أسلوب القدوة الحسنة في الدعوة

معنى أسلوب القدوة: أن تكون الداعية صورة صحيحة وصادقة لكل ما تدعو إليه، وتريد غرسه في المدعوة، بل أن يصدق فعلها وسلوكها قبل كلامها[1]، ولا ريب أن الدعوة بالفعل والعمل، أقوى وأوقع في نفس الطالبة، وأعون على حفظها وفهمها، وأدعى إلى اقتدائها وتأسيها من الدعوة بالقول والبيان، فالدعوة بأسلوب القدوة هو الأسلوب الملائم للفطرة، وقد كان من أعظم وأبرز أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم[2].

إن أسلوب القدوة من أوائل الأساليب الدعوية الناجحة، حيث تتمثل الداعية أمام ناظري الطالبة صورة حية، ونموذجاً صادقاً، وتطبيقاً واقعياً للأفكار والمبادئ التي تدعو لها، ومهما عملت الداعية على توضيح منهج الإسلام المتكامل، أو رسم صورة مثالية للمسلم، فإن ذلك لن يحقق ذات النتائج، ولن يغني عن وجود واقع حقيقي يمثله إنسان صادق، يحقق بعمله وسلوكه هذه الصورة.

والقدوة الحسنة لها أثر بعيد المدى في نفوس المدعوات، لأنها عرض للنماذج البشرية الصالحة التي يراد محاكاتها والاقتداء بها، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم أن يقتدي برسله الذين تقدموه فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [3]، كما جعله مثلا أعلى للمسلمين، وهو الذي جمع ما تفرق في غيره من خصال الخير كلها، وله الكمال البشري في الأخلاق الإسلامية، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [4].

وقد تكون القدوة نموذجا حسيا مشاهدا ملموسا تقتدي به الطالبة في معلمتها الداعية لها، كما أنها قد تكون مثالا حاضرا في الذهن بأخبار هذا المثال وسيرته، وصورة مرتسمة في النفس بما أُثر عنه من أقوال وأفعال، وهذه الصورة تتكون وترسم في ذهن الطالبة نتيجة للعمليات العقلية- كالملاحظة والتذكر- إلى جانب المواقف الاجتماعية والحالات التي تمر بها الطالبة أو تصادفها في حياتها[5]، ولن تكون القدوة ناجحة كأسلوب دعوي؛ إلا إذا برزت الأهداف التي تدعو إليها المعلمة الداعية في جو طبيعي بعد أن تتحلى بها الداعية سلوكاً عملياً ظاهراً للطالبات.

أهمية أسلوب القدوة:
إن أهمية أسلوب القدوة في المجال الدعوي والتربوي في بيئة طالبات المرحلة الثانوية تتضح من خلال الأمور الآتية:
1- إن حاجة الناس إلى قدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر، وهي التقليد والمحاكاة، فالطالبة تندفع برغبة ملحّة قد لا تشعر بها نحو محاكاة من تعجب بها من معلماتها في لهجتها وأسلوبها ومعظم عادات سلوكها، ويقوى الميل إلى المحاكاة والتقليد إذا كان من اتجهت إليها الأنظار قد فرضت احترامها وتقديرها وحبها، ولذلك اتخذ الإسلام القدوة الحسنة وسيلة لترقية المجتمعات المسلمة في سلم الكمال السلوكي[6].

2- إن تأثير القدوة ينتقل من الداعية إلى الطالبة دائماً، سواء كان هذا التأثير عفويا غير مقصود، كاتصاف الداعية القدوة بصفات تدفع الطالبات إلى تقليدها كإخلاصها وحسن خلقها، أو كان التأثير مقصوداً، كما يحدث في مقام التعليم، وهذه الخاصية تعطي لهذا الأسلوب استمرارية في التأثير، مما يلزم الداعية بمراقبة سلوكها دائماً[7].

3- إن القدوة دعوة غير مباشرة، مما يجعلها أقرب لموافقة طباع الطالبات اللاتي يأنفن من اتباع التوجيه، ويرفضن الأمر المباشر، واللاتي لا تجدي معهنّ عشرات النصائح والمواعظ والمحاضرات، بينما قد يقتنعن بالاتباع عند رؤيتهنّ القدوة المثالية الصادقة، فينطلقن من قناعات ذاتية إلى العمل، دون شعور بالإكراه أو بالضغط الخارجي، مما يساعد على التزامهنّ بالحق وثباتهنّ عليه وتفانيهنّ في ذلك.

4- تجاوز أسلوب القدوة لحدود اللغة، وتقبُّل غالبية مستويات الفهم والإدراك لها، ذلك أن مستويات الفهم للكلام المباشر تتفاوت عند الناس، بينما الغالبية يتساوون أو يشتركون في قدر كبير أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي متحرك، فإن ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريدها الداعية للمقتدي، كما أنها تعطي قناعة للطالبة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، وليست مستحيلة الوقوع، فشاهد الحال أقوى من شاهد المقال[8]، كما أن القدوة تتخطى مرحلة الدعوة والتعليم إلى مرحلة التربية والتدريب العملي، وبذلك تكون أبعد من مجرد الانتماء النظري[9].

5- إن القدوة الصادقة الملتزمة بما تدعو إليه، تقع غالبا موقع الرضا في قلوب الطالبات، وتلك مزية لها أثرها البين في قبول الدعوة، فهي دلالة على صدق الداعية، وعمق إيمانها بالفكرة التي تدعو لها، وعدا أن التزامها من إمارات صدقها، ومن بواعث الاستجابة فهو كذلك من دواعي توقيرها وتبجيلها، والناس منذ القديم مفطورون على احترام الصادقين الجادين الذين تطابق أقوالهم أفعالهم.

6- إن القدوة تتطلب - عادة - أكثر من مجرد المحاكاة والتقليد، إذ إنها تعتبر نموذجا ومعيارا يحكم تصرفات الطالبة ويوجه سلوكها الوجهة المرغوبة، فالقدوة تعتمد العمليات العقلية العليا، بينما تعتمد المحاكاة على المشاهدة المباشرة والتقليد البسيط[10].

7- إن القدوة مكمّلة للمعارف الدينية في تأثيرها على الطالبات، إذ إن المعرفة العلمية لا تكفي لتهذيب السلوك وغرس القيم، (إذ ليس من المحتم أن يكون صادقا من يعرف الصدق، ولكن قلّ أن تخفق القدوة الطيبة في هذا المجال، فإذا نجحت المدرسة وإدارتها ومدرسوها وجميع العاملين بها في أن لا تقع عينا التلميذ إلا على كل مظهر حسن، ولا تتلقى أذناه إلا كل لفظ شريف مهذب، ولا ينمو رصيده من المشاهدات والمدركات إلا بكل تصرف عادل، وكل عمل مخلص مفيد، إذا نجحت المدرسة في هذا؛ فقد وفّرت لتلاميذها مثلا طيبة تؤتي ثمارها في اقتدائهم بها وتخلقهم بها)[11].

متطلبات نجاح أسلوب القدوة:
من أبرز متطلبات نجاح أسلوب القدوة في الميدان الدعوي التربوي ما يأتي:
1- حسن الخلق، تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم، ونتيجة لتطلع الداعية إلى مرتبة الكمال التي بلغها - صلى الله عليه وسلم من الكمال الأخلاقي، فتكون الداعية قدوة أخلاقية متجسدة، صالحة للاقتداء بها.

وأصول السيرة الحسنة التي بها تكون الداعية المسلمة قدوة طيبة لغيرها، ترجع إلى أصلين كبيرين: حسن الخلق، وموافقة القول العمل، فإذا تحقق هذان الأصلان، حسنت سيرة الداعية، وكانت سيرتها الطيبة دعوة صامتة للإسلام، وإن فاتها هذان الأصلان أو أحدهما ساءت سيرتها، وصارت دعوة صامتة منفرة عن الإسلام[12].

2- موافقة قول الداعية عملها: بأن تكون الدعوة بلسان حال الداعية، فلا يخالف فعلُها قولَها، حتى لا يصدق فيها قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [13]، ذلك أن (الدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعية إليه؛ هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولا جميلا، ويشهدون فعلا قبيحا، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل. ولا يعودون يثقون في الدين بعدما فقدوا ثقتهم برجال الدين)[14].

إن تطبيق الداعية لهذا الشرط من أهم دواعي قبول ما تدعو إليه، وتصديق أقوالها، وترسيخها في قلوب الطالبات، لأن من خالف فعله قوله، فإن ذلك تكذيب لقوله، وعائد إليه بالإبطال، كما أنه منفر للناس من دعوته والانتفاع بكلامه[15].

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله- : (إن المفتي إذا أمر بالصمت - مثلاً - عما لا يعني، فإن كان صامتاً عما لا يعني، ففتواه صادقة، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني، فهي غير صادقة. . . وإن دلّك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها، صدقت فتواه. ومثلها النواهي، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات والنساء، وكان في نفسه منتهيا عنها، فهو الصادق الفتيا، والذي يُقتدى بقوله ويُقتدى بفعله، وإلا فلا، لأن علامة صدق القول مطابقة العمل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [16]وحسب الناظر في ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم. حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاء والتمام)[17]، وتهاون الداعية بهذا الأمر مما ينفِّر الطالبات عن الاتباع، أو على أقل افتراض استهانتهنّ بما تدعوهنّ إليه، أو التقليل من شأنه، وعدم أخذه بالجدية المناسبة.

3- الابتعاد عما يخدش القدوة أو يجرحها: وهذا يعني أن تبتعد الداعية - ما استطاعت - عن مواطن الزلل بالقول أو بالفعل، لأن أعين الطالبات معقودة عليها، وخطواتها محسوبة ومراقبة ممن تدعوهنّ، فرسالة الدعوة إلى الله تقتضي من صاحبتها أن تلاحظ أفعالها، لأنها قدوة منظور إليها، ومتأس بها، فلا تسترسل كما قد يفعل غيرها ممن لا يُقتدى بهنّ، بل تزن أفعالها دائما بميزان الشرع، وتحاسب نفسها على كل كلمة وتصرف، حتى تكون على مستوى القدوة[18]، ومن هنا فالواجب على الداعية تجنب مواضع التهم، والبعد عما يخدش المروءة، أو يُستنكر ظاهره، فإن هذا يعرضها إلى الظنون المكروهة السيئة.

4- الحرص على يسر الفعل المُظهر، إذا كانت الداعية في مقام تعليم، لئلا يكون فيه مشقة وعسر، ولئلا تأخذ الطالبات أنفسهنّ بالشدة كما تأخذ هي نفسها بها، فيقع الفتور والانقطاع.

5- الحرص على إظهار العمل وإتقانه وتجويده، خاصة إذا كانت المعلمة في مقام التعليم، فلا ترضى لنفسها بالجائز من الأفعال الظاهرة والباطنة، بل تأخذ نفسها بأحسنها وأكملها، فإن المعلمة الداعية هي القدوة وإليها المرجع في الأحكام عند طالباتها، وقد يراقبنها للأخذ عنها من حيث لا تنظر، كما قد يقتدي بها من لا تعلم، وإذا لم تنتفع الداعية بعلمها، فغيرها أبعد عن الانتفاع به[19].

وفي ضوء ما سبق يتضح أن أسلوب القدوة لا يقل أهمية عن أساليب الدعوة بالقول، إذ إن القدوة تترك آثارا قوية في نفس المقتدي أكثر مما يفعله القول والتفكير، وقد بات الناس في هذا العصر أحوج ما يكونون إلى الدعوة العملية، رغم كثرة وسائل الإعلام وانتشار المعارف والعلوم.
============================== ==========
[1] ينظر: فقه الدعوة الفردية في المنهج الإسلامي: د. السيد محمد نوح ص 55.
[2] ينظر: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم: د. عبدالفتاح أبو غدة ص 65، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط: 1، 1417هـ/1996م.
[3] سورة الأنعام: جزء من آية 90.
[4] سورة الأحزاب: جزء من آية 21.
[5] الأخلاق الإسلامية وأسسها: عبدالرحمن الميداني 1 /214، والقدوة وأثرها في التنشئة الاجتماعية في المرحلة الابتدائية: د. محمد شحات الخطيب ص 43، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، ط: بدون 1417هـ/1997م.
[6] ينظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها: عبد الرحمن الميداني 1 /215، وأصول التربية الإسلامية: د. عبد الرحمن النحلاوي ص231.
[7] ينظر: أصول التربية الإسلامية: د. عبد الرحمن النحلاوي ص 234.
[8] الأخلاق الإسلامية وأسسها: عبد الرحمن الميداني1 /215.
[9] فن التعامل مع الناس: د. عبد الله الخاطر المنتدى الإسلامي، لندن، ط: 1، 1415هـ.
[10] ينظر: القدوة وأثرها في التنشئة الاجتماعية: د. محمد الخطيب ص 46.
[11] المعلم والمنهج الإسلامي: د. محمد العروسي ص 180، ضمن أبحاث كتاب المنهج وإعداد المعلم: د. محمد الأفندي.
[12] ينظر: أصول الدعوة: ص 486.
[13] سورة البقرة: آية 44.
[15] ينظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية: محمد الأشقر 1 /64.
[16] سورة الأحزاب: جزء من آية23.
[17] باختصار: الموافقات 4 /252- 253.
[18] ينظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية: د. محمد الأشقر 1 /66- 67
[19] ينظر: تذكرة السامع والمتكلم: العلّامة بدر الدين ابن جماعة الكناني ص 21.
______________________________ ____________________ _____________
الكاتب: د. هند بنت مصطفى شريفي