"المَقَامَةُ الدِّينَارِيَّة "
بقلم الأستاذ أحمد إبراهيم المحمد
كتبتُ لكم _ أيها القراء _ فيما مضى "المقامة الكروية"([1]، وأُتبعها اليوم بالمقامة الدِّينَارِيَّة ([2]، أتحدثُ فيها عن الدرهم والدينار، من خلال الرُّؤى والأفكار، والطرائف والأخبار، والأدب والأشعار، فحديث الغِنَى والإفلاس([3]، أضحى مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولقد كُتبتْ بهذا العنوان مقامتان، في غابر الأزمان، الأولى لبديع الزمان الهَمَذَاني([4])، والأخرى للحريري([5]).)))
وسأذكر لكم مَقْطَعَيْن، من كلتا المقامتين، يوضحان لنا، ما يفعله الدينارُ في عالَمِنا، وليس المقصودَ بالدينار هنا؛ النَّقْدُ المعروفُ في زماننا، بل المرادُ به المالُ عموماً، والذي يجعلُ _ بِسْحرِه _ من الأحباب خصوماً، ويفرَّق بين المرء وأخيه، وصاحبته وبنيه، ولله درُّ القائل([6]، من الفحول الأوائل
فلا أحسِبُ الخسرانَ فِقدانَ درهمٍ ولكنَّ فراقَ الخِّلِ أحْسِبُهُ خُسْرًا
فيا عجباً لأمره! كم باعد بين الأصحاب، وقطَّع أوثق الأسباب، ومزَّق أقرب الأنساب، فهو لعمْرُ الله نعمة في نقمة، ونقمة في نعمة، مَنْ جعله مطيَّة الخير أوصله إليه، ومن سخَّره في الشر كان وبالاً عليه.
هانتْ لأجله النفوس، وانحنت الرؤوس، بريقُهُ سحر، وصفرتُه خَمْر، يُسْكِر من غير شراب، ويَسبي من دون أسباب، ما أجملَه في أيدي الكرام، وما أقبحه في أيدي اللئام.
قال الهَمَذَاني _ في مقامته الدِّينَارِيَّة _ : (حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ: اتَّفَقَ لي نَذْرٌ نَذَرْتُهُ في دِينَارٍ أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلى أَشْحَذِ رَجُلٍ بِبَغْدَادَ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَدُلِلْتُ عَلى أَبِي الفَتْحَ الإِسْكَنْدَرِي ِّ، فَمضَيْتُ إِلَيْهِ لأَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ فِي رُفْقَةٍ، قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ في حَلْقَةٍ، فَقُلْتُ: يَا بَني سَاسَانَ، أَيُّكُمْ أَعْرَفُ بِسِلْعَتِه، وَأَشْحَذُ في صَنْعَتِهَ، فَأُعْطِيه هذَا الدِّينَارَ؟ فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِي ُّ: أَنَا، وَقَالَ آخَرُ مِنَ الجَمَاعَةِ: لاَ، بَلْ أَنَا. ثُمَّ تَنَاقَشَا وَتَهَارَشَا([7] حّتَّى قُلْتُ: لِيَشْتُمْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، فَمَنْ غَلَبَ سَلَبَ، وَمَنْ عَزَّ بَزَّ([8]. ))
فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِي ُّ: يَا بَرْدَ العَجُوز([9]، يَا كُرْبَةَ تَمُّوزَ.... وَقَالَ الآخَرُ: يَا قَرَّادَ([10] القُرُودِ، يَا....قَالَ عِيسَى بْنُ هِشامٍ: فَوَ اللهِ مَا عَلِمْتُ أَيَّ الرَّجُلَين أُوثِرُ؟! وَمَا مِنْهُما إِلاَّ بَدِيعُ الْكَلاَمِ، عَجِيبُ المَقَامِ، أَلَدُّ الخِصَامِ، فَتَرَكْتُهما، وَالدِّينَارُ مُشاعٌ بَيْنَهُمَا، وانْصَرَفْتُ وَمَا أَدْرِي مَا صَنَعَ الدَّهْرُ بِهِمَا)([11]. )))ِ
قال الجَرابُلْسي([12]_ في مقامته الدِّينَارِيَّة _: ولو أوْرَدتُّ ما جرى بينهما من الشتائم والسِّباب، كما ذكره صاحب الكتاب([13]، لرأيتم شيئاً من العجب العُجاب، ولله القائل([14]))
وَعَلَى الدِّينَارِ دَاروا وله حَجُوا وزَارُوا
لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّرَيَّا وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا
أما الحريري فقد رَوى في المقامة الدِّينَارِيَّة ([15]عن الحارث بن هَمّامٍ قال: نظَمَني وأخْداناً لي نادٍ. لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ... فبيْنَما نحنُ نتجاذَبُ أطْرافَ الأناشيدِ. ونَتوارَدُ طُرَفَ الأسانيدِ. إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ([16]. وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ([17]. فقال: يا أخايِرَ الذّخائِرِ، وبشائِرَ العَشائِرِ...)))
قال الجرابلسي مُلَخِّصاً([18]: فشكى لهم هذا الشخصُ ما حلَّ به من الخطوب، وما نزل به من الكروب.)
قال الحريري مُكْمِلاً: قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: ... فأبْرَزتُ ديناراً. وقُلتُ لهُ اختِباراً: إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً. فهوَ لكَ حتْماً. فانْبَرى يُنشِدُ في الحالِ. من غيرِ انتِحال([19]
أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ ... جوّابَ آفاقٍ ترامَتْ سَفرَتُهْ
مأثورَةٌ سُمعَتُهُ وشُهرَتُهْ ... قد أُودِعَتْ سِرَّ الغِنى أسِرَّتُهْ
ثم بسَط يدَهُ. بعدَما أنْشدَهُ. وقال: أنْجَزَ حُرٌ ما وعَدَ. وسَحّ خالٌ([20] إذ رَعَدَ. فنبَذْتُ الدّينارَ إليْهِ. وقلتُ: خُذْهُ غيرَ مأسوفٍ علَيْهِ. فوضَعهُ في فيهِ. وقال: بارِك اللهُمّ فيهِ! ... فجرّدْتُ ديناراً آخَرَ وقلتُ لهُ: هلْ لكَ في أنْ تذُمّهُ. ثم تضُمّهُ؟ فأنشدَ مُرتَجِلاً. وشَدا عجِلاً([21])
تبّاً لهُ من خادِعٍ مُماذِقِ ... أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنافِقِ
وحُبّهُ عندَ ذَوي الحَقائِقِ ... يدْعو الى ارتِكابِ سُخْطِ الخالِقِ
لوْلاهُ لمْ تُقْطَعْ يَمينُ سارِقِ ... ولا بدَتْ مظْلمَةٌ منْ فاسِقِ
فقلتُ له: ما أغزَرَ وبْلَكَ([22]! فقال: والشّرْطُ أمْلَكُ. فنفَحتُهُ بالدّينارِ الثّاني. وقلتُ لهُ:عوّذهُما بالمَثاني. فألْقاهُ في فمِهِ. وقرَنَهُ بتوأمِهِ.)
قال الجَرابُلْسي معلِّقاً:
إيهِ أيها الدينار ماذا أقول فيك، وأنشرُ من مساويك؟ كم بذل ناسٌ في سبيلك ماء وجوههم، ولم يسْتبْقوا ذرةً من حيائهم
نَبَذوا الوَفاءَ معَ الحَياءِ وراءَهُمْ فهُمُ بِحَيْثُ يَكونُ هذا الدِّرْهَمُ
فلمّا لقوا المنون، لم ينفعهم مال ولا بنون
وما ينفع الدينارُ والموتُ محدقٌ بروح الفتى والغائلات تحوطهُ
فإن لم تنفع القوم، في ذلك اليوم، فما أظنُّك بعدها لِمُحْتاج نافعاً، ولا لِوَضيعٍ رافعاً، وعندي العلمُ والأدبُ، لا يفوقهما التِّبْر والذهبُ
مآثرُ هنَّ المجدُ لا كسبُ درهمٍ وهنَّ المعالي لا حُلَىً وثياب
ولا أَزْعُمُ أني زاهدٌ فيك، ودَعْني بهذا الكُليمات أناجيك، أنا أريدُك، حتى لا يمنَّ عليّ عبيدُك، فبِكَ أصون عِرْضي، وأحقق غرضي، فإن أتيتَ، فأهْلَكَ وافيتَ، وإن أبَيْتَ، ذكَرْنا هذا البيت:
ولا ترهبن الفقرَ ما عِشتَ في غدٍ ... لكلِّ غدٍ رزقٌ من اللهِ واجبُ ([23])
([1]) نُشرت في العدد الماضي من مجلة النور وفي الشابكة (الإنترنت).
([2]) من الأسباب التي دفعتني لكتابة هذه المقامة ما رأيته من خلافات دائرة بين الناس كثير منها لأجل المال، ولا أقول هذه الخلافات بين الأصحاب فحسب، بل حتى بين الأزواج.
([3])إشارة إلى أخبار إفلاس كبرى البنوك العالمية.
([4])أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني،بديع الزمان، أبو الفضل، أحد أئمة الكتاب، وصاحبُ المقامات الشهيرة، المتوفى سنة (398هـ). انظر: الزركلي _الأعلام _(ج 1 / ص 115).
([5])القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد، الحريري، البصري: الأديب الكبير، له شعر حسن، توفي سنة (516 هـ). انظر: _ المرجع السابق _(ج 5 / ص 177).
([6]) أحمد بن حمد لله النجفي (ت:1211هـ).
([7]) الهِرَاش والمُهَارشة بالكلاَب: هو تَحْريش بَعْضها على بَعْض. الرازي: أبو بكر: مختار الصحاح. مادة: هرش.
([8]) هذا من أمثال العرب، ومعنى من عزَّ أي: غلب، وبَزَّ من بز ثيابه وابْتَزّه إذا سَلَبه إيَّاها. انظر: ابن الأثير _ النهاية في غريب الحديث _ مادة: بزز.
([9])برد العجوز يكون في آخر أيام الشتاء.
([10])القَّرَّاد: هو الذي يلعب بالقرد، ويطوف به في الأسواق. انظر: أبو جيب: د. سعدي _ القاموس الفقهي _ (ج 1 / ص 299).
([11]) انظر: مقامات الهمذاني (ج 1 / ص 56).
([12]) المقصود به أنا، والنسبة إلى مدينة جرابلس حيث نشأتُ، وهي واقعة على ضفة نهر الفرات عند دخوله من تركيا إلى سوريا، وذكرتُ هذا للتمييز بين مقامة الهمذاني وكلامي.
([13]) أي: الهمذاني. حيث ذكر ما دار بينهما من شتائم وألفاظ يعفُّ القلم عن ذكرها.
([14]) القائل هو محمود الوراق (ت: 220هـ).
([15])انظر: - مقامات الحريري - (ج 1 / ص 7 و 8). بتصرف يسير.
([16]) ثوبٌ بالٍ.
([17]) عَرَجٌ.
([18]) ذكر هذا الفقير حاجته في قطعة أدبية ساحرة اختصرتُها خشية الإطالة، فانظروها في مقامات الحريري.
([19]) اخترتُ من قصيدته في مدح الدينار هذين البيتين.
([20])السَّحُّ: الصَّبُّ الكثير، والخال: البرق. الزَّبيدي _ تاج العروس _ مادة: سحح و خيل.
([21]) لم أشأ ذكْرَ القصيدة التي ذمَّ فيها الدينار كلها، واكتفيتُ بما ذكرتُ من أبيات.
([22]) الوَبْل: المطر الشديد. الرازي _ مختار الصحاح _ مادة: وبل.
([23]) البيت للفضل بن عبد الرحمن المطلبي (ت: نحو 173 هـ). ولو قال: لكلِّ غدٍ رزقٌ من اللهِ نازلُ. لكان أفضل؛ إذ لا يجب على الله شيء، إلا أن يتفضل على عباده كرماً منه جلّ وعلا.