التاريخ الهجري: ثقافة وديانة
أحمد بن عبد المحسن العساف
مهما قيل عن الاجتماع الكوني، والوحدة الإنسانية، فسيبقى لكل أمة ما يميزها، وليس أدل على ذلك من اختلاف الناس في لهجاتهم، وملابسهم، ومطاعمهم، وفي جلِّ شؤونهم الحياتية، ولو تظافرت الإنس والجن على توحيد بني آدم لما استطاعوا؛ ولذهب جهدهم عبثاً وهباءاً منثوراً.
ومن عجب أن يتمسك الناس بأمر عرضي كبعض العادات والشؤون، في مقابل استعدادهم للتنازل عن ركيزة كبرى في حياة الحضارات والأمم، أو الرضى بالعبث فيها من قبل عدو أو منافس، وأكثر ما يكون ذلك ضد ثالوث ثقافة أي أمة المكون من دينها، ولغتها، وتاريخها، فإذا انهدم ضلع منها أو مال، فتوقع زوال ثقافة الأمة، او نقصها بتحريف، أو سوء تفسير.
وهذا كتاب يدافع عن الركن الثالث لثقافتنا الإسلامية، عنوانه: التأريخ الهجري: أساسه، حكمه، مكانته عند الأمة الإسلامية، العداء له، تأليف: أ.د.زيد بن عبد الكريم الزيد أستاذ الفقه المقارن، والعميد السابق للمعهد العالي للقضاء، وهو من منشورات دار إمام الدعوة، صدرت الطبعة الأولى منه عام(1427)، وعدد صفحاته(80)صفحة، ويتكون من مقدمة، وتسع مسائل، ثم خاتمة فيها خلاصة وتوصيات، فقائمة بالمراجع.
أشار المؤلف في المقدمة بأن التاريخ وثيق الصلة بالثقافة والحضارة قبل أن يكون مجرد حسابات فلكية، وأذكر بأن العلامة محمود محمد شاكر-أبو فهر رحمه الله- نوه في كتابه المهم رسالة في الطريق إلى ثقافتنا-طبع مع كتاب المتنبي، وطبع مستقلاً وحده- إلى أن لثقافة أي أمة ثلاثة أركان هي: الدين، واللغة، والتاريخ، فالتضلع بقدر كاف منها مهم لأي مثقف، والدفاع عنها دفاع عن أصل الوجود، ولا يعد مثقفاً من لا يعرف أسسها على الأقل، وليت أن كتاب أبي فهر يكون منهجاً ضمن زاد المحاضن التربوية؛ لأني أشك أن وزارات التعليم الحالية تجرؤ على اعتماده في مناهجها.
ثم دلل البروفيسور الزيد على رأيه بالربط بين بعض التواريخ والمعتقدات الدينية لأهلها، ووقف عند مزاحمة التاريخ الميلادي للتاريخ الهجري خلال حقبة الاحتلال النصراني للعالم الإسلامي؛ إبان ضعف الخلافة العثمانية التي قضى عليها أتاتورك، وأجهز على التاريخ الهجري في تركيا معها تماماً كما فعل بشعائر الدين واللغة العربية.
ونقل الباحث عن ابن تيمية قوله بأن الشرائع قبل الإسلام علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدلها الأتباع، ومنه فعل أهل الجاهلية بالنسيء، وتحدث شيخ الإسلام عن التوقيت بالأهلة في أربع عشرة صفحة اختتمها بقوله: “ولهذا ذكرنا ما ذكرنا حفظاً لهذا الدين عن إدخال المفسدين فإن هذا مما يخاف تغييره”.
ومع أهمية الموضوع وخطورته، إلا أن الكاتب لم يقف على مؤلف مستقل عنه، يبحثه من النواحي الشرعية بكفاية وتكامل، وأثنى في هذا السياق على كتاب صغير عنوانه: نظام التقويم في الإسلام، ومؤلفه موسى جار الله المعروف بابن فاطمة، وهو شيخ الإسلام في روسيا قبل الثورة البلشفية وإبانها، وكرر المؤلف الثناء على المؤلف وكتابه الذي لم ينل ما يستحقه، وعسى أن تنشط لطباعته همة أحد الناشرين. كما امتدح الكاتب ندوة أقيمت في ليبيا بعنوان: التقويم وأزمة الهوية، وعسى أن تتاح أوراقها عبر النت أو مطبوعة.
وفي المسألة الأولى بين المؤلف بأن كلمة التاريخ لم ترد في القرآن العزيز، ولا في السنة المطهرة، وإنما وردت في آثار محفوظة عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وقال بأن “التاريخ” هو جملة الأحداث، بينما “التأريخ”-بالهمز- هو تسجيلها، ويقال فلان تاريخ قومه، أي إليه ينتهي شرفهم ورياستهم.
ولا يرى المؤلف حرجاً في تبادل استخدام كلمتي التقويم، والتاريخ، وإن كان التقويم يعنى به تنظيم تفاصيل كل سنة، ويدخل ضمنه أكثر من تاريخ؛ كتقويم أم القرى، والتقويم القطري، وأما التاريخ فهو وعاء الأحداث ومستودعها، وأشاد الشيخ بما ورد في المادة الثانية من النظام الأساسي للحكم في السعودية؛ حيث نصت على أن تقويم الدولة هو التقويم الهجري، ويبدو لي أن الصياغة تعمدت ألا تشير للقمري؛ كي تستخدم الشمسي هروباً من التصريح بالتأريخ الميلادي؛ كما في الموازنة، واليوم الوطني، وبداية الدراسة، وأخيراً صرف رواتب موظفي الدولة حسب البروج التي قلما يتقنها أحد.
واستعرضت المسألة الثالثة أنواع التقاويم، وهي على نوعين طبيعية، ووضعية، فأما الطبيعية فهي التي اقتضتها حركة الأفلاك كاليوم، والشهر القمري، والسنة الشمسية، فاليوم ينشأ من دورة الأرض حول محورها، والشهر القمري ينتج عن دورة القمر حول الأرض، والسنة الشمسية تعبر عن دورة الأرض حول الشمس، وهذه الدورات ليس فيها أي تدخل بشري، وإنما تدخل البشر في الأنواع الوضعية كالأسبوع، والشهر الشمسي، والسنة القمرية.
وعليه، فجعل الشهر طبيعياً، والسنة عددية، هو سنة المسلمين كما قال ابن تيمية، واستعمال السنة القمرية مجردة أمر اختصت به أمة الإسلام من بين سائر الأمم كما قال البيروني، علماً أن التقويم الشمسي هو أوثق التقاويم صلة بأمور المعاش كالزراعة، والطقس، لأنه يحتضن الفصول الأربعة في مواعيد ثابتة، حيث أن الفصول هي أساسه وليس الشهور، وسنته طبيعية مقسمة على أربعة فصول؛ ولا بأس في استخدامه دون الاكتفاء به؛ وإنما يكون تبعاً للتقويم الهجري القمري، وفي الأمور المعاشية المرتبطة به.
وأما التقويم القمري فيقوم على الشهور وليس على الفصول، ودورته شهرية ثابتة معروفة ميسرة لكل من يستطيع الرؤية بعينه، بل ويمكن للناظر أن يعرف أي ليلة من الشهر بالنظر إلى القمر، والشهر القمري أساس لقسمة الشهور الشمسية الصناعية؛ لأن الأشهر القمرية طبيعية، بينما السنة القمرية صناعية؛ من حيث الابتداء والانتهاء، وأما تعداد الشهور فمنصوص عليه بالكتاب العزيز في سورة التوبة.
وخلاصة القول أن المقاييس الثلاثة المتدرجة، وهي اليوم، والشهر القمري، والسنة الشمسية، منشؤها الظواهر الكونية، وعلاقة الأرض بالشمس والقمر، وأما الأسبوع، والشهر الشمسي، والسنة القمرية، فهي مواضعات إصطلاحية صناعية، وفي الأزمنة المتأخرة احتاج المسلمون إلى الجمع بين التقويمين، وزحف الميلادي على التقويم الهجري، واتُخذ التقويم الشمسي الهجري مطية للتهرب من معرة هجران التقويم القمري، ومن حرج استخدام التقويم الميلادي.
وتحدث المؤلف في المسألة الرابعة عن التاريخ الميلادي، الذي عرفه الرومان قبل ميلاد المسيح عليه السلام بسبعمئة وخمسبن عاماً، وكان قمرياً مؤلفاً من عشرة أشهر، حتى أضاف له ملك روما توما الثاني (716-637 ق.م.) شهري يناير وفبراير، وأصبحت السنة مؤلفة من (355) يوماً.
وقبل الميلاد بستة وأربعين عاماً، استدعى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، المنجم والفلكي المصري سوريجين من الإسكندرية، وطلب منه وضع تأريخ حسابي يعتمد عليه، فوضع التأريخ الميلادي المستند إلى السنة الشمسية، التي تستغرق (365,2422) يوماً كي تكمل الأرض دورتها حول الشمس، ومن تلك اللحظة تحول الرومان إلى العمل بالتقويم الشمسي، وأسموه باليولياني نسبة إلى القيصر.
ولم يكن هذا التقويم دقيقاً؛ إذ يفرق (11) دقيقة بين الحساب والواقع الفعلي، وفي اليوم الرابع من شهر أكتوبر عام 1582م، ظهرت آثار تلك الدقائق المتراكمة؛ تماماً كما تظهر آثار خطأ صغير مسكوت عنه حتى يستفحل، ولذا قرر بابا النصارى( جريجوري الثالث عشر) تعديل التاريخ اليولياني، وبدلاً من أن ينتقل الناس من اليوم الرابع من أكتوبر إلى الخامس منه، طاروا متجاوزين أحد عشر يوماً ليصبحوا وقد أضحى التاريخ 15 أكتوبر 1582م، وصدر أمر بابوي بذلك في الرابع والعشرين من فبراير عام 1582م، وإلى هذا البابا ينسب التاريخ الجوريجوري، علماً أن بريطانيا لم تعمل به إلا في عام 1752م، وواجه اللورد تشستر فيلد غضباً من المواطنين الذين رجموا عربته بالحجارة طالبين منه إعادة أحد عشر يوماً أخذها من سبتمبرهم تلك السنة!
وثم ملحوظتان مهمتان، أولاهما أن الكنيسة متحكمة بالتأريخ الميلادي لدلالاته الدينية، مع خلاف الكنائس حوله وحول دقته ومطابقته لواقعة ميلاد المسيح عليه السلام، والثانية أن هذا التقويم سيحتاج قطعاً إلى تعديل آخر كي تستمر السنة الشمسية في تطابقها مع الفصول الأربعة، وينضاف إلى ذلك من باب العلم بالشيء أن الأشهر الميلادية ترمز لآلهة الرومان، ولتمجيد اثنين من قادتهم الكبار، وقد جعلوا الأشهر المسماة على الآلهة والقادة (31) يوماً، والأشهر الأخرى(30) يوماً، ويتنقل فبراير بين (28) و (29) يوماً، علماً أن (29) فبراير يتكرر كل أربع سنوات مرة واحدة؛ وبالتالي يتورط أصحاب الذكريات باحتفالاتهم الموافقة له.
وشهر مارس هو شهر إله الحرب عندهم، وربما أن الرئيس الأمريكي بوش الابن فرح بوقوع حربه ” المقدسة” على العراق عام (2003م) في هذا الشهر ليتوافق مع خرافاته الدينية، وما أكثر ارتباط الأسماء والأوقات التي يستخدمونها ضد عالمنا بمعتقدات دينية لديهم؛ بيد أنها تحتاج لخبير يتابعها ويوضحها. ومن طريف الأشهر الميلادية، أن أغسطس المنسوب للقيصر جعل (31) يوماً مع أنه الشهر الثامن، والأشهر الزوجية الميلادية (30) يوماً، وأصبح سبتمبر ناقصاً يوماً واحداً عن الأشهر الفردية، وأصيب سبتمبر بيومه كي يرضى أغسطس وتتساوى أيامه مع أيام يوليو المنسوب لقيصر آخر.
وخصص أ.د. الزيد المسألة الخامسة للتأريخ الهجري، واستدل من قول الله سبحانه: “يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج” (البقرة:189)، على أن الهلال علم نصبه الشارع لبداية الشهر ونهايته، فالشهر قمري في الملة الإسلامية، والسنة عددية ليست طبيعية، ولم تعتبر دورة الشمس فيها؛ وإنما عدتها اثنا عشر شهراً كما نصت الآية رقم(36) من سورة التوبة، وقد درجت أمة الإسلام على العمل بهذه الشهور القمرية، مع معرفة المواسم حسب بروج الشمس.
واسترجع المؤلف في المسألة السادسة نشأة التاريخ الهجري، حيث أرخت العرب بأبرز الأحداث، كبنيان البيت، وموت كعب بن لؤي، وعام الفيل، وبعد الهجرة أطلقوا على كل سنة اسماً يميزها، وفي منتصف عهد عمر بن الخطاب رضي الله، وبسبب معاملة مالية، تشاور المسلمون في مسألة التأريخ، واجمعوا على ربطه بالهجرة لأنها فرقت بين الحق والباطل، ولم يطرأ عليهم ربطه بالشمس أبداً، واستنبط الإمام السهيلي صواب فعلهم من قوله تعالى: ” لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه”(التوبة:108)، وأول يوم أضيف إلى مضمر على أنه أول يوم من أيام التأريخ الذي ينبغي أن يعمل به المسلمون.
وفي المسألة السابعة توقف الباحث عند أسباب التمسك بالتأريخ الهجري، ونبه إلى استقرار التاريخ الهجري، وأنه يعدل نفسه بنفسه خلال شهر أو شهرين على الأكثر، ولذا يمتاز التقويم الهجري بتعذر استمرار الخطأ فيه؛ وفيه ملمح جميل وكبير؛ فنحن أمة تصحح خللها بنفسها دون تدخل خارجي، كما يصحح تقويمنا الهجري نفسه بنفسه! وهو تقويم يتماشى مع يسر الدين وعالميته، فكل أحد يراه بالعين؛ فيعرفه دونما تكلف الحساب حيثما كان في البر أو البحر، فضلاً عن إحيائه مكانة الأشهر الحرم، وارتباط الأحكام الشخصية والمواسم وبعض أركان الإسلام به؛ حتى عدَّ السبكي (48) مسألة تتعلق بالهلال كمثال وليس حصراً.
ومما يتميز به التقويم القمري، دوران الأشهر على فصول السنة، فرمضان يأتي خلال الفصول الأربعة، ويصومه الناس صيفاً وشتاءً، ومثله الحج، والزكاة يعظم أجرها إذا ضبط حولها على شهر رمضان، وفوق ذلك؛ ففي التقويم الهجري عز الإسلام، وقيام دولته، وانتشار رسالته، واندحار الكفر دوله، وهذا مما يغضب أعداء الإسلام؛ ويزيدهم حنقاً وغيظاً عليه وعلى دلالته، وقد أصبح الهلال شعاراً إسلامياً من هذا الباب.
وأما نظام النسيء في الجاهلية فهو المسألة الثامنة، وكان يشق على العرب في التقويم القمري أمران هما:
تتابع الأشهر الحرم الثلاثة لأنهم أصحاب حروب وغارات يعتمدون عليها في معاشهم، ولذا أخرت البادية هذه الأشهر كي يتاح لهم الغزو والنهب؛ وهذا هو السبب الأول للنسيء.
انتقال أشهر الحج في فصول السنة، فيقع حجهم في مواسم يصعب الانتقال خلالها بسبب حرارة الجو أو اقتراب مواسم الزراعة والحصاد، ولذا أخرت الحاضرة أشهر الحج إلى وقت مناسب لسفرهم وتجارتهم.
ويتضح من النسيء أن المصالح الدنيوية كانت الدافع الرئيس لهذا العبث من أهل الجاهلية، الذي استوجبوا به الذم العظيم؛ حيث ترتب على التغيير تبديل في أحكام الله سبحانه، ولذا وصف القرآن النسيء بأنه زيادة في الكفر، ويماثل العمل بالميلادي نسيء الجاهلية بتجاوز الأشهر الحرم، وتغيير الحول الزكوي.
ووقف المؤلف في المسألة التاسعة عند العداء للتأريخ الهجري، حيث انطلقت أقلام من مرابضها، وصدرت قرارات من كهوف الساسة والمحتلين، وكلها تهدف للقضاء على التاريخ الهجري والتقويم به، ونحن نلاحظ أن المحتلين، والمستشرقين، وورثة المحتلين من الطغاة، وتلامذة المستشرقين من التغريبيين، يتشاركون-وبئست الشراكة- في عداء أمور متعلقة بثقافتنا ومكوناتها، كتحكيم الشريعة، ثم بعض الأحكام التفصيلية الخاصة بالاقتصاد والسياسة والأحوال الشخصية، مروراً بازدراء الكريمة الجميلة ابنة عدنان الفصيحة الشريفة، وانتهاء بتشويه تاريخنا، ومحاربة تقويمنا، ولن يقفوا عند حد، بل تجاوزوا الحدود إلى إهانات لرموزنا، وتفسيرات لنصوص ديننا بأهوائهم المريضة، وواجب على رجالات الأمة أن يرتقوا بوعي الناس ليصمدوا أمام هذه القواصف والعواصف؛ حتى يسلم لهم دينهم وآخرتهم.
واختتم الشيخ كتابه بتوصيات علمية وعملية، وجميل الأخذ بها وبغيرها؛ كي لا ينسى الناس التقويم الهجري القمري كما نسوا التوقيت الغروبي، واعتمدوا على التوقيت الغربي الذي يجعل من منتصف الليل صباحاً في مخالفة منطقية محسوسة؛ إذ كيف يكون سواد الليل الحالك صباحاً أبلجاً؟ وإنما هو التقليد والتبعية وذوبان الشخصية المستقلة؛ وقمين بنا الحفاظ على شخصيتنا المعنوية والمادية، فهي حصننا ومأرزنا، خاصة وقد تكالبت الأمم علينا في جميع أمورنا ومواردنا وبلادنا، والله يعجل بيقظة تنفي الخبث، وتعيد الأمور لنصابها الذي أراده الله لنا.