نهاية العام


لما أتى ملكُ الموتِ نوحًا عليه الصلاة والسلام قال: يا نوح؟ يا أكبرَ الأنبياءِ ويا طويلَ العمرِ ويا مجابَ الدعوةِ، كيف رأيتَ الدنيا؟ قال: وجدتُها مثلَ رجل بني له بيتًا له بابان فدخل من واحدٍ وخرج من الآخر!

عباد الله:
لك الحمدُ والثناء والشكر والدعاء على أن أكرمتنا، وتفضلتَ علينا ببلوغِ ذروةِ هذا العام، لك الحمد أن نَسأتَ في آجالِنا حتى أوشكنا على إدراكِ العام الجديد.

يا لها من نعمةٍ عظيمة وجليلة، يوم أنّ مدَّ اللهُ في عمرِك، ونسأَ في أجلِك إلى أن أتممت هذا العامَ.

حقًا يا عبدَ الله، إنها نعمةٌ عظيمة وجليلة، تحتاج إلى شكرِ الكريمِ سبحانه، يوم أن أحياكَ وأبقاكَ فوق الأرض تمشي في مناكبِها، وتتنفسُ هواءَها، لم نكن من عِدادِ الذين قدَّر اللهُ عليهم بالموت، فلم يدركوا ما أدركتَ، فلك الحمد.

أخي الحبيب:
احمدِ اللهَ أن دخل عليك هذا العامُ وأنت ترفُل في ثوبِ العافية والصحة، وأنت في أمنٍ وأمان، بين أهلِك ومحبيك، تغدوا إلى صلاتِك، إلى مصدرِ رزقِك، إلى أي مكانٍ تريد. لا تخافُ على نفسِك أو على أهلِ بيتك أو مالِك.

أيها المسلمون: نحن اليومَ في آخرِ جمعة من عامِنا الهجري، عامٌ كامل مضى وانقضى، وذهبت أيامُه بحلوِها ومرها، وتصرَّمتْ ليالِيه بزينها وشينها، وُلد أناسٌ ومات آخرون، وشُفي مرضى وابتُلي معافون، وحدثتْ متغيراتٌ وبرزت مستجداتٌ.

ليس من السنةِ -يا عباد الله- أن نقول: اختموا هذا العامَ باستغفارٍ أو دعاء أو صلاة أو صيام أو توبة أو صدقة أو عمرة أو قيام، ولن نزعم أن صحائفَ هذا العامِ ستطوى هذه الليلةَ أو غدًا، فعملُ المؤمنِ مستمرٌ ما دامَ حيًا، وقلمُ التكليفِ جارٍ عليه ما بقيت الروحُ في الجسدِ، لكن الذي ينبغي أن نستفيدَ منه في نهايةِ عامٍ وبداية آخر، هو التفكّرُ الجاد والتأمل الصادق في سرعةِ مرور الأيام وتصرمِ الأعوام وتلاحقِ الشهور وتتابعِ الدهور، وانتقالِ الإنسان من مرحلةٍ إلى أخرى في مثلِ لمحِ البصر، فطفلُ الأمسِ قد غدا اليوم شابًا يافعًا، وشبابُ العَقد الماضي قد أصبحَ اليومَ كهلًا وقورًا، والذي كان قبلُ كهلا قد صار اليومَ شيخًا جليلا، أو طاعنًا في السن عليلًا.

عبادَ الله: إننا حينما نستقبل عاما ونستودع عاما آخر لهو حدثٌ ينبغي الوقوفُ عنده، وأن الأمرَ ليس سهلًا، وإن كان في نظرِ بعض الناس أمرا عاديا، ذلك أن هذا العامَ قد مضى من أيامِ أعمارِنا، وذهب مِن سنيِّ آجالنا، وأصبحنا إلى الموتِ أقربَ منه إلى الحياةِ، ونحن تُفرحنا الأيامُ إذا ذهبتْ لأننا نتطلع إلى الدنيا وزخرفِها، وقد مددنا الآجالَ وسوَّفنَا في الأعمالِ، حتى صرنا كما قال الأولُ:
إنّا لنفرح بالأيامِ نقطعُها ** وكل يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

إنَّ العامَ الفائتَ قد مضى وانقضى من أعمارِنا ولم يبقى منه إلا ساعاتٌ يسيرة، ولن تُفتح صحيفتُه إلا يومَ القيامة، فهل يكون مذكرًا لنا بسرعةِ زوالِ الدنيا؟

انقضت سنةٌ من أعمارنا، فما عُمل فيها مِن خير فقد دوِّن، وما عُمل فيها من شر فقد سطِّر، كل ذلك في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها سُطرت الشهور، سُطرت الأيام، سطرت كذلك الساعات بل الدقائق والثواني، نُسخت الأعمال، نُسخ الخيرُ والشر فهو في كتابٍ عند ربنا تعالى سيعرض علينا يوم الدين.

وصدق الله، ومن أصدق من اللهِ حديثا {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44].

عباد الله: من الناسِ من يفرح بانقضاءِ العام ويسعد، فالسجينُ يفرح بانسلاخِ عامه، لان ذلك مما يقرب موعدَ خروجِه وفرجه، فهو يعد اللياليَ والأيامَ على أحر من الجمرِ وقبلها كانت تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها فكأنه يقول:
أَعُدُّ اللياليَ ليلةً بعد ليلة ** وقد عشتُ دهرًا لا أعد اللياليا

وآخر يفرحُ بانقضاءِ العام، ليقبض أجرةَ مساكنَ وممتلكاتٍ أجَّرها حتى يستثمرَ ريعَها وأرباحَها.

وآخر يفرح بانقضاءِ عامِه من أجل ترقيةٍ وظيفية وزيادة راتب، وإلى غير ذلك من المقاصدِ الدنيوية البحتة، وهذه مقاصد لا ترتقي للمقصدِ الأسمى والأعلى والأرقى والأرفعِ وهو المقصدُ الأخروي، فالفرحُ بقطع الأيام والأعوام دون اعتبارٍ واتعاظ وحساب، هو من البيعِ المغبونِ الخاسر.

أخي المسلم، وأنتَ ترى زوالَ الأيام وذهابَ الأعمار ذكِّر نفسَك من وقتٍ لآخر بحقيقةِ الدنيا التي تهفو إليها النفوسُ، ذكّرها بأنّ أيامَها ماضيةً وزهرتَها ذاويةً، وزينتَها فانية، مسَرّاتِها وأفراحَها لا تدوم، وأحزانَها وأتراحَها لا تبقى، ذكِّرها بالنعيمِ المقيم الدائم الباقي الخالد في جنّات النعيم {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35].

أخي المسلم، إنّك في العامِ الجديد لا تدري ما يستجدّ لك من أحوالٍ مع تقلّباتِ الليلِ والنهارِ، فخذْ من صحّتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك، ومن غِناك لفقرِك، ومن شبابِك لهَرمِك.

ها هو العامُ الجديد قد أقبلَ، فاستثمرْ أيّامَه ولياليَه، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

فيا راقدَ الليلِ مسرورًا بأوله ** إن الحوادثَ قد يَطرقْنَ أسحارا

عباد الله؛ إن من أعظمِ الغفلةِ أن يعلمَ الإنسانُ أنه يسير في هذه الحياة إلى أجلِه وهو لا يشعر، في كل يومٍ يمضي ينقص من عمرِه، وتدنو نهايتُه، وهو مع ذلك لا يحتسب ليومِ الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يُؤمِّلُ أن يعمَّرَ عمرَ نوحٍ، وأمْرُ اللهِ يَطرق كلَّ ليلةٍ.

عبِادَ اللهِ؛ إن الحياةَ تمضي مُسرعةً، ومُعظمُ أهلُها في غفلةٍ، ناسُ يأتونَ، وأخرونَ يرحلونَ، أرحامٌ تدفعُ، وأرضٌ تبلعُ، والناسُ في غفلةٍ، لا يَستيقظونَ إلَّا عندَ معاينةِ الموتِ وسكراتهِ.

أحبتي في الله: إنَّ الحياةَ على ظهرِ هذه الدنيا، موقوتةٌ محددةٌ، وسوفَ تأتي النهايةُ حتمًا، وستأتي الساعةُ المحسومةُ لتغادر الحياةَ، ولن ينفعكَ أحدٌ، نعم سيموتُ الصالحونَ والطالحونَ، وسيموتُ القاعدونَ، وسيموتُ الابطالُ المجاهدونَ، سيموتُ أصحابُ الهممِ العاليةِ، وسيموتُ التافهونَ المفلسونَ.
أخي الحبيب: الأيامُ الخوالي من عمرِك أين كانت، ثلاثينَ أو أربعينَ أو ستين أو سبعين سنة هل تظن أن لحظةً منها ضاعت أو نُسيت أو اختلطت بغيرِها؟ لا والله، هذا لا يحدثُ أبدًا، في يومِ الجزاءِ والحساب يقف الخلائقُ على أعمالِهم كلِّها، وستفتح بين يدي من لا تخفى عليه خافية {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. في ذلك اليومِ يَقِف كلٌّ منّا على عمَلِه، إن خيرًا وإن شرًّا، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].

اللهم اجعلنَا من التوابين، واكتبنا من المتطهرين، واجعلنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

صلوا وسلموا....
______________________________ ____________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي