مفاهيم غائبة عن حياتنا الأسرية(5) التغــــــــــا فــل
الحياة الزوجية يجب أن تنهض على أساس من التفاهم والألفة والمحبة والتكامل وأداء الواجب الإلهي حتى يمكن لها الاستمرار والدوام، وكل ذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية
الأسرة هي المؤسسة الأولى المسؤولة عن إعداد الطفل ليكون عنصراً صالحاً فعّالاً في المجتمع ، ولكن لا تخلو أي أسرة من وجود مشكلات عديدة لسبب أو لآخر وبدرجات متفاوتة , وقد تؤدي هذه المشكلات إلى تفكك الأسرة وانفراط عقدها، ولكن إذا تم تشخيص الداء.. سهل وصف الدواء؛ لذا كان لابد من التعرض لبعض المفاهيم التي غابت عن حياتنا الأسرية التي على أساسها تبنى العلاقات السوية وتستمر، ونتناول ذلك في سلسلة أسبوعية نحاول من خلالها تسليط الضوء باختصار على كل مفهوم لعله يكون طوق نجاة لكثير من الأسر التي غابت عنها هذه المفاهيم، ونتناول اليوم أحد هذه المفاهيم وهو (التغافل).
(التغافل) هو التجاوز عن الأخطاء وليس الإهمال الكامل، وهو فن لا يتقنه إلا من رغب السعادة يقول الإمام: أحمد بن حنبل – رحمه الله-: «تسعة أعشار حسن الخُلق في التغافل»، وكان الحسن البصري يقول: «لا يزال التغافل من أخلاق الكرام»، فهو مريح جدًا للنفس حتى لا نقع ضحية للضيق فهو فن التعامل بقلب كبير فيما بيننا، يقول ابن الجوزي –رحمه الله-: «ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة مع أهله وجيرانه وزملائه كي تحلو مجالسته وتصفو عشرته».
ونشير إلى أعظم ما يمكن أن يذكر من النماذج لخلق التغافل للاقتداء والأسوة هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم من زوجاته عندما تقع إحداهن في خطأ أو تقصير في حقه ، فقد ضرب أروع الأمثلة في الخيرية والرفق والرقة في التوجيه، وكتاب الله يصور هذا التغافل في أروع صوره فيقول عز وجل: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } (التحريم:3).
ليس الغبي بسيّد في قومه
لكن سيّد قومه المتغابي!
الحياة الأسرية ليست بالحياة المتكاملة التي لا تشوبها أي شائبة فلا أحد منا كامل المواصفات لا يخطىء، وليست أيضاً بحلبة صراع بين الزوجين، فهي تتكون من شخصين بمزاجين مختلفين ومن بيئتين متفاوتتين ويحملان في ذاتهما فكرًا وفهمًا يتباين عن الآخر، فمن الطبيعي أن تكون هناك اختلافات وأخطاء لا تقبلها الزوجة من زوجها، وكذلك الرجل، فمن المستحيل على أي زوجين أن يجد كل منهما ما يريده في الطرف الآخر كاملاً، كما أنه لا يكاد يمر أسبوع دون أن يشعر أحدهما بالضيق من تصرف عمله الآخر، وليس من المعقول أن تندلع حرب كلامية كل يوم وكل أسبوع على شيء تافه كملوحة الطعام أو نسيان طلب أو الانشغال عن وعد (غير ضروري) أو زلة لسان ، فهذه حياة جحيم لا تطاق !
ولهذا على كل واحد منهما تقبل الطرف الآخر والتغاضي عما لا يعجبه فيه من صفات، أو طبائع، فبعض الرجال – هداهم الله – يدقق في كل شيء وينقب في كل شيء فيفتح الثلاجة يوميًا ويصرخ لماذا لم ترتبي الخضار أو تضعي الفاكهة هنا أو هناك؟! لماذا الطاولة علاها الغبار؟! كم مرة قلت لك الطعام حار جداً؟! إلخ وينكد عيشها وعيشه!!
وكما قيل: ما استقصى كريم قط .
كما أن بعض النساء كذلك تدقق في أمور زوجها ماذا يقصد بكذا؟ ولماذا لم يشترِ لي هدية بهذه المناسبة؟ ولماذا لم يهاتف والدي ليسأل عن صحته؟ وتجعلها مصيبة المصائب وأعظم الكبائر.. فكأنهم يبحثون عن المشكلات بأنفسهم!!
كما أن بعض الأزواج يكون عنده عادة لا تعجب الطرف الآخر أو خصلة تعود عليها ولا يستطيع تركها – مع أنها لا تؤثر في حياتهم الزوجية بشيء يذكر – إلا أن الطرف الآخر يدع كل صفاته الرائعة ويوجه عدسته على تلك الصفة محاولاً اقتلاعها بالقوة، وكلما رآه علق عليها أو كرر نصحه عنها فيتضايق صاحبها وتستمر المشكلات.. بينما يجدر التغاضي عنها تمامًا، أو يحاول لكن في فترات متباعدة ، وليستمتعا بباقي طباعهما الجميلة ، فلنتغاض قليلاً حتى تسير الحياة سعيدة هانئة لا تكدرها صغائر، ولتلتئم القلوب على الحب والسعادة، فكثرة العتاب تفرق الأحباب .
الفرق بين التغافل والغفلة
التغافل ممدوح؛ لأنه دائمًا ما يكون تغافلا عن تقصير أحد الزوجين من صاحبه في أداء بعض حقوقه أو إخلالاً بسيطًا في مسؤولياته ، كتقصير الزوجة في اهتمامها بمظهرها وكذلك بالنسبة للزوجة إذا رأت من زوجها بعض العبارات القاسية في حال غضبه ولاسيما وأنها ليست من عاداته، فالتغافل مطلوب بين الزوجين للحفاظ على الحياة الزوجية، أما الغفلة فهي غالباً مذمومة؛ لأنها انشغال وعدم توجيه وعدم معرفة كما يدور في بيتك من مسؤوليات وواجبات أو الغفلة عن فعل مشين مخل بالدين والأدب .
أهمية التغافل بين الزوجين !!
يمكننا أن ننظر إلى التغافل في مجال العلاقة الزوجية من ناحيتين :
الأول: عدم تضخيم الأمر في الأمور البسيطة كالتأخر في الوقت على سبيل المثال, أو عدم إحضار شيء ما طلبت الزوجة إحضاره, أو تأخر الزوجة في عمل شيء طلبه إليها زوجها.
الثاني: تأجيل النقاش في بعض المواضيع المهمة؛ فهذا يخفف من حدة النقاش في هذا الجانب , ويجعل الطرف الآخر أكثر تقبلا للرأي الآخر .
فسمو الأخلاق وراحة البال في التغاضي والتغافل عن سلبيات الأمور والتركيز على إيجابياتها، فإن غفلت عن أخطاء غيرك فليس بضعف منك والنبي صلى الله عليه وسلم : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء» رواه أبو داود، فليس من البطولة أن ينقِّب كل من الزوجين عن أخطاء بعضهما، ولا الصحيح أن تحاسب الزوجة زوجها على صغائر الأمور عن اعتقاد منها بذكائها وفطنتها وأن شيئًا لا يمكن أن يمضي على غفلة منها، فتراقبه وتحاسبه وتوقعه في الإحراج وتفاجأ بالنتيجة العكسية بشكل يهدم حياتها ، وتصرفاتها كانت العامل الأساسي لهذه النهاية فقد قلبت الحياة الأسرية إلى هيئة إدارية ضاع منها الهدوء والمودة وتحولت إلى قيد وغل تجرف ضعاف النفوس منّا إلى جحيم الطلاق أو الخيانة الزوجية، والإحصائيات في بعض المجتمعات تكاد تكون مخيفة؛ لأننا تجاهلنا أسس الحياة الزوجية؛ فالأصل في المشكلات العابرة اتباع أسلوب التغافل معها، ولكلٍ من الزوجين على الآخر حق، ولكن ربما كانت الدقة في المراقبة، والشدة في المحاسبة من بواعث الاضطراب وعدم الاستقرار، لكن التغافل والمرونة أحياناً كفيلة باستدامة السعادة وبقاء المعاشرة الجميلة، فالحياة الزوجية يجب أن تنهض على أساس من التفاهم والألفة والمحبة والتكامل وأداء الواجب الإلهي حتى يمكن لها الاستمرار والدوام، وكل ذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية .
التغافل وتربية الأولاد
التغافل عن الطفل وعدم فضحه إذا أخطأَ، ولا سيما إذا حاول ستر خطئه وإخفائه، فإن إظهار ذلك ربما يجرأَه على ارتكاب الخطأ مرة أخرى ولا يبالي بظهور أخطائه، أو التغاضي عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبث أو طيش رغم علم المربي بها، فيجب التغافل عن بعض هفوات التلاميذ وعدم التعليق على كل حركة تصدر عنه، بل لابد أن ننبههم بروح الشفقة والرحمة حتى لا نذل نفسه ونحطم شخصيته أو ندفعه لاكتساب عادات خلقية سيئة كالعناد والكذب .
نماذج متميزة من التغافل
- قال (عبد الوهاب) - موظف في القطاع الصحي:- إن زوجته أصبحت (سمينة) بعد ولادتها، مضيفاً أنه بدأ يشعر أن حديثه عن سمنتها يضايقها، بل ويدفعها للعناد ثم الندم، مشيرًا إلى أن أخاه نصحه بالتعامل مع الأمر بحكمة ، بما سماه (التغافل الإيجابي)، فلم أعد أُظهِر أنني منزعج من سمنتها، ولكنني كنت أُحضر لها ملابس على سبيل الهدية، وفي كل مرة أقلل من قياسها بدرجة واحدة، موضحاً أنها بدأت تتعمد التقليل من وزنها، حتى تستطيع ارتداء الهدية، وهكذا حتى عادت إلى طبيعتها الأولى، دون أن أجرح من إحساسها أو أضايقها.
- وهذا عبد الله دخل بيته وما إن فتح الباب ومشى قليلاً حتى تعثر بلعبة طفلته وكاد يقع، رفع اللعبة ثم واصل طريقه متجهًا إلى المطبخ حيث زوجته وهو متضايق مما حصل له فلولا عناية الله كان سقط على وجهه وكسرت يده، يا الله كم مرة قلت لها اهتمي بترتيب البيت، لم لا تأخذي بكلامي؟! وصل إليها فقابلته بابتسامة مشرقة وكلمة رقيقة، وإذا هي قد أعدت مائدة لذيذة من الطعام الذي يفضله، فأطفأ كل ذلك غضبه وجعل يفكر ، هل الأمر يستحق أن أكرر مرة أخرى عليها الاسطوانة نفسها لتغضب وتخبرني أنها كانت مشغولة بإعداد الطعام، فتجلس على المائدة وهي متضايقة؟! ونتنكد باقي يومنا! أعتقد أنه من الأفضل أن أتغاضى قليلاً لنسعد كثيرًا .
وأخيرًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها غيره» رواه مسلم، و التغافل عن بعض الأخطاء في حقك الشخصي يديم الألفة. فما أجمل أن نتغافل وندع سفينة الحياة الزوجية تبحر بهدوء دون أن تتأثر بدوامات وعواصف الأخطاء.
اعداد: إيمان الوكيل