حكم النظر للمخطوبة
سما الأزهر
حكم النظر إلى المخطوبة عند السادة الشافعية
حرص الإسلام على دوام العشرة بين الزوجين وحصول المودة والمحبة بينهما، وكذلك حصول السكن النفسي لكل منهما؛ ولذلك أباح نظر كل من الطرفين للآخر؛ حتى يطمئن إلى من سيختاره، على الرغم من تحريم النظر لغير حاجة، والأمر بغض البصر فيما سوى ذلك. وللعلماء قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) [1] يعني: قد يكون هناك فعل لم يحرم لذاته، ولكن حرم لأننا لو فتحناه أدى إلى فساد، وذلك مثل النظر، فالنظر إلى النساء ليس محرماً في ذاته، إنما هو محرمٌ لما يفضي إليه من الفساد ، ولكن يباح للمصلحة الراجحة، وهي دوام العشرة .
ونظر الخاطب إلى المخطوبة وبالعكس مستحب على الصحيح في المذهب ، فيسن لولي المرأة أن يمكن الخاطب من النظر لموليته ؛ إتباعا للسنة وترك ماعليه الناس من العوائد والأعراف المخالفة للشرع ، ولا يعد ذلك من العار ونقص الغيرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق غيرة ومروءة أرشد إليه وحث عليه.
جاء في أسنى المطالب : " إذا رغب في نكاحها استحب على الصحيح أن يَنْظُرَ كُلٌّ من الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ من الْآخَرِ قبل الْخِطْبَةِ وَبَعْدَ عَزْمِهِ على نِكَاحِهِ غير الْعَوْرَةِ الْمُقَرَّرَةِ في شُرُوطِ الصَّلَاةِ فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ من الْحُرَّةِ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ بلا مس "[2].
ويشترط لجواز نظر الخاطب شروط:
1- أن يكون عازما على الزواج .
2- أو يكون بنية الخِطبة لا مجرد اطلاع على عورات المسلمين.
3- أن يكون النظر خاليا من الخلوة والفتنة.
4- أن يكون نظره في حدود المأذون فيه شرعا.
5- يشترط أن يكون عالما بخلوها عن نكاح وعدة تحرم التعريض بخطبتها [3].
والحكمة في إباحة الشارع النظر قبل الخطبة ، دفع الندم إذا ماخطبها أو تزوجها بدون أن ينظر إليها ، وأيضاً لدوام الألفة والمودة بين الزوجين.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة منها : -
أ- عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُرِيتُكِ في الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ ، إذا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ في سَرَقَةِ حَرِيرٍ فيقول: هذه امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا فإذا هِيَ أَنْتِ ، فَأَقُولُ : " إن يَكُنْ هذا من عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " [4] وفي رواية ثانية عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : قال لي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " رَأَيْتُكِ في الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ في سَرَقَةٍ من حَرِيرٍ فقال لي هذه امْرَأَتُكَ فَكَشَفْتُ عن وَجْهِكِ الثَّوْبَ فإذا هِيَ أنت فقلت إن يَكُ هذا من عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ " .[5]
ب- عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ [6] بَيْنَكُمَا ". [7]
ج- وبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم في خَبَرِ جَابِر: " ٍ إذَا خَطَبَ أحدكم الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ منها إلَى ما يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ " قال جَابِرٌ : فَخَطَبْت جَارِيَةً وَكُنْت أَتَخْبَأُ لها حتى رَأَيْت منها ما دَعَانِي إلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتهَا " [8] رَوَاهُ أبو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَالْمُرَادُ بِخَطَبَ في الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ رَغِبَ في خِطْبَتِهَا بِدَلِيلِ ما رَوَاهُ أبو دَاوُد وابن حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ خَطَبْتُ امْرَأَةً فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهَا فِي نَخْلٍ لَهَا فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا " [9] وَقَيَّدَ ابن عبد السَّلَامِ اسْتِحْبَابَ النَّظَرِ بِمَنْ يَرْجُو رَجَاءً ظَاهِرًا أَنَّهُ يُجَابُ إلَى خِطْبَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِكُلٍّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْآخَرِ [10]. أي لكل من الرجل والمرأة النظر إلى الآخر .
وقت النظر
ويندب النظر قبل الخطبة وبعد العزم على النكاح ؛ لأنه قبل العزم لا حاجة إليه وبعد الخطبة قد يفضي الحال إلى الترك فيشق عليها ويؤذيها هذا هو الصحيح في المذهب [11] والنظر قبل الخطبة قيد على وجه الندب ويجوز بعدها ، قاله ابن حجر[12] .
هل يشترط إذنها قبل أن ينظر ؟ وماذا لو احتاج لتكرار النظر ؟
يستحب النظر إليها وإن لم تأذن هي ولا وليها إذا كانت مستترة ؛ اكتفاء بإذن الشارع ؛ ولأنها قد تتزين له بما يغره[13] .
ولكن الأولى أن يكون بإذنها خروجا من خلاف الإمام مالك فإنه يقول بحرمته بغير إذنها [14].
فإن نظر إليها على أي حال من الأمرين السابقين ولم تعجبه سكت ولا يقول لا أريدها ؛ لأنه إيذاء لها وضرر نهى عنه الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم : لَا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ " [15].
وله تكرير نظره إن احتاج إليه ؛ ليتبين هيئتها فلا يندم بعد النكاح إذ لا يحصل الغرض غالبا بأول نظرة . الدليل على ذلك : -
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أنَّ امْرَأَةً، جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لأهَبَ لَكَ نَفْسِي. فَنَظَرَ اِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ اِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ، ثُمَّ طَاْطَاَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأةُ أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِهِ فَقَالَ أىْ رَسُولَ اللَّهِ : إنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا . فَقَالَ : " هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ ". قَالَ : لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ " إذْهَبْ إلَى أهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا ". فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. قَالَ : " انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ ". فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي فَلَهَا نِصْفُهُ ـ قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ ـ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا تَصْنَعُ بِإزَارِكَ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىْءٌ، وَإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَىْءٌ ". فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلَسُهُ ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا فأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : " مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْانِ ؟ ". قَالَ : مَعِي سُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا وَسُورَةَ كَذَا. عَدَّدَهَا. قَالَ " أتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ ". قَالَ نَعَمْ. قَالَ : " اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ".[16] ومحل الشاهد قوله " فصعد النظرإليها وصوبه " وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها ، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير ، وبالثاني جزم القرطبي في المفهم قال : أي نظر أعلاها وأسفلها مرارا [17] .
قال الزركشي : ولم يتعرضوا لضبط التكرار ويحتمل تقديره بثلاث ؛ لحصول المعرفة بها غالبا لخَبَرِ عَائِشَةَ الذي تَرْجَمَ عليه الْبُخَارِيُّ الرُّؤْيَةَ قبل الْخِطْبَةِ : " أَرَيْتُك ثَلَاثَ لَيَالٍ " [18] . وله تكرير نظره ولو أكثر من ثلاث فيما يظهر؛ حتى يتبين له هيئتها ، وسواء النظر بإذنها وبغير إذنها ، ولو اكتفى بنظرة حرم ما زاد عليها ؛ لأنه نظر أبيح لضرورة فليتقيد بها وسواء في ذلك أخاف الفتنة أم لا كما قاله الإمام والروياني[19].
فإن لم يتيسر له النظر كأن تكون منتقبة بعث امرأة تتأملها وتصفها له[20] ولو بما لا يحل له نظره [21] ؛ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إلَى امْرَأَةٍ وقال : " اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي عَوَارِضَهَا " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وفي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِ ّ وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا [22].
ويؤخذ من الخبر أن للمبعوث أن يصف للباعث زائدا على ما ينظره فيستفيد بالبعث ما يستفيده بنظره[23] وهذا لمزيد الحاجة إليه مستثنى من حرمة وصف امرأة امرأة لرجل [24] ،فَإِنْ لم يُعْجِبْهُ الوصف سَكَتَ وَلَا يَقُلْ لَا أُرِيدُهَا ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ منهي عنه [25].
============================== ==========
[1] - إعلام الموقعين ج 2 ص 161
[2] - أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 108.
[3] - نهاية المحتاج ج 6 ص 185.
[4] - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب نكاح الأبكار برقم 4790 .
[5] - أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب النكاح ، باب النَّظَرِ إلى الْمَرْأَةِ قبل التَّزْوِيجِ برقم 4832.
[6] - ومعنى يؤدم أي تدوم المودة والألفة بينكما مغني المحتاج ج 3 ص 128 .
[7] - أخرجه الترمذي في السنن ، كتاب النكاح ، باب مَا جَاءَ فِي النَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ برقم 1087 قالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وصححه الحاكم .
[8] - أخرجه أبو داود في السنن ، كتاب النكاح ، باب الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها برقم 2082.
[9] - أخرجه ابن ماجه في السنن ، كتاب النكاح ، بَاب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا برقم 1864 وأخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ وَسَكَتَ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ .
[10] - أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109.
[11] - مغني المحتاج ج 3 ص 128، أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109.
[12] - حاشية قليوبي ج 3 ص 209.
[13] - نهاية المحتاج ج 6 ص 186 وهذا أولى عندى ؛ لأن البنت إذا علمت أن فلان يريد أن يتزوجها أو يفكر في ذلك تجملت ووضعت المساحيق التي غالباً ماتظهرها على غير حقيقتها ، وهذا غرر وتدليس نهى عنه الإسلام .
[14] - مغني المحتاج ج 3 ص 128
[15] - أخرجه ابن ماجه في السنن ، كتاب الأحكام ، بَاب من بَنَى في حَقِّهِ ما يَضُرُّ بِجَارِهِ برقم 2340 ، قال الحاكم حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه - المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 66 وقال ابن الصلاح حسن ، وقال أبو داود وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه - خلاصة البدر المنير ج 2 ص 438 ، الفروق مع هوامشه ج 3 ص 41.
[16] - أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب النكاح ، باب النَّظَرِ اِلَى الْمَرْاَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ برقم 4833 ، كتاب النكاح ، باب عَرْضِ الْمَرْاَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ برقم 5176 .
[17] - فتح الباري ج 9 ص 206.
[18] - مغني المحتاج ج 3 ص 128.
[19] - نهاية المحتاج ج 6 ص 186.
[20] - أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109 .
[21] - نهاية المحتاج ج 6 ص 186.
[22] - خلاصة البدر المنير ج 2 ص 180.
[23] - مغني المحتاج ج 3 ص 128.
[24] - نهاية المحتاج ج 6 ص 187.
[25] - أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109.