أحكام الإيلاء في المذهب الشافعي
فضيلة المفتي د. باسل الشاعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعيين وبعد:
فإن مباحث الإيلاء هي من المباحث المهمة التي ينبني عليها العديد من المسائل الفقهية والأحكام التي تخفى على الكثيرين، وقد رأيت قصور قانون الأحوال الشخصية الأردني في هذا الموضوع، حيث لم يتعرض القانون لموضوع الإيلاء، ولم ترد بين مواده أي مادة تتعلق به، من هنا جاء اختياري لكتابة هذه الورقات في موضوع الإيلاء، التي لخصتها واستقيتها من المذهب الشافعي، واعتمد في صياغة أكثر العبارات والتفصيلات الفقهية على كتاب " مغني المحتاج " للخطيب الشربيني، آملا في مرات قادمة أن أتمكن من بحث الموضوع من جميع جوانبه، وعند المذاهب الأخرى، والله من وراء القصد.
تعريف الإيلاء لغة واصطلاحا.
لغة: الحلف مطلقا، سواء حلف على فعل شيء أو تركه.[1]
ومنه قوله تعالى: ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى...) النور/22.
اصطلاحا: الحلف عن الامتناع من وطء الزوجة مطلقا أو أكثر من أربعة أشهر.[2]
وعرفه العلامة أبو بكر الدمياطي في " حل ألفاظ فتح المعين " بأنه: " حلف زوج يتصور وطؤه على امتناعه من وطء زوجته مطلقا أو فوق أربعة أشهر "[3].
والفرق بين التعريفين:[4]
التعريف الأول قد عرف الإيلاء بشكل عام دون تبيان لمحترزاته، في حين أن التعريف الثاني قد وضع المحترزات والضوابط وأخرج العناصر غير المقصودة في التعريف، فمثلا قوله:
(حلف): ليخرج بذلك من ترك وطء زوجته دون حلف مهما كانت المدة.
(زوج): أي حرا كان أو رقيقا، وأخرج بذلك الإيلاء من غير الزوج كالأجنبي والسيد.
(يتصور وطؤه): ليخرج بذلك المجبوب والأشل.[5]
(على امتناعه): متعلق بحلف.
(من وطء): متعلق بامتناع.
(زوجته): أي التي يتصور وطؤها، فخرجت الصغيرة والتي لا يمكن وطؤها لمرض.
(مطلقا): صفة لمصدر محذوف، أي: امتناعا مطلقا غير مقيد بمدة.
(أو فوق أربعة أشهر): معطوف على مطلقا، أي: امتناعا مقيدا بأكثر من أربعة أشهر.
وأضاف الخطيب الشربيني إلى التعريف أيضا عبارة: " يصح طلاقه " [6]، ليخرج بها أيضا الصغير والمجنون.
فتعريف الإيلاء عند الشربيني " حلف زوج يصح طلاقه.......".
والإيلاء متردد بين اليمين والطلاق، فمن الفقهاء من يُلحقه بالأيمان على اعتبار ذاته أنه حلف، ومنهم مَن يُلحقه بمشبهات الطلاق على اعتبار مآله إذا لم تتم الفيئة، وفقهاء الشافعية ألحقوه بالقسم الثاني، فنرى أن تصنيفه كان في الكتب والأبواب التي تلي النكاح والطلاق غالبا.
الأصل الشرعي للإيلاء:
ودليل الإيلاء قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أربعة أشهر فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) البقرة/226.
قال الشربيني: " وإنما عدي فيها بـ " من " وهو إنما يعدى بـ " على "؛ لأنه ضمن معنى البعد، كأنه يقول: يؤلون مبعدين أنفسهم من نسائهم " [7]
وورد الإيلاء في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة [8].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، فوقَّت الله أربعة أشهر، فإن كان أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء.[9]
وكان الإيلاء طلاقا في الجاهلية لا رجعة فيه، فغير الشارع حكمه.[10]
حكم الإيلاء
الإيلاء حرام شرعا، وهو عند جمهور العلماء لا يجوز، لأنه نوع مضارة للزوجة، ولأنه يمين على ترك واجب.[11]
أركان الإيلاء
أركان الإيلاء ستة[12]، وقد عدَّها صاحب " مغني المحتاج " أربعة، واستثنى منها ركني الصيغة والزوجة.[13]
الركن الأول: الحالف.
وشرط في الحالف أن يكون زوجا، مكلَّفًا، مختارا، يتصور منه الجماع.
فخرج بلفظ " الزوج ": السيد والأجنبي، وبلفظ " المكلَّف ": غير المكلف كالصبي والصغير، وبلفظ " المختار ": المكره، وبلفظ " يتصور منه الجماع ": المجبوب والأشل، أما العنين[14] فيصح إيلاؤه؛ لأن وطأه مرجو.[15]
الركن الثاني: المحلوف به.
والمحلوف به في الجديد من مذهب الإمام الشافعي قد يكون واحدا من ثلاثة أمور:[16]
أولا: اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.
ثانيا: تعليق على طلاق أو عتق.
ثالثا: التزام ما يلزم بالنذر كصلاة وصوم وغيرها من القربات.
أما في القديم فاشترط في الصيغة أن تكون اسما من أسماء الله تعالى أو صفة من صفات الله فقط.
الركن الثالث: المحلوف عليه ( ترك وطء شرعي )
فلا يعتد بالإيلاء بحلفه على امتناعه من تمتعه بها بغير وطء، ولا مِن وطئها في دبرها، أو في نحو حيض أو إحرام.
وخرج بذلك أيضا مَن آلى زوجته وهي رتقاء أو قرناء،[17] فلا يصـح إيلاؤه؛ لأنه لا يتصور الوطء أصلا، ولأنه لا يتحقق قصد الإيذاء والإضرار بالزوجة، لامتناع الأمر في نفسه، وكذلك الصغيرة التي لا يتمتع بها.[18]
الركن الرابع: المدة.
مدة الإيلاء فوق أربعة أشهر، والحكمة من تحديد هذه المدة كما صرح به في " المحرر ": لأن المدة شرعت لأمر جبلي، وهو قلة الصبر عن الزوج، لذلك لم يفرق بين الحر والعبد فيها.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: " وهذه المدة حق للزوج كالأجل في الدين المؤجل حق للمدين "[19]
وعليه إذا كانت الزوجة في عدة طلاق رجعي فيضرب لها أربعة أشهر من الرجعة، لأنها حق للزوج كما ذكرنا[20].
ولا يشترط للمدة حكم حاكم، بل يمهل الزوج أربعة أشهر؛ لأنها ثابتة بالنص والإجماع.[21]
ويشترط في المدة حتى يعتبر الإيلاء أحد أمرين:[22]
الأول: أن تكون المدة مُطلَقَةً، كقوله: والله لا أطؤك ويسكت، أو يقول والله لا أطؤك أبدا.
الثاني: أن تكون المدة مقيدة بأكثر من أربعة أشهر.
وبناء على ذلك يخرج اللفظ من الإيلاء إذا قيده بأربعة أشهر أو أقل، ويصبح يمينا منعقدة.
يتبع