الفرقة الناجية

الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي


أولًا: مفهوم مصطلح الفرقة الناجية
وهو مُصطلح مرادف لأهل السُّنَّة مبيِّن لمآلها ومقصودها.
فمقصود أهل السُّنَّة والجماعة: النَّجاة مِن عذاب الله ومُسبِّباته.
ومآل أهل السُّنَّة والجماعة: هو النجاة يومَ القيامة من عذاب الله ووعيده[1].

لأنها تنجو من الشرور والبدع والضلالات في الدنيا، وتنجو من النار يوم القيامة؛ وذلك لاتباعها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم [2]..

ثانيًا: الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة:
يقول عبد القادر الجيلاني (ت: 561 هـ) - رحمه الله[3]-:
"وأما الفرقة الناجية، فهي أهل السُّنَّة والجماعة"[4].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مقدمة "العقيدة الواسطية":
"أمَّا بعد، فهذا اعتقاد الفِرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السُّنَّة والجماعة"[5].

ويقول - رحمه الله - في "المنهاج":
"فإذا كان وصف الفِرقَةِ الناجية؛ أتباعِ الصحابة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وذلك شعار السُّنة والجماعة، كانت الفِرقَةُ الناجية هم أهل السُّنة والجماعة"[6].


ثالثًا: أصل إطلاق مسمى الفرقة الناجية:
والمتأمل في أصل إطلاق مسمى الفرقة الناجية على "أهل السنة والجماعة" يجد أن حديث الافتراق هو المعول عليه في الدلالة على هذه التسمية ليتميزوا بذلك عن الفرق النارية، وحديث الافتراق هو الذي أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قال: (الْجَمَاعَةُ)"[7].


وقد سئل الإمام أحمد (ت: 241هـ) - رحمه الله - عن الفرقة الناجية الواردة في حديث الافتراق، فأجاب قائلًا: "إنْ لم يكونوا أصحابَ الحديث؛ فلا أدري مَنْ هم؟"[8].


قال الحاكمالنيسابوري: (ت: 405هـ) - رحمه الله -: أحسن الإمام أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يُرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم " أصحاب الحديث "، ومَن أحق بهذا التأويل من قومٍ سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله أجمعين - "[9].

ومما ينبغي الإشارة إليه والتنبيه عليه هنا أن أهل حديث الافتراق يشمل أهل الاتباع للسنة، ويشمل كل من عمل بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدمه على كل ما سواه من آراء الرجال، وهذا يشمل عموم المسلمين، علماء وعامة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -:
"ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا واتباعه باطنًا وظاهرًا وكذلك أهل القرآن.

وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما"[10]، ولاشك أن هذه يشمل عموم أهل الاتباع.

يقول سماحة شيخنا الإمام ابن باز (ت: 1420هـ) - رحمه الله -:
"النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة) - يعني كلها هالكة إلا واحدة -، (وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)[11]، فالواحدة هم أهل السنة والجماعة، هم الصحابة وأتباعهم بإحسان، أهل التوحيد والإيمان، والثنتان والسبعون، متوعدون بالنار، فيهم الكافر وفيهم العاصي، وفيهم المبتدع. فمن مات منهم على الكفر، فله النار مخلدًا فيها، ومن مات على بدعة دون كفر، أو على معصية دون كفر، فهذا تحت مشيئة الله، هم متوعدون بالنار، وبهذا يعلم أنهم ليسوا كلهم كفارًا، بل فيهم الكافر وفيهم غيره من العصاة والمبتدعة"[12].


قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: فمن كفَّر الثنتين والسبعين فِرقة كلَّهم: فقد خالف الكتاب والسنَّة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان... وليس قوله " ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة " بأعظم من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً ﴾ [النساء: 30]، وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار".[13].


رابعًا: حقيقة الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة:
هذه الفرق لم يعينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتهد العلماء في تحديد أصولها وتعيينها، وكلٌّ تكلم حسب اجتهاده، والضابط في تحديد هذه الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، هو: أن كل فرقة خالفت أهل السنة في أصل من أصول الدين، فإنها تخرج بذلك عن أهل السنة والجماعة وتدخل في هذه الفرق.

قال الشاطبي (ت: 790هـ) - رحمه الله -:هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ "[14].

وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
" كل من اتبع الكتاب والسنة قولية أو عملية، وما أجمعت عليه الأمة ولم تستهوه الظنون الكاذبة، ولا الأهواء المضلة والتأويلات الباطلة التي تأباها اللغة العربية - التي هي لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبها نزل القرآن الكريم - وتردها أصول الشريعة الإسلامية، كل من كان كذلك فهو من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، أما من اتخذ إلهه هواه، وعارَض الكتاب والسنة الصحيحة برأيه أو رأي إمامه وقول متبوعه حميةً له وعصبية، أو تأوَّل نصوص الكتاب والسنة بما تأباه اللغة العربية، وترده أصول الشريعة الإسلامية، فشذ بذلك عن الجماعة، فهو من الفرق الثنتين والسبعين التي ذكر الرسول المعصوم محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها جميعها في النار.

إذًا فأمارة هذه الفرق التي بها تعرف: مفارقة الكتاب والسنة والإجماع بلا تأويل يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة، ويعذر به صاحبه فيما أخطأ فيه "[15].

خامسًا: أحق الناس بمسمى" الفرقة الناجية":
ونختم الكلام عن الفرقة الناجية، وعن أحق الناس بهذا المسمى بكلام نفيس لشيخ الإسلام رحمه الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: "وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية " أهل الحديث والسنة " الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعًا لها: تصديقًا وعملًا وحبًّا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يرون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنَّة أثبتوه، وما كان منها مخالفًا للكتاب والسنَّة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم "[16].
============================== =============
[1] من هم أهل السنة والجماعة؟، أبو مريم محمد الجريتلي، الألوكة، تاريخ الإضافة: 18/5/2010 ميلادي - 4/6/1431 هجري.

[2] شرح العقيدة الواسطية: الفوزان: (ص:9 ،10).

[3] قال عنه الإمام الذهبي - رحمه الله-: الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء. سير أعلام النبلاء " (20 / 439).
وقال الإمام السمعاني - رحمه الله-: كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه، صالح، ديِّن، خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة.
يُنظر: " سير أعلام النبلاء " (20 / 441).
وقال ابن كثير - رحمه الله-: وكان له سمت حسن، وصمت، غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير، له أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالًا وأفعالًا ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحًا ورِعًا، وقد صنَّف كتاب " الغُنية " و " فتوح الغيب "، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ. البداية والنهاية " (12 / 768).
اهتم بعض الدارسين ببحث عقيدة الجيلاني وسيرته، كما فعل الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني - وفقه الله - في كتابه " الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية والصوفية " وهو رسالة علمية لنيل درجة " الدكتوراه " من جامعة " أم القرى " وقد قال في خلاصة بحثه:
" أولاً: أن الشيخ عبد القادر الجيلاني سلفي العقيدة، على منهج أهل السنة والجماعة في جميع قضايا العقيدة: كمسائل الإيمان، والتوحيد، والنبوات، واليوم الآخر، كما أنه يقرر وجوب طاعة ولاة الأمور، وعدم جواز الخروج عليهم.
ثانيًا: أنه من مشايخ الصوفية في مراحلها الأولى وبمفهومها المعتدل والأقرب إلى السنَّة، والتي تعتمد في الغالب على الكتاب والسنَّة، مع التركيز على أعمال القلوب.
ثالثًا: أنه - رحمه الله - وبالنظر إلى تلقيه علوم التصوف من مشايخ يفتقرون إلى العلم المعتمد على الكتاب والسنة أمثال شيخه الدباس الذي كان أميَّاً لا يقرأ ولا يكتب، فقد وقع - رحمه الله - في بعض الشطحات ومارس بعض البدع في العبادات، ولكن هذه الهفوات مغمورة في بحر حسناته، والعصمة ليست إلا للأنبياء وغيرهم معرض للخطأ، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
رابعًا: أن معظم ما نسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني من الكرامات مبالغ فيه، وبعضها غير صحيح، وما يمكن قبوله منها: فهو إما من باب الفراسة، أو من باب الكرامات التي يقول أهل السنَّة والجماعة بجواز وقوعها بالضوابط الشرعية الموضحة في ثنايا الرسالة ". انتهى.
"الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية والصوفية " (ص 660، 661).
يُنظر: الإسلام سؤال وجواب: سؤال رقم: (143615)، تاريخ النشر: 02-12-2009م.

[4] الغنية: ص85. الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل المؤلف: عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي (المتوفى: 561 هـ) المحقق: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 2.

[5] العقيدة الواسطية مع شرح الهراس ص 14، ط. الثالثة.

[6] منهاج السنة النبوية، (3/ 457).

[7]رواه ابن ماجه، (2/ 1322)، (ح3992). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 307)، (ح3241).

[8] شرف أصحاب الحديث: (ص25).

[9]معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري: (ص: 2، 3).معرفة علوم الحديث المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ) المحقق: السيد معظم حسين الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الثانية، 1397هـ - 1977م عدد الأجزاء: 1.

[10] مجموع الفتاوى: 4 /95.

[11] الراوي:عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما -، المحدث:ابن باز، المصدر:مجموع فتاوى ابن باز، الصفحة أو الرقم: (4/ 462)، خلاصة حكم المحدث:ثابت، التخريج: لم نقف عليه مسندًا. يُنظر: الموسوعة الحديثية في الدرر السنية.
يقول الباحث:
وحديث الافتراق - عمومًا - تُكُلِمَ فيه كثيرًا من جهة ثبوته ومن عدمه، بل ومن جهة دلالته، وقيل إنه مع عظم شأنه فإن الشيخين سكتا عنه، وقيل أن سكوتهما عنه لافتقاده شروط الصحة عندهما.
وهذا الحديث مداره على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو متكلم فيه من قبل حفظه، وترجيحه إنما كان على من هو أشد منه ضعفًا.
والحقيقة أن الحديث صححه جمع غفير من أئمة الإسلام وله طرق حسان، حسنها بعض أهل العلم كالألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 307)، (ح3241).
وعمومً فإن المحققين من أهل العلم ذهبوا إلى صحته، منهم الترمذي والعراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي، وقد سئل عنه شيخ الإسلام فأجاب: الحمد لله، الحديث صحيحٌ مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، كما حكم بثبوتهسماحة شيخنا الإمام ابن باز،وكذلك غيره من أهل العلم.

[12]فتاوى نور على الدرب: (3/ 134-13).

[13] منهاج السنة: ( 5 / 249، 250).

[14] الاعتصام: (ص 712) الاعتصام المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ) تحقيق: سليم بن عيد الهلالي الناشر: دار ابن عفان، السعودية الطبعة: الأولى، 1412هـ - 1992م عدد الأجزاء: 2.

[15] فتاوى اللجنة الدائمة: (2/ 222 - 223). وينُظر: الفرق الثنتين والسبعين الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، الإسلام سؤال وجواب، سؤال رقم: (220903)، تاريخ النشر: 5-08-2014م.

[16] مجموع الفتاوى: (3 / 347، 348).