالت: يقولون لي لا يصلح حجك عن زوجك المتوفى! فقلت لها: هذا غير صحيح، طالما حججت عن نفسك ظنًّا مني أنها قد سبق لها الحج. فقالت: لا، أنا ما حججت قبل ذلك. فقلت لها: إذًا كلامهم صحيح، فلا بد أن تحجى أولًا عن نفسك ثم إن شاء الله في العام القادم تحجي عن زوجك المتوفى. فإذا بالمرأة تبكي بشدة وتقول: "دا الراجل عاش طول عمره شقيان، وأنا كنت نفسي هو اللي يحج!".

    (4) ملخص الحكاية: كانت لنا دروس في مخيمات منى أيام المناسك، وكنت أتحدث عن بعض الأعمال الصالحة التي يجب علينا الاهتمام بها بعد العودة، وأشرت الى برِّ الوالدين والحذر من العقوق، وذكرت بعض الحكايات من الواقع في ذلك، فإذا برجل من الحضور يبكي متأثرًا، ثم جاءني بعد الدرس وقال: إن عندي حكاية شخصية مؤثرة، لعلها تنفعك في الدعوة. قال: كنت مديرًا بشركة بترولية، ولى راتب كبير جدًّا، وكانت عندي أملاك كثيرة -شقق وسيارات وفيلات، وغيرها-. فلما قاربت سن المعاش بدأت أحوال زوجتي وأولادي تتغير تدريجيًّا، وبطريقة أو بأخرى جعلوني أكتب أملاكي لهم، ولم يبقَ لي إلا شقة الزوجية.

    ومرت شهور قليلة وخرجتُ على المعاش، وصار دخلي الشهري مبلغ قليل جدًّا بالنسبة لراتبي كالمعتاد، وبدأت الزوجة والأولاد يظهرون النفرة مني ومن كل شيء يتعلق بي، ثم تطورت الأمور إلى التصريح بالرفض التام للبقاء معهم، وأصرت الزوجة على الطلاق، والأولاد يؤيدونها، وتم الطلاق والفراق منهم لي جميعًا، ولم يتركوا لي شيئًا إلا شقة الزوجية، ودارت الأيام وأنا أعيش وحيدًا، فتزوجت امرأة أخرى صالحة رضيتْ بكل ظروفي، وبعدها بشهور قليلة إذ بالشركة البترولية يعينوني مستشارًا براتب كبير والحمد لله رب العالمين، وها أنا أصطحب تلك الزوجة الجديدة معي، فهي في الخيمة المجاورة، ولله الحمد والنعمة.

    (5) حكاية طريفة في الوفاء: كان لرجل شجرة عنب كثيرة الثمر، فكان إذا مرَّ به صديق له اقتطف عنقودًا ودعاه فيأكله وينصرف شاكرًا، فلما كان يوم، قالت امرأته: "ما هذا مِن أدب الضيافة، ولكن أرى إن دعوت أخاك، فأكل، فمددت يدك معه مشاركًا؛ إيناسًا له وتبسطًا، وإكرامًا، فلما كان الغد؛ وانتصف الضيف في أكله؛ مد الرجل يده وتناول حبة، فوجدها حامضة لا تساغ، فتفلها وقطب حاجبيه، وأبدى عجبه مِن صبر ضيفه على أكل أمثالها، فقال الضيف: قد أكلتُ مِن يدك مِن قبْل على مرِّ الأيام حلوًا كثيرًا، ولم أحب أن أريك مِن نفسي كراهة لهذا، تشوب في نفسك عطاءك السالف!".




الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •