مداخلة علمية على شرف الندوة الكشفية

بعنوان "الاستعمال العقلاني واللاعقلاني للتقنية والإنترنت"

بقلم الإمام الأستاذ الرئيسي: أحمد بن علي سعود

يوم 22 جوان 2024 م الـموافق لـ 16 ذو الحجة 1445 هـ

بقاعة المحاضرات الصغرى "الأمين العمودي"، دار الثقافة، الوادي




ملخص:
ذكر الشيخ أبو الحسنِ النَّـــدَوِيُّ رحمه الله تعالى في كتابــه "ماذا خسِر العالَــمُ بانحِطَاطِ المسلمين؟" (ص239) قولَــهُ: "فإذا أراد العالَــمُ الإسلامِيُّ أن يستأنف حياته، ويتحرر من رقِّ غيره، وإذا كان يطمح إلى القيادة؛ فلا بد من الاستقلال التعليمي، بل لا بد من الزعامة العلمية، وما هي بالأمر الهيِّن".

لعل من منجَزَات هذا العصر ومشكِلاتِه اليوم هو فكرة "الإنترنت"، فهو الآن أخطرُ وأعظمُ اختراع وصل إليه الإنسان الغربي من حيث التأثير في حياة الناس، ومن حيث هيمنته على باقي التطوُّرات الأخرى؛ انطلاقًا من البسيط فيها إلى المعقَّد، لكنَّه مع هذا أبرز لنفسه فوائد عظيمة في الريادة العلمية والثقافة المُجتمعية، كما أن له مخاطر جسيمة في الغزو الفكري والثقافي للمجتمعات بشتّى أطيافها، وقد جاء الإسلام بقواعدَ عامة تعالج كل هذه المشكلات، وتحمي من كل المخاطر والمفاسد.

ففي هذا الموضوع: محاولةٌ لطرح معرفة فوائد التقنية والإنترنت واستعمالاتهما العقلانية منها واللاعقلانية، متمثِّلة في مخاطِره، ثم استعمالاته العقلانية، ثم الضوابط الـمُعينة على الحماية من أخطاره، وما يستوجب التناصح فيه.

الكلمات الـمِفتاحيَّة:التقنية، الإنترنت، اللاعقلاني، العقلاني، الضوابط الـمُعينة، نصائح تحذيرية.
مُقدّمات بين يدي المُداخلة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]، اللهم اجعلنا على تقواك، وهب لنا من العمل ما فيه رضاك، آمين، أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الـمجلس مجلسًا مباركًا موفَّقًا، تحُفُّهُ الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتتنزل عليه السكينة، ويذكرنا الله سبحانه وتعالى فيمن عنده، أعود بإخواني إلى مجالس العلم ومجالس الذكر، ونحن نقصُد بذلك زيادة عِلم، ونشر علمٍ، وتحصيل علمٍ، وتحصينٌ بعلم، ونقصد به جلسةً مع الإخوان، ومع الأحبَّة في مجلس يُحبُّه الله ورسوله، ونقصد به رِفعةً عندَهُ سبحانه، فأقول مستعينًا بالله:
إن الحديث عن مخاطر التقنية والإنترنت اليوم لا يستوجِب منا الحديث على تلك الأخطار المتداولة منها، والمستهلك الحديث عنها في المجالس؛ فالحديث في مثل هذه المجالس يكون على حسب الفئات التي فيه، والمُستَهدَفة منه، والتي لفئة الشَّباب منها نصيب الأسد، وعليه فلا يُـمكِن الحديث أمام تلك الفئة على مخاطر البرمجة الإلكترونية أو الإنترنت عمومًا والتي لها -عادة- أعراض بيولوجية جسمانية كضعف للبصر وآلام للظهر والرقبة؛ نتيجة طول الجلوس أمام شاشة الحاسوب، ولا الحديث على مخاطر الإدمان النفسية والشعورية كتسبُّبِ القلق والتوتر وسوء المزاج، أو الآثار الذهنية المتعلقة بالذكاء وصفاء الذهن؛ كالإجهاد الذهني، وضعف القدرة على التركيز، وضُعف التحصيل، وقِلّة الفَهم خاصة لدى الطلاب ونقص انتباههم، وإن في ذكر هذه المخاطر أيضًا لسبيلًا من التذكير والانتباه لها.

لكن الحديث اليوم مقامُه مقام صبِّ الدواء على الدَّاء تحديدًا بعد تشخيص ومعرفَة بالداء، حتى يكُون الموضوع في مصبِّه وفي مضمونه، وللولوج إلى أول العناصر البحثية التشخيصية لمخاطر الإنترنت أو التقنية عمومًا، لا بُد من التقديم بمُقدِّمات مُهمَّة تُعين على فهم الـمُراد، وما يُلقى:
الـمُقدِّمة الأولى- الطفل والتكنولوجيا؛ بين غياب الوعي التكنولوجي والبناء الفطري: فالطِّفل -بأطوارِه- هو واحد من المنظومة المتكاملة لبناء المجتمع، وهو البذرة الأولى له، فالبناء الأوَّليُّ لشخصيَّته هو الـمُحدِّدُ الأول لمدى هِمَّته وهمِّه في رُقِيِّ مُجتمعه مستقبلًا، لكن مضت العادة على استغلال الوسائط التكنولوجية كسبيل لإرضاء الطفل، في حين أن الدراسات الحديثة تشير محذِّرة إلى أن الاستعمال المُفرط وإدمان الأطفال للوسائط الرقمية دون الإشراف الأبوي له آثار وعواقب جسدية ضارة، فضلًا على الضرر النفسي والاجتماعي والعصبي، كما تشير الأخيرة إلى أن المدة، والمحتوى، والاستخدام اللاعقلاني، ونوعية الوسائط أيضًا عوامل كلها لها تأثيرها بمستوى الضرر وحجمِه[1].

الـمُقدِّمة الثانية- الشباب العُنصُر والمحور الأساسي في العملية التكنولوجية:فالشباب هو العنصر المحوري للمجتمع، ظاهرًا وباطنًا، وهو الـمُشكِّل الأوَّل للمجتمعات الناجحة، والأمم الناهضة، فاستغلالهم للتقنية والإنترنت اللاعقلاني أو العقلاني هو من يحدِّد حجم التفاهة في المجتمعات أو حجم الرُّقي والازدهار، قبل أن نصطدم بالواقع مستقبلًا ثم نسعى محاولين علاجَهُ بالتحاضر، فنجِد أنفُسَنا في زمنٍ قد تفشَّى فيه فيروس التفاهة وانحطاط المجتمع أخلاقيًّا.

الـمُقدِّمة الثالثة- النهضة العلمية وأثرها في تحديد مسار المجتمعات:وهذه النقطة الأخيرة في تكامل تصحيح المسار، وعلاج مخاطر التقنية والإنترنت، هي معرفة "كيف نستغل الجديد الدَّخيل علينا من التَّطورات العلميَّة"؛ ولذلك نجد أن مالك بن نبي رحمه الله قد جعل هذه الأخيرة من شروط نهضة الأمم، فجعل إحدى شروط النهضة "توجيه الثَّقافة" ورسم فيها أُطُر الاستغلال الجيد للجديد، حتَّى جَعَلَهُ عامِلًا مُحدَّدًا من عوامل النَّهضة، وقال بعد عرض ذلك: "وهذا العمل نفسُه لازمٌ اليوم للنهضة الإسلامية"[2].

فهذه الـمُقدِّمات الثلاث هي تكامل الـمُجتمَع، وضرر إحداها بِضرر الـمُجتمع في الحاضر أو مستقبلًا؛ ولذلك جاء التقديم بهنَّ حتَّى تكتمل الصورة للحصانة من كلِّ جديد، أو معرفة مكان العلاج الصحيح، أما فيما يتعلَّق بموضوعنا وهو "التقنية والإنترنت" فإن حُصول الضرر أو ضدّه منه يأتي بالتكامل مع النقاط الثلاث السابقة وكيفية استغلاله، وعلى ذلك يأتي الحديث في المباحث الموالية نحو بيان الاستعمالات العقلانية واللاعقلانية للإنترنت، ومدى تأثيرها في المجتمعات والأفراد.

التأثير في المجتمعات: في بناء الوعي الثقافي المُجتمعي، وصد المخاطر الـمُتجَهِّمة عليه من إلحاد وفكر متطَرِّف وشُبُهات فطرية، وغزو ثقافي ووطني، واختلال حتَّى في الثوابت الدينية والوطنية.

وكذلك التأثير الفردي على فئة الشَّباب خصوصًا: لكونِه عمُود الـمُجتمَع وقِوام بنائه، تأثيرًا للنهضة التكنولوجية في ردِّها عن كل ما من شأنه أن يصرِف هذه القوة الشبابية في غير محلِّها.

فإلى أول المباحث في هذه الـمُداخلة؛ وهو: الاستعمالات اللاعقلانية للتقنية والإنترنت:
نبدأ باللاعقلاني سبقًا لـمعرفة المرض وتشخيصه، ليسهل بعد ذلك معالجَتُه بمعرفة البديل -العقلاني- وربطِه بضوابطه، لتكتمل الصورة وتتجَلى الفائدة، ويقع بعد ذلك النفع بإذن الله.

وسأختار نماذجَ ثلاثة من أخطار التقنية، هي ذات قيمَة بالغة وتشكِّل خطرًا وتهديدًا لرُوَّاد التقنية عمومًا والإنترنت خصوصًا، ووسائط التواصل الاجتماعي بشكل أخص، وسأذكرُها وفق الأهميَّة:
أولًا: المخاطر الدينية- نشر الكفر والإلحاد والتشكيك في الدين وطرح الشبهات: لا يمكن إنكار حقيقة زيادة الترويج عبر المنصات الإلكترونية التي تملكها مؤسسات أغلبها لها علاقة بفكرة اللادينية والصهيونية، لأفكار غريبة وشاذة بل ومُتطرِّفة، وتصرف في ذلك أموالًا طائلة، ومؤسسات لترويج هذه الأفكار، كما حصل مؤخرًا من إنشاء مركز تكوين المُلحدِين، وتفشَّى بين أوساط المجتمعات، لاستقطاب فئة الشباب خاصَّة.

وأيضًا في الاستغلالات التقنية ما يحصل من توظيف لتقنيات الذكاء الاصطناعي لأجل القيام بوظائف بشرية كتغيير صوت عالِـم إسلامي معروف، وجَعْــلِه يدعو إلى الانحلال الأخلاقي أو التَّطُرف الديني ونحو ذلك.

ثانيًا: المخاطر الشخصية- سرقة الهوية وانتهاك الخصوصية: هي نوع من التحرش أو التشهير أو الإرهاب النفسي عبر الإنترنت، تكون عادة من قِبل مراهقين، تتم مضايقة الضحية وإزعاجه عن طريق الصور أو مقاطع الفيديو العدائية التي تَكون مُرسلة مسبقًا بشكل معتاد لشخص يُظَنُّ فيه الأمان، دون التفطُّن والحذر، فيقع في قضية تحَرُّش وتهديد، وانتهاك للخصوصية، ويحصُل هذا عادة للمراهقين من البنات في الكثير من الأحيان، وأحيانًا لفئة المراهقين من الشباب، وسيأتي في عنصر الضوابط -في الأخير- التنبيه إلى غلق الكاميرا والتفطُّن للمراسلات الوهمية.

ثالثًا: المخاطر الإلكترونية- الابتزاز والتهديد الإلكتروني: ويبدأ ذلك دائمًا بالابتزاز تحايلًا واستدراجًا إلكترونيًّا من خلالالمراسلات الوهمية الحاملة لروابط تهكِيرية، التي تقود إلى التلصُّص على الضحية واستدراجه، سواء كان عن طريق التهكِير الإلكتروني بإرسال بريد إلكتروني، يُـمَكِّن الهاكر في الأخير من الوصول إلى ما يوقِع الضحية، حينها يتمكن الـمُبتَز من الحصول على صور أو لقطات أو على معلومات شخصية للضحية، ومن ذلك تبدأ عملية الابتزاز للحصول على مآربه الدنيئة، وفي الغالب ما يخضع الضحايا لـمطلب الـمُبتَزِّين.

فهذه النماذج الثلاثة في الجملة تُشكل أصل المخاطر بأنواعها، ويمكنُك أن تُفرِّع عنها شتَّى المخاطر التي يُرجى أن يتفطَّن إليها الشاب المسلم في حياتِه.

ثم إلى ثاني المباحث في هذه الـمُداخلة؛ وهو: الاستعمالات العقلانية للتقنية والإنترنت: ففي هذا المبحث سأتفادى التكرار المعلوماتي في ذكر المحاسن الـمُتداولة للإنترنت والتقنية عمومًا، وكما سبق في مبحث المخاطر سأتناول هذا المبحث، وسآتي على نماذج ثلاثة عامة وشاملة لكل فروع المحاسن الأخرى، فأذكر ما يلي:
أولًا: التفرُّغ واحتساب الأجر في توثيق المواد العلمية -إلكترونيًّا- للشيوخ وعلماء الدين خاصة: وهنا الجزء المُهِم، والثغرة التي يغفل عنها الكثير، وهي مُلتَقى المحاسن، ومجمَعُ كُل خير، وذلك لكون هذا الأخير الجدار الدِّفاعي الأول لقلب المسلم خاصة والمجتمعات الإسلامية عامة، فالتوثيق لـموادِّهم العلمية هو من صميم حفظ الدين والعلم، ومن الجدير بالذكر أن يهتَم المسلم بالعلماء خاصة وتعظيم شأنهم، وتحسيس الناس بعظم مسؤولية هذه النعمة –نعمة التقنية والإنترنت، والبرمجة- واغتنامها فيما من شأنه أن يفيد الأمة ويُعيد عِزّها بدينها.

ومن التنبيهات الـمُهمَّة التي أتت عرضًا ألَّا يزهد الإنسان ويجحد علماء بلده من هذه النعمة، خاصة ونحن نرى أن المشارقة قد سبقونا نحن المغاربة بمراحل وأشواطٍ تنافسية بعيدة جدًّا، كونهُم عظَّموا شأن العلم، وسبَّلوا جهودهم للتقنية وقفًا لهذه الذَّكَاءات البرمجية في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر ما يفيد الأمة.

ولك أن ترى أن للكلمة تأثيرها كما أن للفعل تأثيره، والفَطِن من عرف مكانهُ فاستغلَّه وبادر في استقطاب من لهم ذاتُ الهمَّة والهَمِّ، ومِن مؤلمات الدَّهر التي تُحزِنُ حقًّا أن ترى جوانب التواصل الاجتماعي تَعجُّ بالتفاهات الـمُوثّقة بأقوى الجَوْدَات وأجود التوثيقات، وبأحدث وسائل التصوير والبرمجة، وجانب الدعوة والعلم ضعيف عضُدُه، هزيل عودُه، لا فارِس له يشُدُّ شَـأْوَهُ وخِطَامَه، في حين تجد للتفاهة جنودًا مُجنَّدة يَغبطُهُم عليها ذَوُو العِلم الذين لا جانب لهم ولا عَضُد، فتجِد الـمَفتُوح عليه بفتوح الله لا يد تَخُطُّ له أجرًا بعد موتِه، ولا ناقِشًا للأثر يترُك له أثرًا ينتَفِعُ به النَّاس، إلا يَدَهُ توثِّق مواد هزيلة الجودة، غير معتَدِلة الصورة، لا يُؤبَه بجمِيل صورتِها، ولا بجمِيل ما فيها، فكيف وقد تحامل عليها سوء الجودة وسوء التصوير؟!

فمن هذا المِنبر –وفينا من الحضور من بَرَعَ في البرمجة والـمونتاج- لا تَزْهَدُوا في ترك الأثر لكم، ولا تُزَهِّدوا الناس في توثيق الخير، وتفاعلوا، وحُثُّوا، وبادِروا، وكونوا عونًا في الدِّفاع عن الدين، بل وكونوا صفًّا في دحض التفاهة، ومنع وصولها إلى مرابض الخير -أرض الوادي المحافظة- فإنه لا يغيب عن ناظِرِكُم عُدوَان التَّفاهة التي جاءت بها منصَّة "التيك توك" بصفة خاصَّة، وغَزَت بذلك تدَيُّنَنا والتِزامنا؛ من كشفٍ للعورات، وفضحٍ للأعراض، وهتكٍ للمستور، ونشرٍ للرذيلة، وبثٍّ للوسخ الإعلامي، فالله المستعان، وعليه التكلان.

ثانيًا: التأثير الحسن في الرأي العام، ونَشرُ القِيَم في المُجتمَع:
يمكن لمقطعٍ قصير لا يتجاوز دقيقتين أن يُرسخَ قيمةً أو ينصرَ حقًّا أو يُزهقَ باطلًا أو ينشرَ سعادةً وفرحًا، أو يواسيَ محزونًا، أو يدعم الخير بوجوهه المتعددة، وكم من مقالاتٍ قصيرةٍ، أو تغريدات يسيرة، كتبها صاحبها من أعماق قلبه فطافت خلال البلاد وسَرَتْ في قلوب الناس.

لكن ومع كلِّ هذا إياك! احترس من غرور الثناء والمجاملات، فلا يعلم حقيقة المرء إلا نفسه، ولا يُهَوّلَنَّك كثرة المعجبين بما تكتب وما تنشر، ولو بلغوا أهل الأرض جميعًا، فلا يغني عن المرء إلا عمله الخالص، وصدق نيته، ورغبته الجادة في نفع الناس، فجميلٌ أن ترى أثر عملك، من حقك أن تسعد حينما تكتب مقالًا ينال الإعجاب والقبول، أو تنشر منشورًا ينتشر بين الناس، أو مقطعًا قصيرًا يشاهده الأُلُوف.

ثالثًا: تَـنْمِيَةُ الـمواهب والملكات، واستغلالـها في النهضة الـمُجتَمَعيَّة :
مساحة واسعة تلك التي توفرها وسائل التواصل لكل ذي موهبة يبتغي صقلها وتنميتها وتطويرها والإفادة منها لنفسه ولغيره، فأصحاب الأقـلام الناشِئة يجدون فُرصًا للتعبير عن أفكارهم، ومن خلال تفاعل الجمهور يمكن أن يستفيد منها ويتقدم ويخطو خطوات جيدة في ميدانه، وأيضًا أصحاب البرمجة ومن يسهِّلون الصعب للناس، وكذلك من يجعل من مخاطر التقنية محاسن ومكانًا آمنًا يحمي به الناس، ببراعته وذكائه في هذا المجال، فالمهم كيف تغتنِم الجديد في الإضافة الحسنة لمجتمَعِك، فالتقنية والإنترنت وسيلة لمن ضاقت بهم وسائل الإعلام التقليدية، ومجال واسع لأن يصلوا بأعمالهم إلى قطاعات واسعة من الجمهور، ولكل مجتهدٍ نصيب.

فهذه المحاسن، وغيرها كثيرة، لكن ذكرنا ثلاثة مجالات مهمَّة يُمكن أن يستَغِلَّها الروَّاد من شباب الأمة الطامحين للعلياء، ولصناعة المجد، ما يجعلُ لهم نصيبًا من صناعة النهضة لأُمَّتِهم.

ثم إلى ثالث المباحث في هذه الـمُداخلة؛ وهو: إسعافات احتياطية وضوابط مُعينَة على تفادي أخطار الإنترنت: فهذه الإسعافات الاحتياطية التي تكُون معينة على التحصُّن من الاختراقات والتهكيرات البرمجية على الإنترنت، هي ليست حصرًا لكل الضوابط، بل وفق المتعارف عليه فقط، نذكر منها جانبًا للتنبيه والتذكير:
1- أغلِـق مكان التصوير الخاص بك على جهازك الحاسوبي بشريط لاصق، احتياطًا من الاختراقات.

2- تجنب زيارة الـمواقع المشبوهة، والاحتراس منها قدر الإمكان، والعمل بقاعدة "الاحتياط واجب".

3- كثير من المواقع قد تَـعرض لك فوزًا بمسابقات وهمية، قصد إرسالك لبعض المعلومات التي تُـمَكِّنُهم من اختراق حساباتك الشخصية، فانتبه لذلك؛ لأنها من الأرجح أن تكون مواقِعَ غير آمنة.

4- تأكَّد من مصدر البريد الإلكتروني قبل فتحه، وتَـجَاهَل الرسائل البريدية المجهولة الـمصدر.

5- احتفظ بنسخة احتياطية لمعلوماتك الشخصية والسرية، وأعد تخزينها بمكان مستقل وآمن.

6- قد تُعرض لك رسائل بصدد تنظيف الجهاز أو تخفيفه، فانتبه من تحميل البرامج الإلكترونية إلا من المصادر الموثوقة.

7- ثبِّت برامج حماية موثوقة ضد التَّجسس والفيروسات، ولتَكُن متَعارَفًا على جَودَتِها وكفاءتها.

8- كُن فطِنًا في التعامل مع الأشخاص على وسائط التواصل الاجتماعي، وخاصّة الفيسبوك منها، تعامل مع الوهمي منها بالحظر مباشرة.

ثم بعد هذا ننتقل إلى آخر المباحث في هذه الـمُداخلة؛ وهو: التوصيات الـمَطلوبة للخروج من الاستعمال اللاعقلاني إلى العقلاني:
فالإنترنت مع كونه نعمة عظيمة إلا أن فيه فتنًا كبيرة، ومزالق عظيمة في وسائل التواصل على الكبار والصغار، ومِن الوصايا التي يُمكن أن نتواصى بها في آخر هذه الـمُداخلة ما يلي:
1- غض البصر عن اللغو والحرام:
على المسلم أن يتَّق الله في نعمة بصره، وأن يُعرض عن اللغو ومشاهدَته، قول تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55] واللغو كل محرَّم، أو كلُّ ما لا فائدة فيه من قول أو فعل.

2- مراقبة الله في الخلوات:
فليعلم المسلم أن ذنوب الخلوات مهلكة، وليتَّق الله في قلبه، المؤمن القوي صاحب القلب السليم المنيب الأوَّاه الذي لا يطمئن إلا بذكر الله، ذلك لا يتشَبّهُ بالمنافق الذي في قلبه مرض، والذي وصفه الله سبحانه جلَّ في عُلاه بقوله: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]، فالحذر الحذر من ذنوب الخلوات، فإنها أعظم أسباب الانتكاسات.

3- التريُّث والتبيُّن في نقل الأخبار:
وذلك بألَّا يُسارع المسلم في نقل الأخبار، ويسابق إلى بثِّها، حسنة كانت أو قبيحة، صحيحة كانت أو إشاعة، فقد أوصانا الله عز وجل في ذلك بقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، وأكثر النقلة غير مؤتمنين، وكثير من الأخبار قد يحصل فيها كذب وخداع وتضليل، فعلى العاقل أن يتثبت كما أمره الله في كتابه الكريم.

4- اغتنام الإنترنت بذكاء وفطنة، دون إسراف وتضييع للوقت والنفس:
فليحرص المسلم على ما ينفعه في دينه ودنياه، وليغتنم أوقات فراغه فيما يقربه من الله، فلا يشغله الإنترنت، إنما يستخدمها بقدر الحاجة؛ لأننا مسؤولون عن الوقت، أخرج الترمذي من حديث أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ)).

5- تقوى الله في التكلُّم في الدين:
على المسلم أن يَتَّق الله فيما ينقُلُه من دينِه، ولا يتكلَّم فيما لا تخصُّص له فيه، فإن المتكلِّمين في الدين كثير، فلا تَكُن ذلك الذي جاء ذمُّ وصفه من قِـبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه الرويبضة، أخرج ابن ماجه في سنَنِه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ))، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ))، ومن الخذلان أن يرى المسلم نفسه يتماوج فيما ليس له به علم، فيقع في التحريم والتحليل بغير بيِّنة ولا هدى ولا علم.


الخاتــمة - نسأل الله حُسنَها -:
فهذه كلمات كُتِبت على عجَلٍ، أردت بها بيان موضوع مُهِم في الساحة الاجتماعية؛ وهو موضوع "الاستعمال اللاعقلاني والعقلاني للتقنية والإنترنت"، وإن كنت مِن غير الـمُلِم بجوانبه، لكن أحببت أن أعرِّج على جوانب غير معالَجَةٍ هي من صميم الموضوع، وأستغل هذا المنبر الـمُتاح في الحديث عنها، فأرجو أن أكون وفِّقت في بيان الخير، وإيصال النَّفْع، وتبسيط العِبارة، ومعالجة الموضوع من زاوية غير متكَرِّرة ولا متداولة، كما أرجو أن يَحصُل النَّفع لإخواني من هذه العبارات، ونسأله سُبحانه أن يكتُب لها القبول، ولنا بها الإخلاص، فله كلُّ العمل، ومنه الـمُرتَجى للثواب.

وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه والتَّابعين.

[1] ينظر: مقال بعنوان "الاستخدامات التكنولوجية عند الطفل وانعكاساتها الثقافية: رؤية بحثية"، لولي حسيبة، مجلة المربي، المعهد الوطني للتكوين العالي لإطارات الشباب، وزارة الشباب والرياضة، الجزائر، العدد 22، سنة 2019.

[2] ينظر: مالك بن نبي، شروط النَّهضة، دار الفكر، سورية، سنة 1406هـ/1986م، ص79–81.