ألب أرسلان ومعركة ملاذكرد
شريف عبدالعزيز الزهيري
مقدمة:
هناك خلط كبير عند كثير من المسلمين الذين لم يتعرفوا على تاريخ أمتهم المجيد وذلك للأسف الشديد، فإنهم لا يميزون بين أعداء الإسلام والقوى المعادية التي حاربت الأمة الإسلامية في العصور والمراحل التاريخية، فهم جميعًا في نظر المسلمين "صليبيون" وهذا وإن كان المسمى في حقيقته واحدًا إلا أن التفرقة واجبة للتعرف على فصول الصراع مع كل طرف على حدة وخلفيات وأبعاد وتداعيات هذا الصراع، وهل ما زال قائمًا أم طوته الأيام والليالي..
فلقد خاضت الأمة الإسلامية معارك كثيرة ومهولة مع عدوين، كلاهما يرفع راية الصليب ويحارب باسمها وتحتها:
العدو الأول:
الفرنجة أو نصارى غرب أوروبا الذين شنوا الحملات الصليبية الشهيرة في أواخر القرن الخامس الهجري (489 هجرية) على الشام ومصر بدافع وبتحريض مباشر من كرسي البابوية كبير الكاثوليك، ولقد استمرت هذه الحملات قرابة القرنين من الزمان ومثلت ذروة الصراع بين الإسلام والنصرانية والشرق والغرب في منتصف العصور الوسطى.
أما العدو الثاني:
فهم الروم أو الرومان البيزنطيون أو نصارى شرق أوروبا والبلقان حيث الإمبراطورية البيزنطية القديمة العريقة حامية وراعية المذهب الأرثوذكسي، وكانت هذه الإمبراطورية الرومانية قد بسطت نفوذها على الشام والجزيرة الفراتية والأناضول ومصر وليبيا وتونس قبل ظهور الإسلام، وهذه الإمبراطورية هي أول عدو من خارج الجزيرة العربية يصطدم مع المسلمين، وكان اللقاء مبكرًا جدًا في معركة مؤتة (8 هجرية) وظل الصراع قائمًا بعدها ضد هذه الإمبراطورية، وخاض المسلمون معارك رائعة ضدها وحققوا انتصارات عالمية عليها في مؤتة (8 هجرية) ثم تبوك (9 هجرية) ثم اليرموك (13 هجرية) وحرر المسلمون الشام والجزيرة ومصر وليبيا وتونس من الرومان في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكن ظلت هذه الإمبراطورية قائمة حتى جاء بطلنا الباسل "ألب أرسلان" فنالت على يديه الهزيمة العالمية التي غيرت مجرى التاريخ وأعادت ترتيب القوى العالمية وتحطمت الإمبراطورية البيزنطية وظلت تترنح بعد ضربة بطلنا الهمام "ألب أرسلان" حتى خرجت من الساحة الدولية ولم يعد لها أثر ولا قوة.
القوة الجديدة وسنة الاستبدال:
إن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتخلف بإذن الله، وفقه هذه السنن من الأمور الهامة في حياة المسلمين أفرادًا وأممًا، لأن هذه السنن من أهم دعائم بقاء الأمم واستمرارها وتمكنها وظهورها، وهذه السنن لا تعرف جورًا ولا محاباة، فهي جارية على خلق الله جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، فأيما أمة أو جماعة أو أفراد استوفوا شروطها وعملوا بمقتضياتها جرت عليهم السنن وجودًا وعدمًا، سلبًا وإيجابًا، ومن أعظم هذه السنن سنة الاستبدال التي جعلها الله عز وجل لحفظ دينه ونصرة شريعته.
وعمل هذه السنة يقتضي أنه إذا لم يقم الجيل المسلم القائم بأعباء الدين والواجب المناط به تجاه الدعوة والأمة، فإن الله عز وجل يستبدل هذا الجبل ويأتي بالجيل القادر على حمل مسؤولية الدين والأمة، وهذا ظاهر صراحة في قوله عز وجل: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، وقد عملت هذه السنة في دولة الخلافة العباسية التي بلغت مبلغًا بعيدًا في الضعف والتفكك وتسلط الغير عليها، وقد واجهت التحدي الأكبر لوجودها وشرعيتها عندما ظهرت الدولة الفاطمية الباطنية الشيعية والتي استولت على مصر والشام والحجاز واليمن، وأصبح العالم الإسلامي مهيئًا لظهور القوة الجديدة التي ستعيد لأمة الإسلام قوتها وشبابها، وكانت هذه القوة الجديدة: قوة السلاجقة وهي قبائل تركية ظهرت منذ أوائل القرن الخامس الهجري في سهول التركستان، وظلت في تقدم وتوسع وانتشار خاصة عندما آلت قيادة هذه القبائل للسلطان "طغرلبك" الذي وسع نطاق نفوذ السلاجقة، وأعلن ولاءه الكامل للخليفة العباسي ولأهل السنة عمومًا، واتسعت دولة السلاجقة لتشمل خراسان وإيران وبلاد ما وراء النهر كلها.
كان لظهور هذه القوة الجديدة أثر بعيد على الساحة العالمية خاصة عند القوى المعادية للإسلام وهي ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية الصليبية والدولة الفاطمية الشيعية، فكلاهما لا يرغب في قوة جديدة للمسلمين، وبالفعل وقع الصدام بين السلاجقة والبيزنطيين عدة مرات، ولكن كانت معركة "أرزن" على حدود أرمينية سنة 450 هجرية، وفيها انتصر السلاجقة انتصارًا عظيمًا ثبت وضع ومكانة السلاجقة على الساحة الدولية وخريطة القوى العالمية.
واستمر "طغرلبك" في جهاده ونصرته للخلافة العباسية والمسلمين حتى توفاه الله عز وجل سنة 455 هجرية وتولى السلطنة بعده بطلنا الجسور ألب أرسلان.
الأسد الباسل:
هو السلطان الكبير والملك العادل، عضد الدولة، أبو شجاع ألب أرسلان محمد بن جفري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني، ومعنى ألب أرسلان بالتركية الأسد الباسل، وكان حقًا منذ شبابه وقبل ولايته أسدًا باسلًا شجاعًا، يستعين به عمه "طغرلبك" في المهام الصعبة والجسيمة، وكان في منزلة القائد العام للجيوش السلجوقية، وهو دون الثلاثين من العمر وقد كلفه عمه "طغرلبك" بأهم منصب في الدولة السلجوقية ألا وهو منصب حاكم إقليم خراسان المضطرب، فأبدى كفاءة وحزمًا وعزمًا شديدًا في مواجهة التحديات والصعوبات الكثيرة، خاصة وأن دولة السلاجقة كانت ما زالت بعد في مراحلها الأولى رغم قوتها وشبابها.
الخلافات الطارئة:
لم يكد ألب أرسلان يستلم منصب السلطان حتى دبت خلافات طارئة داخل البيت السلجوقي، حيث ثار عليه بعض أقربائه، منهم أخوه سليمان وعمه "قتلمش" واضطر ألب أرسلان مكرهًا أن يقاتل الخارجين عليه، وقد نصره الله عز وجل على خصومه على الرغم من أن عمه قتلمش قد حاربه بتسعين ألفًا، في حين كان ألب أرسلان في اثني عشر ألفًا فقط، ولما علم ألب أرسلان نبأ مقتل عمه في المعركة بكى بشدة وتأسف على نهايته.
بعد ذلك انشغل ألب أرسلان في القضاء على بعض الثورات الداخلية التي قام بها بعض حكام الأقاليم فلقد ثار حاكم إقليم "كرمان" كما عانى من عصيان العديد من الولاة والأمراء، مثل: أمير خوارزم، وأمير فارس، وأمير جنجية، وغيرهم.
وعانى أيضًا ألب أرسلان من غارات القبائل التركمانية التي لا تنضوي تحت راية أحد وتعيش على السلب والنهب.
استراتيجية القيادة الناجحة:
لقد ورث السلطان ألب أرسلان إمبراطورية عظيمة واسعة الأرجاء تمتد من سهول التركستان إلى ضفاف دجلة، بها الكثير من المدن الكبار والأقاليم الواسعة والشعوب المتباينة، لذلك فلقد كانت مسألة قيادة هذه الإمبراطورية في غاية الصعوبة وتحتاج لاستراتيجية حكيمة وقيادة قديرة، وهذا ما اتبعه الأسد الباسل "ألب أرسلان"، وذلك باتباع الخطوات الآتية:
أولًا: استخدام الرجال الأكفاء:
وكان ذلك حجر الزاوية في نجاح استراتيجية القيادة عند ألب أرسلان، فلقد استخدم ألب أرسلان في منصب الوزارة وهو أهم منصب في الدولة رجلًا قديرًا كان سبب سعادة الدولة السلجوقية وهو الوزير العظيم "نظام الملك" الذي جمع بين العلم والورع والحنكة السياسية والمقدرة القيادية وحب العلماء والصالحين والزهاد، ولقد استمر نظام الملك وزيرًا طوال حكم ألب أرسلان وولده "ملك شاه" من بعده أي استمر من سنة 455 هجرية - 485 هجرية، وهذا يؤكد على مدى أهمية البطانة الصالحة والرجال الأكفاء في المناصب الحساسة، فكم من وزير وقائد أضاع أمته إما بجهالة أو عمالة أو طمع في الدنيا، وكم عانت الأمة الإسلامية من رجال وُسد إليهم الأمر وهم من غير أهله، فضاعوا وأضاعوا وضلوا وأضلوا.
ثانيًا: تأليف الخصوم:
عندما ظهرت القبائل السلجوقية اصطدمت بقوة مع الدولة السبكتكينية التي كانت تسيطر وقتها على خراسان وسهول التركستان والسند، ودارت بين السلاجقة ومحمود بن سبكتكين ثم ولده مسعود معارك كثيرة وطاحنة استمرت قرابة الخمسين سنة في صراع بدا للعيان أنه لن ينتهي أبدًا، حتى جاء الأسد الباسل إلى السلطة وقرر حسم هذا الصراع الطويل ليتفرغ إلى مهمته الأصلية: فتح القسطنطينية وفتح مصر، واستطاع ألب أرسلان أن يتألف خصمه اللدود الدولة السبكتكينية بأيسر السبل بأن صاهر سلطانها على ابنته فزوجها لابنه "إيباز" ثم صاهر سلطان الدولة الخانية (بلاد ما وراء نهر جيحون) على ابنته أيضًا، فزوجها لابنه الآخر "تكش"، وهكذا استطاع ألب أرسلان أن يؤلف خصومه وألد أعدائه وجعلهم أقربائه وأهله، وهذا من قمة الذكاء الاستراتيجي للقائد القدير.
كانت أيضًا القبائل التركمانية من أشد خصوم السلاجقة رغم الاتفاق العرقي بين الطرفين، فالسلاجقة أصلًا من التركمان، ولكن هذه القبائل الموجودة في منطقة الأناضول أو آسيا الصغرى كانت تعيش على السلب والنهب والإغارة على المسلمين والرومان على حد السواء، فقرر ألب أرسلان استغلال هذه الطاقة الهجومية عند هذه القبائل في الإغارة على الدولة البيزنطية وحدها دون المسلمين، وهو ما نجح فيه ألب أرسلان باقتدار، حتى أصبحت هذه القبائل هي أكبر تهديد يواجه الدولة البيزنطية وعنصر قلق دائم لها خاصة في منطقة "أرمينية".
ثالثًا: اتباع أسباب البقاء:
إن للبقاء أسبابًا، وللاستمرار عوامل ومعطيات، من تناولها وعمل بها حاز فضيلة البقاء والصمود حتى حين، وهذا ما أدركه السلطان ألب أرسلان جيدًا، فسار في رعيته سيرة حسنة صالحة ضمنت له رضا الناس عنه، فقد كان ألب أرسلان كريمًا، رحيمًا، شفوقًا على الرعية، رفيقًا على الفقراء بارًا بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم عليه، كثير الصدقات، لم يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، فلا يأخذ من أموال الرعية إلا ما حل للدولة من خراج وزكاة، له سياسة عظيمة مع ولاته وعماله، فلقد كتب إليه بعض الوشاة في وزيره "نظام الملك" فاستدعاه ثم قال له: "خذ إن كان هذا صحيحًا، فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم"، كما كان ألب أرسلان شديد الحرص على حفظ مال الرعية فلقد بلغه يومًا أن أحد مماليكه قد أخذ إزارًا لأحد الناس ظلمًا، فأمر بصلبه حتى يرتدع باقي المماليك عن الظلم، وهكذا نرى هذا القائد الحكيم قد أدرك بفطرته القيادية أسباب البقاء فسار على طريقها واتبعها خير اتباع.
بين المطرقة والسندان:
كما قلنا من قبل كانت الدولة السلجوقية الكبيرة تقع بين عدوين كبيرين، كلاهما يتربص بهذه القوة الجديدة، العدو الأول الإمبراطورية البيزنطية عريقة العداء مع المسلمين، والعدو الثاني الدولة العبيدية الخبيثة في مصر، وكان ألب أرسلان في الحقيقة يريد أن يفتح مصر أولًا وذلك لعدة اعتبارات: منها تخليص العالم الإسلامي من حالة الفوضى القيادية في ظل وجود خلافتين كلاهما يدعي الأحقية والشرعية، ومنها القضاء على منبع تصدير الشرور والضلالات والاغتيالات في الأمة الإسلامية.
ومن أجل التفرغ لفتح مصر والشام كان لا بد على الأسد الباسل ألب أرسلان أن يؤمن حدوده مع الأقاليم الأرمينية والجورجية التابعة للدولة البيزنطية والمتاخمة لبلاده، وكان كما ذكرنا آنفًا قد استعان بقبائل التركمان ووجه طاقاتهم القتالية لصالح المسلمين، فأغاروا على هذه الحدود وقاموا بدورهم في إضعاف القوى الدفاعية للدولة البيزنطية، ولكن هذه الغارات المقطعة لم تصرف همة الأسد ألب أرسلان لأن يسدد ضربة موجعة وقوية للدولة البيزنطية تنشغل بها حينًا من الدهر ريثما يقوم هو بمشروعه الكبير في فتح الشام ومصر وإسقاط الدولة العبيدية الخبيثة.
ضربة الأسد:
هذه الضربة قام بها الأسد الباسل "ألب أرسلان" بعد انتهائه مباشرة من خلافاته الطارئة مع عمه "قتلمش" حيث توغل بجيوشه إلى قلب الأناضول قاصدًا مدينة قيصرية الغنية التي فتحها ألب أرسلان في ربيع الثاني سنة 456 هجرية وغنم منها غنائم عظيمة، ثم توجه بعدها إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية وبلاد الكرج "جورجيا الآن" في جيش ضخم قسمه إلى جزئين، جزء يقوده ولده وولي عهده "ملكشاه" ووزيره الشهير "نظام الملك" واتجه ناحية القواعد الجبلية، والجزء الآخر يقوده ألب أرسلان نفسه وتوجه به إلى مدينة "آنى" عاصمة أرمينية البيزنطية واجتمع مع الجزء الأول من الجيش على حصار المدينة العريقة لعدة شهور حتى فتحها في أواخر سنة 456 هجرية، وبذلك سيطر السلاجقة على أرمينية التي كانت بمثابة الحصن المنيع لبيزنطة من الشرق، وتلقت الدولة البيزنطية ضربة موجهة من الأسد الباسل جعلتها تعيد ترتيب أوراقها وتفكر في تغيير قياداتها وأسلوب معاركها وهذا ما سيظهر أثره في معركة ملازكرد.
العودة إلى الهدف الأول:
بعد نجاح ألب أرسلان في فتح أرمينية البيزنطية والكرج قرر الأسد العودة إلى الهدف الأول وهو فتح الشام ومصر، فتوجه إلى شمال الشام الذي كان به العديد من أمراء المسلمين المالئين للدولة البيزنطية، وأيضًا موالين للدولة الفاطمية، وهاجم ألب أرسلان القلاع البيزنطية في الرها وأنطاكية وقيسارية، وأخضع بني شداد في حران وبني عقيل في الموصل وكان ولاؤهم للفاطميين، ثم عبر نهر الفرات واتجه إلى مدينة حلب وضمها إلى نفوذه كي يحمي ظهره من الخطر الشيعي حيث كان أميرها محمود بن صالح شيعيًا فاطميًا.
الصحوة:
في هذه الفترة الذهبية للدولة الإسلامية والتي كان فيها الأسد الباسل ناشرًا رايات الجهاد على عدة جبهات، كانت الدولة البيزنطية تضطرم بروح انتقامية عارمة وتبحث عن القيادة القادرة على رد عادية السلاجقة والقبائل التركمانية التي أنهكت القوى الدفاعية للإمبراطورية العجوز ولقد وجدت الدولة البيزنطية ضالتها في القائد العسكري الشاب "رومانوس ديوجين" الذين لمع نجمه بعد عدة انتصارات حققها في القتال ضد البوشناق في بلغاريا فانعقدت عليه الآمال وحطت عنده الرحال خاصة بعد ثلاثة انتصارات متتالية على بعض أمراء المسلمين في الفترة ما بين سنة 461 هجرية - 463 هجرية، فتربع إمبراطورًا على بيزنطة وتلقب برومانوس الرابع وأخذ في التحضير لعمل عسكري ضخم ضد المسلمين ينهي بها وجودهم في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة وشمال الشام، وبالفعل بعد عدة شهور من توليه العرش البيزنطي بدأ العمل في سد المنافذ التي استخدمها السلاجقة في التدفق على أراضي الإمبراطورية، كما سعى إلى احتلال بعض المواقع الاستراتيجية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، وشن ثلاث حملات ضد إمارة حلب في الشام ثم الجزيرة فاستولى خلالها على مدينة "منبج" ثم قام في الثالثة بالهجوم على أرمينية الإسلامية، فاستولى على كثير من الحصون وشحنها بالمقاتلين واستعد لمعركة حاسمة لم يكن يدري أنها بالفعل ستكون حاسمة وللأبد ولكن عليه لا له.
معركة ملازكرد:
حشد "رومانوس" كل ما استطاع من القوى اللازمة لتحطيم الأمة الإسلامية، واستعان بالفرق الفرنجية من غرب أوروبا كمرتزقة في جيشه واستعان أيضًا بالقبائل الروسية وكانت حديثة عهد بالنصرانية وانضم إليه كثير من الأرمن والجورجيين وتضخم جيشه حتى وصل لأكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل وفي نيته قلع الأمة الإسلامية من أساسها ومحو الإسلام كدين، والمسلمين كأمة.
وصلت الأنباء للسلطان ألب أرسلان وهو في مدينة "خوي" من أعمال أذربيجان فقرر رغم قلة جيشه الزحف باتجاه الجيش العملاق لوقف تقدمه بأرض الإسلام، في حين واصل رومانوس زحفه حتى وصل إلى مدينة ملازكرد (وتنطق أيضًا منازجرد ومنازكرد) وهي بلدة حصينة تقع على فرع نهر "مرادسو" بقلب الأناضول وهذه المدينة ما زالت موجودة حتى الآن بتركيا.
انطلق الأسد الباسل بمنتهى السرعة مستغلًا خفة حركته لقلة جيشه وذلك لنجدة المدينة المحاصرة، وجاءت أولى بشارات النصر عندما التقت قوات الاستطلاع المسلمة بطلائع الروم وكانوا من القبائل الروسية، فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي "بازيلكوس" في الأسر.
ورغم هذا الانتصار المشجع إلا أن ألب أرسلان الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين الجيشين أرسل إلى رومانوس يطلب الهدنة، ولكن هذا الطلب جعل رومانوس يغتر بكثرته وتفوقه في العدد والعدة ورد على طلب السلطان بالهدنة بأن قال بلا هدنة إلا في الري، والري هي عاصمة الدولة السلجوقية ولم يعلم رومانوس أنه بذلك قد كتب نهايته ونهاية دولته البائسة.
الأسد بطل ملازكرد:
لما وصل هذا الرد المستفز للأسد الباسل "ألب أرسلان" حميت عزيمته واشتعلت الغيرة على الإسلام في قلبه واستوثق الإيمان في نفسه وتأكد من صحة عزم هذا الصليبي على إبادة الأمة الإسلامية، وقرر التصدي له وحده وبمن معه من جنود، على الرغم من التفاوت الشاسع بين الجيشين فالروم البيزنطيون وحلفاؤهم أكثر من ثلاثمائة ألف، والمسلمون في خمس عشر ألفًا فقط لا غير.
كان ألب أرسلان مؤمنًا صادقًا غيورًا يعلم أن الله عز وجل سوف ينصره لأنه على الحق وعدوه على الباطل، وكان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري" الذي قال لألب أرسلان هذه العبارة الرائعة: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر".
وبالفعل استجاب الأسد الباسل لهذه النصيحة الغالية التي تشرح بأوجز العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية، فالمجاهدون يحتاجون تمامًا للدعاء مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح، وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة 463 هجرية – 26 أغسطس 1071 ميلادية - قام ألب أرسلان وصلى بالناس وبكى خشوعًا وتأثرًا ودعا الله عز وجل طويلًا ومرغ وجهه في التراب تذللًا بين يدي الله واستغاث به، ثم لبس كفنه وتحنط وعقد ذنب فرسه بيديه ثم قال للجنود: "من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان ههنا إلا الله"، ثم امتطى صهوة جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة: "إن هزمت فإني لا أرجع أبدًا فإن ساحة الحرب تغدو قبري"، وبهذا المشهد الذي ينفطر له أقسى القلوب وتخشع أمامه أشقى النفوس استطاع "ألب أرسلان" أن يحول 15 ألف جندي إلى 15 ألف أسدٍ كاسرٍ ضارٍ.
وعند الزوال اصطدم الجيشان وألب أرسلان على رأس جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور ودارت معركة طاحنة في منتهى العنف حاول البيزنطيون حسم المعركة مبكرًا مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاب وذلك عند غروب الشمس، فحاول "رومانوس" الانسحاب إلى الخلف قليلًا للراحة ومواصلة القتال في صباح اليوم التالي، وعندها انتهز الأسد الباسل الفرصة وشد بكامل جيشه على الرومان حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة، انثال منها سلاح الفرسان الإسلامي إلى قلب الجيش البيزنطي وأمطروهم بوابل من السهام المميتة فوقعت مقتلة عظيمة وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضًا وفرت الفرق الفرنجية المرتزقة من أرض المعركة ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم الإمبراطور "رومانوس" نفسه.
بين الأسد وفريسته:
في صبح اليوم التالي للمعركة أخذ القيصر الإمبراطور "رومانوس" الأسير، وكان أول قيصر يقع في أسر المسلمين، إلى معسكر ألب أرسلان أو عرين الأسد، ووقفت الفريسة بين يدي الأسد، ومن الطبيعي جدًا بل لا أكون متجاوزًا إذا قلت: إنه يجب على الأسد ألا يترك فريسته تفلت منه دون عقاب ولا بد أن يبطش بها بما يليق بجرم هذه الفريسة التي سول لها شيطانها أن تنتهك حرمة الأسد، ولكن الأسد الذي جمع بين الشجاعة والبسالة والإيمان واليقين أضاف إلى كل هذه الخصال العظيمة فضيلة العفو والصفح عند المقدرة.
فبعد أن أنب ألب أرسلان رومانوس على جرائمه وضربه بيده ثلاث مقارع ووضع قدمه على هامة "رومانوس" تحقيرًا وإذلالًا له وجعله يقبل الأرض باتجاه بغداد حيث الخليفة العباسي لإظهار عز الإسلام وأهله، ثم قام بالعفو عن رومانوس نظير دفع فدية كبيرة وفك أسر كل الأسرى المسلمين في سائر بلاد الروم وإلزامه بالقسم بأغلظ الأيمان على عدم العودة مرة أخرى لقتال المسلمين.
الآثار الخطيرة لملازكرد:
كانت الضربة الموجعة التي وجهها الأسد ألب أرسلان للإمبراطورية البيزنطية من أشد ما نالته هذه الدولة العريقة وكانت نذير السقوط الوشيك، فلقد فقدت الإمبراطورية لقب حامية الصليب وفتحت هذه المعركة الطريق لتدفق المسلمين في منطقة آسيا الصغرى وأقام السلاجقة دولة بالأناضول عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، حيث إن ألب أرسلان بعد المعركة قام بتعيين ابن عمه "سليمان بن قتلمش" حاكمًا على الأراضي المفتوحة بالأناضول - لاحظ أنه قد جعل سليمان بن قتلمش حاكمًا رغم أن أباه قتلمش قد خرج عليه من قبل وقاتله، وذلك لتأليف بني عمومته وربما كنوع من راحة الضمير.
كما كانت هذه المعركة من أهم الأسباب الدافعة لتحريك الحملات الصليبية من غرب أوروبا بعدما ضعفت شرق أوروبا أو الدولة البيزنطية، ووصل الأمر لأن يذهب قيصر القسطنطينية "ميخائيل السابع" والذي توج على العرش بعد وقوع "رومانوس" في الأسر إلى "روما" مستنجدًا ببابا روما كبير الكاثوليك راكعًا على ركبتيه، باكيًا بين يديه، طالبًا منه شن حربًا صليبية من ناحية الغرب على المسلمين.
مصرع الأسد:
إن المرء ليعجب حقًا من خواتيم أبطال الإسلام وعظمائهم الذين خاضوا غمار الكثير من المعارك وطلبوا الموت من كل مظانه وتعرضوا له في جميع مواطنه ووقفوا له في كل سبيل طلبًا للشهادة، ثم يأتيهم حِمام الموت غدرًا بيد عميل أو خائن أو طامع أو حاسد أو مأجور وهذا ما حدث للأسد الباسل وهو في ريعان شبابه "41 سنة" وهو في قمة ظفره وتمكنه وعلو شأنه حتى حاز بحق لقب سلطان العالم وسلطان الدنيا والدين.
وذلك عندما قام أحد الخارجين عليه واسمه "يوسف الخوارزمي" بطعنه بالسكين، والسلطان يعاتبه على جرائم ارتكبها هذا المجرم الخارجي، لتنتهي هكذا في لحظة حياة هذا الأسد بطعنة غادر مجرم، ليهلل لموته كل أعداء الإسلام شرقا ًوغربًا وتلتقط الدولة الفاطمية أنفاسها ويهدأ روعها بعدما أوشكت على السقوط والتهاوي تحت ضربات الأسد، ولقد قتل الأسد ألب أرسلان في 10 ربيع الأول سنة 465هجرية، وبمصرعه ظهرت الأطماع والشرور ورفع أعداء الإسلام رءوسهم، وكما قال الحكيم: "إنما طغت الثعالب عندما غاب الأسد".
المراجع والمصادر:
• الكامل في التاريخ.
• البداية والنهاية.
• المنتظم في التاريخ.
• النجوم الزاهرة.
• تاريخ دولة آل سلجوق.
• العبر في خبر من غبر.
• سير أعلام النبلاء.
• وفيات الأعيان.
• شذرات الذهب.
• أيام الإسلام.
• التاريخ الإسلامي.
• أطلس تاريخ الإسلام.
أبطال سقطوا من الذاكرة، دار الصفوة بالقاهرة، 1427هـ