الخوف والرجاء (1 - 2)
أولًا: الخوف
سيد جويل
تعريف الخوف:
الخوفُ هو: تألُّم القلبِ واحتراقه بسبب توقُّعِ مكروهٍ في المستقبل. وأخوفُ الناس أعرَفُهم بنفسه وبربه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعْرفُكم بالله، وأشدُّكم له خشية)). (البخاري). وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
مَظاهر الخوف:
ويظهر أثرُ الخوف على الجوارح بكفِّها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، تلافيًا لما فرط، واستعدادًا للمستقبل، قال بعضُهم: مَن خاف أدْلَج. وقال آخر: ليس الخائفُ مَن بكى، إنما الخائف مَن تَرَكَ ما يقدر عليه. ومِن ثمرات الخوف أنه يقمع الشهوات، ويكدِّر اللذات فتصير المعاصي المحبوبةُ عنده مكروهةً، كما يصير العسل مكروهًا عند مَن يشتهيه إذا علم أن فيه سُمًّا، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويستوعبه الهم لخوفه فلا يتفرَّغ لغيرِه، ولا يكون له شغلٌ إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والضنَّة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات.
الخوف المحمود، والمذموم:
والخوف سَوْط اللهِ تعالى، يسوق به عبادَه إلى العِلم والعمل لينالوا رُتبة القُرب مِن الله تعالى.
والخوف له إفراط، وله اعتدال، وله قصور. والمحمود مِن ذلك الاعتدالُ، وهو بمنزلة السَّوط للبهيمة؛ فإن الأصلح للبهيمة ألا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة، ولا المتقاصر عن الخوف أيضًا بمحمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية أو سبب هائل فيُورث البكاء، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب إلى الغفلة، وهذا هو الغالب على الناس كلِّهم إلا العارفين والعلماء، أعني العلماء بالله وآياته، وقد عَزَّ وُجودُهم، أمَّا المُتَمَرْسِمُو ن برسْم العِلم فإنهم أبعدُ الناسِ عن الخوف. وأما القسم الأول وهو الخوف المفرط فهو كالذي يقوى ويجاوز حدَّ الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم؛ لأنه يمنع مِن العمل، وكل ما يراد لأمر، فالمحمود منه ما يُفضي إلى المُراد المقصود منه، وفائدةُ الخوفِ الحذرُ والورعُ والتقوى والمُجاهدة والفِكر والذِّكر وسائر الأسباب التي توصل إلى الله.
أقسام الخوف:
مِن الناس مَن يَغلب على قلبِه خوفُ الموتِ قبْل التوبة، ومنهم مَن يغلب عليه خوفُ الاستدراج بالنِّعم، أو خوفُ الميل عن الاستقامة، ومنهم مَن يغلب عليه خوفُ سوءِ الخاتمة.
وأعلى مِن هذا خوف السابقة؛ لأن الخاتمة فرْع السابقة، ومِن الخائفين مَن يخاف سكرات الموت وشدَّته، أو سؤال مُنكر ونَكِير، أو عذاب القبر، ومنهم مَن يخاف الوقوف بين يدي الله تعالى، والخوف مِن المناقشة، والعبور على الصراط، والنار وأهوالها، أو حرمان الجَنَّة، أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى، وأعلاها رتبة خوف العارفين؛ وهو خوف الحجاب عن الله تعالى، وما قبل ذلك خوف العابدين.
فضيلة الخوف والرجاء، وما ينبغي أن يكون الغالب منهما، وكيف يكون التوازن بينهما:
فضيلة كلِّ شيء بقدْر إعانته على طلب السعادة؛ وهي لقاء الله تعالى والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة؛ قال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]. وقال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8].
أمَّا قولُ القائل: أيُّما أفضلُ: الخوف، أو الرجاء؟ فهو كقوله: أيُّما أفضل: الخبز، أم الماء؟ وجوابه أن يقال: الخبز للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، والخوف والرجاء دواءان تداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود؛ فإن كان الغالب على القلب الأمْن مِن مكْر اللهِ فالخوفُ أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية، وإن كان الغالب عليه اليأس والقنوط فالرجاء أفضل، أمَّا المتقي فالأفضل عنده اعتدالُ الخوفِ والرجاءِ، ولذلك قيل: لو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتَدَلا.
فإن قيل: كيف اعتدالُ الخوفِ والرجاءِ في قلب المؤمن وهو على قدَم التقوى؛ فينبغي أن يكون رجاؤه أقوى؟ فالجواب أنَّ المؤمن غيرُ متيقِّن صحَّة عمَلِه، فمثله مثل مَن بذَر بذرًا ولم يُجرِّب جنسَه في أرض غريبة، والبذرُ الإيمانُ، وشروط صحَّته دقيقة، والأرضُ القلبُ، وخفايا خبثه وصفاته مِن النفاق، وخبايا الأخلاق غامضة، والصواعقُ أهوالُ سكراتِ الموتِ، وهناك تضطرب العقائد؛ وكل هذا يُوجب الخوف عليه، وكيف لا يخاف المؤمن، والخوف المحمود يبعث على العمل، ويُزعج القلبَ عن الركون إلى الدنيا.
الرجاء أفضل عند هذا الموضع:
وأمَّا عند نزول الموت فالأصلح للإنسان الرجاء؛ لأن الخوف كالسوط الباعثِ على العمل، وليس ثمَّ عمل، فلا يستفيد الخائف حينئذٍ إلا تقطيع نياط قلبه، والرجاء في هذا الوقت يقوِّي قلبَه، ويحبِّب إليه ربَّه، فلا ينبغي لأحد أن يُفارق الدنيا إلا مُحبًّا لله تعالى، مُحبًّا للقائه، حَسَنَ الظنِّ به.
مكانة الخوف، والدواء الذي يستجلب الخوف مِن الله:
الخوف مِن الله تعالى مقامان:
1 - الخوف مِن عذابه؛ وهو خوفُ عامَّةِ الخَلق، وهو حاصل بالإيمان بالجَنَّة والنار، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان، أو قوةِ الغفلة. وزوال الغفلةِ يحصل بالتذكُّر والتفكُّر في عذاب الآخرة، ويزيد بالنظر إلى الخائفين ومُجالستهم أو سماع أخبارهم.
2 - الخوف مِن الله تعالى؛ وهو خوفُ العُلماء العارفين. ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30].
ومِن أعجَب ما ظاهرُه الرجاءُ، وهو شديدُ التخويفِ ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]. فإنه علَّق المغفرةَ على أربعة أمور يصعُب تصحيحُها.
ومِن المخوِّفات قوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 1 - 2]، ثمَّ ذكَر بعدَها أربعةَ شُروط بها يقع الخلاصُ مِن الخُسران: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
ولِسُوء الخاتمة أسبابٌ تتقدَّم على الموت مثل البدعة، والنفاق، والكبر، ولذلك اشتدَّ خوفُ السلَف مِن النفاق.
وسوء الخاتمة على رُتبتين:
إحداهُما أعظمُ؛ وهو: أن يغلب على القلب - والعياذ بالله - شكٌّ أو جُحود عند سكرات الموت وأهواله، فيقتضي ذلك العذاب الدائم.
والثانية دُونها؛ وهو: أن يسخط الأقدارَ، ويتكلم بالاعتراض، أو يجور في وصيته، أو يموت مُصِرًّا على ذنْب، ومَن اعتقد في الله سبحانه وصفاته اعتقادًا مجملًا على طريقة السلَف مِن غير بحث ولا تنقير، فهو بمعزل عن هذا الخطر إن شاء الله تعالى.
وأما الختم على المعاصي، فسببُه ضعفُ الإيمان في الأصل. وذلك يُورث الانهماك في المعاصي، والمعاصي مطفئة لنور الإيمان، وإذا ضعف الإيمانُ ضعف حُبُّ الله تعالى، فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك ضعفًا، لاستِشعاره فراق الدنيا. فإن السبب الذي يُفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو حُبُّ الدنيا مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حُبِّ الله، فمَن وجد في قلبه حُبَّ الله تعالى أغلب مِن حُبِّ الدنيا فهو أبعَدُ مِن هذا الخطر، وكلُّ مَن مات على محبة الله تعالى قَدِمَ عليه قُدُومَ العبدِ المُشتاق إلى مولاه، فلا يخفى ما يلقاه مِن الفرح والسرور بمجرد القُدُوم على ما يستحقُّه مِن الإكرام. ومَن فارقه الرُّوحُ في حال خطرَ بباله فيها الإنكار على الله سبحانه في فعله أو كان مُصِرًّا على مخالفته، قَدِمَ على الله قُدُومَ مَن قدم به قهرًا، فلا يخفى ما يستحقُّه مِن النكال. فمَن أراد طريقَ السلامة تَزحزَحَ مِن أسباب الهلاك، على أن العِلم بتغليب القلوب، وتغيير الأحوال يُقلقِل قلوبَ الخائفين.
وإذا عرفتَ معنى سوءِ الخاتمة فاحذرْ أسبابَها، وأعِدَّ ما يصلح لها، وإياك والتسويف بالاستعداد؛ فإن العمر قصير، وكل نفَسٍ مِن أنفاسك بمنزلة خاتمتك؛ لأنه يمكن أن تُخطف فيه روحُك، والإنسانُ يموت على ما عاش عليه، ويُحشر على ما مات عليه.
واعلم أنه لا يتيسر لك الاستعدادُ بما يصلح إلا أن تَقْنع بما يُقيمُك، وتَترُك طلَبَ الفضولِ.
خوف الملائكة، وخوف نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 50] ومِن خوفِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قطُّ مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى لَهَوَاتِهِ، إنما كان يبتسَّم، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه، فقلتُ: يا رسول الله: الناسُ إذا رأوا الغيمَ فرحوا رجاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيتَه عُرفتِ الكراهةُ في وجهكَ. فقال: ((يا عائشة، ما يُؤمنُني أن يكون فيه عذاب؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ مُمْطِرُنا))". أخرجاه في الصحيحين.