الوصف الجامع لأوصاف المقربين
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني






القارئ للسورة التي سماها الله تبارك وتعالى باسم الصدّيقة مريم يجد فيها تكريرًا للتذكير، وتعمُّدًا لتكرير لفظة "الذكر" على وجهٍ يلفت انتباه المتأمل، وقد تكرّر جذر "ذكر" في هذه السورة سبع مرات.

والآية الثانية في هذه السورة بدأت بقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [مريم: 2]

والمرة السابعة التي تكررت فيها العبارة جاءت على وجه الطلب التكليفي حين قال سبحانه وتعالى:
{أَوَلا يَذْكُرُ الإنسَانُ} [مريم: 67]

وبين هذين القولين كرّر قوله تعالى: {وَاذْكُرْ} خمس مرات.
والقرآن الكريم في مناسباته اللفظية لا يورد تكريرًا إلا ليلفت الانتباه إلى أمرٍ مهمّ ينبغي أن يضعه المتأمل نُصب عينيه، فاسم السورة هو اسمٌ لصِدّيقة طاهرة مقرَّبة، وكان يكرّر سبحانه وتعالى في هذه السورة أوصاف المقرّبين.

وأحببتُ في هذه الساعة المباركة أن نقف بين يدي كتاب الله تبارك وتعالى في حضرة هذه السورة الكريمة في محطّاتها التي أشرتُ إليها، لعلّنا من خلال هذا الاستقراء نصل إلى نتيجةٍ ما، فلماذا يكرّر ربّنا تبارك وتعالى لفظة "وَاذْكُرْ" وهو يخاطب أهل الإيمان من خلال سيدهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؟

إنه يأتي بأمثلةٍ ينبغي أن نضعها نُصب أعيننا، لأنه حينما يأتي بالنموذج لا يأتي به من أجل أن يكون قصة تاريخية، ولكنه ينبه في هذا النموذج إلى وصفٍ على المتأمل أن يلاحظه ويقتدي به.
وهكذا تكون المواطن التي أراد ربّنا سبحانه وتعالى أن نذكرها قبل الطلب التكليفي السابع ستة:

1- {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 2-3]:

وعندما يقول القرآن: إن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك، فإنه وبطريقة غير مباشرة يقول: اذكر ذلك، لأن الله تبارك وتعالى في عِزّه ومجده وقُدسه ذَكَر ذلك، فأحرى بكم أن تذكروا ما ذكره الله.
وكأنه سبحانه وتعالى يقول: اذكروا هذا النموذج "زكريا".
لكنه سبحانه وتعالى أظهر لنا في هذا النموذج حالَ قُربه وتملْمُله بين يدي ربّه وهو يقف في المحراب مناديًا ربّه نداءً خفيًّا، متوجهًا إلى الله تبارك وتعالى، غائبَ السرّ عن سواه، لا يطلب من غيره، ولا يلتفت إلى أحدٍ من مخلوقاته.

وكأنه سبحانه وتعالى يقول لنا:
اذكروا مناجاةَ زكريا وحالَه حينما قطع صلته بالأشياء وتوجّه إلى ربها ومليكها.

2- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 16-17]:
وفي هذا الموطن يورِد لنا نموذج الصِّدِّيقة الطاهرة المحتجبة عن الخلق، العفيفة، التي اتخذت من دون الخلق حجابًا، لأنها أرادت أن تكون نموذج الطهارة والعفة.
فالمتبذِّلة التي تعرض نفسها، وتُرخص حُسنها، وتجعله متعة للراغبين، تتنافى مع هذا الوصف الطاهر الذي يُعطي نموذج الطهارة والعفَّة للخلق (وللنساء خاصة) إلى يوم القيامة.
وكأنه سبحانه في هذا الموطن يقول: اذكروا طهارةَ هذه الصّدِّيقة ومحنتَها في طهارتها، فقد أرسل إليها سبحانه الروح الأمين في صورة بشر، فكانت محنتها في طهارتها التي تميزت بها.
فهي العفيفة العذراء التي ينفخ فيها الروح الأمين بأمر الله سبحانه وتعالى لتحمل مولودًا.

3- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41-42]:
فأورد هذا النموذج وأبرز وجهًا من وجوه صِدِّيقيّته، وهو أسبقيةُ مبدئه على الوشائج الطبيعية.
فلم تكن صلته الطبيعية بأبيه تصرفه عن مبدأ الحنيفية السمحة، إنما كان هذا النموذج مُظهِرًا أن المتوجه إلى الله تبارك وتعالى يجد في قلبه أسبقية مبدئه وأسبقية تعلقه بالله وأسبقية توحيده... على كل الوشائج وكلِّ العلائق التي يكبَّل بها الناس.

4- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 51-52]:
وفي هذا الموطن نجد استخلاص الحقّ واصطفاءه واصطناعه هذا العبدَ المقرَّب الذي قال له سبحانه: {وَاصْطَنَعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] أي: لتكون لي وحدي، فجعله يدعو إلى الله عُمرًا طويلاً بين قومٍ لا يستجيبون له، فقال له: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْننا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]
وفي هذا الموطن يطلب الحقّ تبارك وتعالى منّا أن نذكر هذا النموذج الذي أخْلصَ لله فكان مخلِصًا، ولما كان مخلِصًا ومتوجهًا إلى الله وحده صار مخلَصًا.

5- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54-55]:
إنه إسماعيل الذي قال له والده الخليل: إني أرى في المنام أني أذبحك، فأجابه: يا أبتِ افعل ما تؤمر.
لكنه بعد أن وعد أباه بالاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى لم يتردّد عند ساعة التنفيذ، فكان صادقَ الوعد، ووضع عنقه أمام السّكّين من غير تردّد ومن غير خوف، لأنه كان حاضر القلب مع الله، فوعد وصدق في وعده، فلما صار رجلاً أمر أهله بالصلاة والزكاة.

وأخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كيف امتثل إسماعيلُ عليه الصلاة والسلام أمر أبيه، حينما جاء ولم يجده ووجد له أهلاً لا يتناسبون مع وصفه، فترك له وصيةً أن يغيّر عتبة بيته، وفهم إسماعيل طلب أبيه الذي تركه له فغيّر أهله، لأنه كان يريد النموذج الذي يتناسب مع السّلالة التي سوف يخرج من ذرّيتها سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا بُني هذا البيتُ (بيتُ إسماعيل) وأسِّس على التقوى بكل عناصره.

6- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56-57]:
وهاهنا لا تجد في القرآن الكريم حديثًا عن إدريس عليه الصلاة والسلام، بل ولا تجد في السنة الصحيحة أي حديث، لأن القرآن الكريم أراد أن يقدم لنا إدريس باختصار، وجعل وصفه مستنبطًا من قوله تبارك وتعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} فإنه لما تنـزّه عن الدنيّ رفعه الله تبارك وتعالى إلى العليّ.
وها هنا يقول في هذا الموطن: اذكروا إدريس الذي تنـزّه عن الدنيّ فرفعه الله.

فهو النموذج الذي يستفيد كل ناظر إليه ترفُّعًا عن الدنيّ.
وهذه المواطن الستة، الذي ينظر إليها قبل أن يقرأ وصف القرآن لها يجدها تجتمع في: صدق التوجه إلى الله تبارك وتعالى، وقطعِ العلائق عن الأشياء، فتجد الهمّة التي تعلقت بالله، وتجد العبودية لله.

لكنه سبحانه وتعالى لم يتركنا نفتّش ها هنا وهنالك عن السرّ الذي يجمع بين هذه النماذج كلها التي أَمَرَنا أن نذكرها أمامنا وأن نضعها نصب أعيننا، لكنه سبحانه بيّنها فقال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم: 58].

وحتى لا يقول قائل: كيف قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} ومريمُ في هؤلاء الذين عَدّهم سبحانه وتعالى ولم تكن في مقام النبوة؟ قال سبحانه: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} حتى يظهر الإعجاز التعبيريّ القرآنيّ.

ثم ذكر سرّ الوصف الجامع لكل ما تقدّم من الأوصاف، وهو الذي أنتج تلك الأوصاف، فقال سبحانه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

وها هنا يأتي السؤال الذي ينبغي على كلّ واحد منّا أن يسأل نفسه إياه: أين أنا من أمر الله تبارك وتعالى؟

هؤلاء سمعوا أمر الله تبارك وتعالى فخرّوا أمام أمره سُجّدًا وبُكيًّا، فامتثلوا أمره وتحقّقوا بالعبودية له في الامتثال، وكانوا أصحاب خشية وتعظيم له.

إنهم أصحاب القلوب الفارغة من غير الله..
إنهم أصحاب القلوب التي توجّهت إلى الله وحده، فلما سمعت أمر الله امتثلت وعبّرت عن ذلك بالسجود له، وكان وصف البكاء معبّرًا عن حال القرب والتململ بين يدي أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى.

هذا هو الوصف الجامع الذي أصبحنا نفقده في عموم الأمة، حينما تحول الدين إلى شكليات، وإلى ممارسات ظاهرة، فإذا نظرت إلى القلوب ما وجدت فيها خشيةً ولا ارتعادًا ولا اهتزازًا ولا وجلاً...

زكريا الذي استغرق في المناجاة..
مريم في طهارتها..
إبراهيم في حنيفيته التي قطعته عن أبيه..
موسى الذي صبر في دعوته بين قوم يتلاعبون ويلعبون..
إسماعيل الذي وضع نفسه بين يدي ربه ليكون ذبيحًا..
إدريس الذي تنـزّه عن كلّ دنيّ..

سرّ ذلك كان الحال الذي ملأ القلوب.
فلم يكن سفسطةَ كلام، ولا جملاً تُردّد، ولا تنظيرًا... إنما كان السرُّ الجامع الذي أظهر هذه الأوصاف: الحال الذي جعلهم يخرّون بين يدي الرحمن سُجّدًا وبُكيًّا.

ويأتي الموطن السابع على شكل طلب تكليفيّ يقول فيه ربّنا تبارك وتعالى:
7- {أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]:

إنه مدعِّمٌ ليرقى الإنسان إلى ذلك الحال، فإذا كنتَ مغرورًا أيها الإنسان بما لديك أوَ ما تذكرُ أنك لم تكن شيئًا يُذكر؟
أما تذكر أيها الإنسان أنك كنت عدمًا لم يكن لك حولٌ ولا قوة ولا علم ولا فهم ولا ذكاء ولا عبقرية.. فلما رأيتَ نعمة الله عليك صرت المغرور بنعمة الله، وصرت المغترّ بما أعطاك؟
أما تتذكر أيها الإنسان أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي أعطاك كل هذه النعم التي تشغلك عنه؟
شغلتَ قلبك بالنعمة عن المنعم؟!
وتوجهت إلى المملوك ونسيت المالك؟!
ملأ قلبَك عطاؤه ونسيت المعطي؟!

فجاء الطلب التكليفي معزّزًا ومدعمًا ليقول لك: تحقق بذلك الوصف:
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نـزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
سرّ نهضتنا يكمن في حال عبوديتنا لله.

فإذا لم يرجع الحاكم إلى عبوديته. وإذا لم يرجع صاحب المال التاجر الثريّ إلى عبوديته، وإذا لم يرجع الموظف إلى عبوديته، وإذا لم يرجع الصناعي إلى عبوديته، وإذا لم يرجع الشباب إلى عبوديتهم، وإذا لم ترجع النساء إلى عبوديتهن، وإذا لم يرجع مجتمع الإسلام إلى حال العبودية... فلا أمل في الإصلاح.
مهما تحدثنا عن التغيير، فالتغيير لا يكون إلا إذا وجد هذا الوصف:
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}
وليس المقصود هذه الشكلية، إنما المقصود مضمونها الباطن.
هذا هو سرّ عودتنا إلى نجاحنا الذي شهدناه في سلفنا، فمهما قرأت من الكتب، ومهما سمعت من الخطب، ومهما فعلت وفعلت.. اُنظر في آخر الأمر إلى قلبك، فإن صلَح فسوف تجد الصلاح عامًّا فيك، وإذا كان مشغولاً بالأشياء فلن يعدو الأمر أن يكون سحابة صيف.

اللهم عمّر قلوبنا بالتوجه إليك، ولا تشغلنا بسواك، وفرّحنا يوم لقاك، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.