السنن الإلهية (21)
عند المعاينة… لا توبة!
- من كمال شريعة الإسلام وجمالها (باب التوبة)، هذا الباب الذي جعله الله لجميع خلقه، رغبهم فيه، وحببهم إليه، وأمرهم به، وعندما تقرأ آيات التوبة في كتاب الله، تكاد تجزم ألا مذنب إلا ويرجع إلى الله ويتوب إليه، مهما كان ذنبه كبيرا أو كثيرا. صاحبي من محبي (الرقائق)، دوما مسبحته في يده، وبعد كل صلاة يصاحبني في طريقي إلى المنزل، يتحدث عن الآيات التي يقرؤها الإمام في العشاءين، حتى وإن كانت من قصار السور.
- ما أعظم هذه السورة! {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} الله أكبر، إنه أمر عظيم، ينبغي الإعداد له، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} آيات تهز الكيان، وترتعد لها الفرائس، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}.
كان صاحبي يتحدث متأثرا منفعلا، وبعد أن أنهى آيات الزلزلة، عقب عليها: - كل ما يحتاجه العبد، هو أن يتوب ويؤوب إلى الله، وربنا الغفور الرحيم الرؤوف الودود، يقبل عبده المذنب، بل ويحب عودته، ويمحو سيئاته وكأنه لم يذنب قط! {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).
وفي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله -تعالى-: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» (صحيح الترغيب).
توقفنا عند مفترق الطرق؛ حيث منازلنا في ا تجاهين متعاكسين، عقبت على كلامه: - ولكن ينبغي على العبد أن يتوب، وأن يستغفر، حتى لا يغلق عنه باب التوبة! - وهل يغلق باب التوبة قبل يوم القيامة؟! - نعم، من سنة الله أن التوبة لا تنفع عند المعاينة! استغرب صاحبي عبارتي! - ماذا تعني عند المعاينة؟! - اسمع هذه الآيات: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر:84-85)، وقوله -سبحانه-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس:90-91)، وقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء:18)، في تفسير هذه الآيات ومثيلاتها بيان لهذه السنة الإلهية، دعني أقرأ لك ما تيسر من تفسير هذه الآيات في هاتفي، وهذا الذي جمعته بتصرف من تفاسير المنار والسعدي والتحرير والتنوير. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء:18)، وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. فيكون المعنى أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب، وأناب إلى الله وندم على ذنبه، فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه فإنه سد على نفسه باب الرحمة.
والحكمة في هذا ظاهرة؛ فالإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب، وكان اختيارا من العبد فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة؛ لأنه يشبه الإيمان الضروري، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه كما قال -تعالى-: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
ووجه عدم قبول الإيمان عند حلول عذاب الاستئصال؛ لأن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا، فإيقاع الإيمان عنده لا يحصل المقصد من إيجاب الإيمان؟ وماذا يغني إيمان قوم لم يبق فيهم إلا رمق ضعيف من حياة ؟ فإيمانهم حينئذٍ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل ، قال -تعالى في شأن فرعون-: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: 90 -91 ) ، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده.
وقال- تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} (المؤمنون)، هذا الإيمان الاضطراري ليس بإيمان حقيقة ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان لرجع إلى الكفران.
وقوله: {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} بعدما رأوا العذاب، {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ}، فهم مستثنون من العموم السابق، ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة لم تصل إلينا ولم تدركها أفهامنا، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ} ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين لو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه وأما قوم يونس، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه والله أعلم، وقال -تعالى في بيان ذلك-: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إتيانها إيمانها بعده في ذلك اليوم، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا ما عساها تكسب من خيرٍ فيه لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الإيمان والعمل الصالح، فإنه -أي التكليف- مبني على ما وهب الله المكلف من الإرادة والاختيار، بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر، وإنما الثواب والعقاب مبني على هذا التكليف.
عقب صاحبي: - نعم، هذا واضح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (صحيح الترمذي).
أي: تصل روحه حلقومه، {حتى إذا بلغت الحلقوم}، وفسر ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك (بالمعاينة)، أي رؤية ملك الموت، وقال غيره: مراده يتقن الموت لا خصوص رؤية ملك المؤت، وقالوا أيضا: هي حالة الاحتضار عموما، وإن طالت، وهل من العقل أن ينتصر العبد حتى يرى الموت ثم يتوب، الحمدلله الذي شرع لنا التوبة، وأمرنا بها ويسرها لنا، وجعلها من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد قال مبينا لأمته: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (صحيح الترمذي)، وذلك عندما نزل عليه { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ}، وفي رواية عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» (مسلم).
اعداد: د. أمير الحداد