اللغة والهوية والاستعلاء الحضاري
د. مصطفى عطية جمعة
إن السؤال المهم الذي يجب طرحه، ونحن نقرأ عن الحضارات بصفة عامة: كيف نفهم الحضارات إذا تعددت أعراقها وشعوبها؟ والغاية من طرح هذا السؤال النظر إلى الخلفيات الفكرية والحضارية للغات في عالمنا اليوم.
وفي هذا الصدد يؤكد هنتنجتون أن الحضارات ليس لها حدود حاسمة، أي بلا بدايات أو نهايات محددة، ولذا، فإن تكوين الحضارات وأشكالها تتغير، وبإمكان الناس إعادة تعريف هوياتهم وفقًا لانتماءاتهم الحضارية، ومن الممكن أن يتصارعوا ثقافيًّا وعسكريًّا[1]. فالحضارة منظومة قِيَم، وأفكار وتقاليد، ومبادئ، وهوية دينية وروحية وفكرية، يمكن أن تشتمل على دول كثيرة، وهذا وقع من قبل، فالحضارة الإسلامية احتوت شعوبًا وممالك ودولاً، ضمن ما يسمى العالم الإسلامي قديمًا. ويذكر هنتنجتون أن جميع الباحثين والمؤرخين يقرون بوجود حضارة إسلامية متميزة، بدأت مع انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، في القرن السابع الميلادي.
وهوية الحضارة الإسلامية الجامعة هي الإسلام، والعربية لغتها؛ لأنها لغة التعبُّد والعِلْم والثقافة، دون إشعال حرب مع اللغات المحلية، وهو ما سهَّل انتشار العربية.
والحضارة الغربية الحديثة تشمل الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وأستراليا، وغيرها. الهوية الجامعة لها أنها حضارة غربية، علمانية التوجُّه، مع كون الديانات الغالبة على شعوبها هي النصرانية، والعِرْق الأبيض قاسم مشترك بين شعوبها. ويمكن أن تتراجع بعض دولها على الصعيد الاستعماري والتأثير الدولي، مثل بريطانيا وفرنسا، ومن قبلهما إسبانيا والبرتغال، ولكن صعدت في المقابل الولايات المتحدة. فالحضارة الغربية بها عشرات اللغات؛ بعضها محدود الانتشار والتأثير، وبعضها واسع التأثير، مثل الإنجليزية والفرنسية، ثم الإسبانية والألمانية، مع اختلافٍ في درجات انتشارها.
وهنا يكون السؤال: متى تعلو اللغة عالميًّا؟ أي متى تتسابق الشعوب لتعلُّم هذه اللغة؟ بل يتحوَّل الأمر إلى عامل نفسي، فكلما رطنت الألسنة باللغة (أو اللغات) للحضارات المتسيِّدة عالميًّا، دلَّ ذلك على علو ثقافة متكلميها، وعلو مكانتهم أيضًا، فيما يمكن أن يسمى «الاستلاب اللغوي الحضاري»، بالركض لتعلُّم لغة المستعمِر أو المستعلي حضاريًّا، ويحتقر في المقابل اللغة الأم، ويرتبط الأمر ببُعْد نفسي، بأن يشعر الإنسان بالتيه والفخر عندما يُجيد اللغة الأجنبية، ويتمثل الأثر السلبي في احتقار اللغة الأم، خاصةً في صياغة الإبداع، وكتابة الأبحاث العلمية، ونحت المصطلحات، وترفع شعارات العولمة والعالمية والكونية وما شابهها، لتبرير فعلتها.
وكما يذكر حسن العابد، فإن هناك إغراءات سيكولوجية موظَّفة في مكامن القوة هي لغة معينة؛ حيث إن كل حضارة بارزة تتَّجه لنشر قِيَمها بالطريقة التي تؤدي إلى السيطرة على إدراك المتعلم، وبالتالي العمل على تشكيل وعي اتباعي؛ يؤدي إلى خلخلة واستيعاب خصوصية المعطى التداولي عبر تشويه الفهم وتعطيل معايير الحكم بالشكل الذي يبرز حالات الاختراق والتهجين والتذويب الهوياتي، وهي الأسباب التي حوَّلت الثقافات السائدة إلى بائدة[2].
ويتصل بالاستلاب ما يُسمَّى بـ«الاستعلاء الحضاري»، أو ما يُطلَق عليه «العلموية» التي تَعني الاغترار العلمي الحضاري، ويبدو في تعصُّب الحضارة لعلومها ومفاهيمها، واحتقار كل ما عداها من حضارات أو ثقافات. وهو ما أخذه نقاد الحضارة الغربية عليها، على حد قول وائل حلاق؛ حيث رأى أن العلموية أدَّت إلى تضخم الذات الغربية، فأصبح الغربيون على اعتقاد دائم أنهم يمتلكون سلطة أغنتْهم عن كل حكيم يُعلِّمهم؛ لأنهم يرون أنفسهم الأفضل في امتلاك العلم، والمعرفة التقنية، التي مرجعها النهائي الذاتية الأوروبية، وقد ساهمت في تكوين صورة ذاتية وهمية بأنها سيدة كل الحضارات[3]. ومبدأ أوروبا في ذلك أن السيادة المطلقة هي للأمة التي تُجسِّد الدولة، وتمتلك إرادتها ومصيرها[4]؛ أي: تُعطي لنفسها كل الحق في التحكم في العالم، تَفرض لغاتها وثقافتها وجيوشها على شعوبه، وتُمْعِن في نهب الثروات وممارسة الهيمنة والتسلط.
والأمر امتد إلى الداخل الأوروبي، فتعاظمت المادية، والنزعة الفردية، وتغلَّبت نسبية القِيَم، وظهر الخلل في بنية الحضارة الغربية، وتخلخلت دعاماتها، وباتت مُهدَّدة بالانهيار، وهو ما يُشخّصه علماء الحضارة، ومنهم ألبرت أشيفتسر الذي يقول: «إن الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء، وعماد بنيتها تقليل الأعباء المفروضة على الأفراد والجماهير؛ الناشئة عن الكفاح في الوجود، وإيجاد الظروف المواتية للجميع في الحياة قدر الإمكان للعيش الكريم، ومن أجل كمال الأفراد روحيًّا وأخلاقيًّا، وهو الغاية القصوى من الحجارة»[5].
ولكنَّ أزمة الحضارة الغربية المعاصرة: افتقادها الحسّ الأخلاقي الجمعي والروحانية، وتفكُّك القِيَم؛ فقد كان الفرد يستمد العون والسند من الجماعة، واثقًا من انتصار ما هو عقلي وأخلاقي، أما الآن فإن الدولة أفلست، وتحطَّمت الجماهير معنويًّا؛ فالإنسان اليوم يسلك سبيله القائم في الظلام، يسلكه بلا حرية، ولا حشد ذهني، ولا تطور شامل، وكأنه أضاع نفسه، في جوٍّ من عدم الإنسانية، وسلَّم استقلاله الروحي، وحكمه الخُلُقي إلى مجتمع منظَّم يعيش فيه، ولم تُظهر الفلسفة الغربية فهمًا للموقف الخطير الذي وضع إنسان الغرب فيه، فلم تساعده بحكمةٍ، أو حتى تدفعه للتفكير. فأزمة الفرد أن الإنسان الحديث جعل رأيه الشخصي حكمًا أخلاقيًّا، وفق رغباته، وصار يُبرِّر ما لا معنى له، ويُسوِّغ كل ما هو قاسٍ وشريرٍ في سلوك أُمّته (مثل جرائم الاستعمار)، تحت شعار أن أعمال الجماعة (الدولة) لا تُقاس بمعايير الأخلاق، بل بمعايير الفائدة العملية[6]؛ أي المنفعة.
فينبغي إعادة الاعتبار للعوامل الفكرية والعقدية والروحية، ودورها في نشأة الحضارات، وعدم الاقتصار على طرح ول ديورانت، وغيره من فلاسفة الحضارة ذوي الرؤية المادية، التي تحصر قيام الحضارات بالعوامل الطبيعية المهيئة، وحدوث الاستقرار والأمن، فهذه جزء من كلّ.
فما يميز الحضارة الإسلامية ارتباطها بعقيدة قرآنية، واضحة المعالم، حدَّدت لكل فرد حقوقه وواجباته، ووضعت تشريعات للجماعة والمجتمع والدولة والأمة بأَسْرها[7]، فإذا ضلَّ الفرد؛ قوَّمته الجماعة. وإذا ضلت الجماعة؛ وجدت أفرادًا يُصلحون اعوجاجها؛ لأن مَعِينها رباني، لا مجال للزيغ فيه، ربما تضعف الحضارة، ولكنها لن تموت، فحتمًا ستأتي حقبة تشتد فيها، ويتعاظم دورها كما كان، والأمر لا يُقاس بعمر فرد، ولا جيل، وإنما بالقرون المتتابعة، ضمن دورة الزمن الحضاري للأمم.
والذي يعنينا في وجوه هذا الصراع هو الجانب الثقافي وعلاقته باللغة؛ لأن اللغة تحمل في طياتها أفكار شعب وآرائه، ومعتقداته، فهي أوسع ميدان للصراع الثقافي وتياراته الفكرية؛ لأن تلك الأفكار هي التي تُسيِّر التاريخ. فلا بد من دعم اللغة العربية في مواجهة أشكال الصدام الحضاري، ولن يتم هذا إلا بوضع العربية في قلب النهضة الحضارية العربية المعاصرة، وذلك على مستوى تأصيل الهوية الحضارية والفكرية، وما يتصل بها من هوية اللغة، وجهود الحفاظ عليها ودعمها.
إن شدة العلاقة بين اللغة والحضارة، يجعل من الصعوبة دراسة أيّ حضارة، دون دراسة لغتها، ويبدو ذلك في استخدامات الألفاظ ودلالة التعبيرات، واللغة العربية خير مثال على ذلك؛ إذ إن قيام الإسلام على أساس مبدأ قوامه القرآن الكريم، المُنَزَّل بلسان عربي مبين، جعلها لغةً متكاملة، ثابتة النحو والقواعد والأساليب، مما ساعد في نشرها بين كثير من الشعوب[8].
وكما يوضّح إسماعيل الفاروقي؛ فإن العربية كانت لغة الوحي المُنزَّل، الذي اندفع للإيمان به الملايينُ من غير المسلمين، فضلاً عن إيمان العرب أنفسهم الذين حملوا رايته، ممَّا شكَّل رغبةً عامةً لفهم أعمق للقرآن الكريم، وتفسير مفرداته، وبيان تشريعاته، وأَوْجُه إعجازه، فتكوَّنت حلقات العلم، المعنية بدراسة اللغة، وتأسيس قواعدها، في المساجد والأسواق، والبيوت والساحات، وأقبل العرب أنفسهم على تَعلُّم قواعد العربية المستنبطة من القرآن الكريم، ومن شواهد الشعر الجاهلي، وموثوق كلام العرب، وتضافر معهم المسلمون الجُدُد في الأقطار المفتوحة، لتتشكل حالة عامة لطلب العلم، والاعتناء باللغة العربية، جنبًا إلى جنب مع فهم القرآن، ودراسة أشعار العرب. ويشدّد الفاروقي على أن دخول غير العرب في الإسلام كان سببًا أساسيًّا في وضع علوم اللغة العربية وعلوم القرآن، وقد كان المسلمون الجدد في أيّ مدينة أو مسجد يَلتفُّون حول أي عربي يلقونه، ليتعلموا منه مباشرةً اللسان العربي، وكيفية نُطْق القرآن، وأيضًا ما حمَله من جديد علوم اللغة[9]، ومِن ثَم تحوَّلوا فيما بعد إلى علماء للغة، عطاءً وتأليفًا، وتدريسًا، وتاريخ العلم خيرُ شاهد.
فالقرآن أوجد حافزًا حضاريًّا هائلاً، جعل العربيةَ اللغةَ الأساسية الحاملة للرسالة الحضارية الإسلامية كاملة، بل وصار لها السيادة والمجد على سائر اللغات، في عصرها، وطيلة قرون ممتدة.
[1] صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي الجديد، صاموئيل هنتنجتون، ترجمة: طلعت الشايب، منشورات سطور، القاهرة، ط2، 1999م. ص71، 72.
[2] أثر العولمة في الثقافة العربية، حسن عبد الله العابد، دار النهضة العربية، بيروت، 2004م، ص77.
[3] الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقية، وائل حلاق، ترجمة: عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، ط1، أكتوبر 2014م، ص 51-56.
[4] المرجع السابق، ص67.
[5] فلسفة الحضارة، ألبرت أشيفتسر، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1960م، ص33، 34.
[6] المرجع السابق، ص31، 32.
[7] اللغة والحضارة، فريال مظهر راضي، بحث منشور في مجلة القادسية للآداب والعلوم التربوية، جامعة القادسية، العراق، العدد (1)، سنة 2019م، ص 127.
[8] اللغة والحضارة، فريال مظهر راضي، ص127.
[9] أطلس الحضارة الإسلامية، د. إسماعيل راجي الفاروقي، د. لوس لمياء الفاروقي، ترجمة: د. عبد الواحد لؤلؤة، مكتبة العبيكان للنشر، الرياض، 1818هـ، ص335، 336.