خمسة عشر سببا لإبطاء النصر
يقيننا أن النصر قادم لا محالة، وهذه المسألة لا تحتمل أية ذرة شك. فديننا سيُنصَر شئنا أم أبينا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴿171﴾إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ﴿172﴾وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿173﴾فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴿174﴾
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴿175﴾} (الصافات: 171-175)، وقال سبحانه وتعالى: {لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51)، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)} (الأنبياء: 105-107)، والآيات في هذا الباب كثيرة.
وكون الإسلام سينتصر، فهذا محل يقين لا يخامره شك، ولست أنا من يقول ذلك، بل هو وعد الله سبحانه، ومن أصدق من الله قيلا؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر» على شرط مسلم-تحذير الساجد:158.
النصر قادم لا محالة، والانتقام والبطش بالكفار حاصل في هذه الحياة الدنيا يقينا، وقد تصرخ في وجهي الآن وتقول: متى نصر الله؟؟ وأجيبك أن اصطبر، وتعال معي بهدوء لأخبرك بخمسة عشر سببا لإبطاء النصر...
أسباب إبطاء النصر
النصر قد يبطئ عن الذين ظُلِموا وأخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله؛ فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله:
1- قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، لم يتم بعد تمامها، لم تحشذْ بعد كل طاقاتها، لم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوة واستعدادات، فلو نالت النصر حينها لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا.
2- قد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طاقاتها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا لا تبذله هيّنا رخيصا في سبيل الله: {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف:110).
3- قد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها دون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثم تكِل الأمر بعد ذلك إلى الله.
4- قد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم، وتبذل، ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجَّها إلا إليه وحده في الضراء.
وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يأذن الله به، فلا تطغى، ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
5- قد يبطئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحيتها لله ولدعوته، فقد تكون الأمة تريد القتال لمغنم تريد تحقيقه، قد تقاتل الأمة حميّة لذاتها، قد تقاتل الأمة شجاعة أمام أعدائها.. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده متجردا عن المشاعر الأخرى التي تلابسه.
قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : «الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكَر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟» فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليه.
6- قد يبطئ النصر؛ لأن الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة فيه بقية من خير. يريد الله أن يجرد الشر، فيتمحض وحده شرا خالصا، فيذهب وحده هالكا لا تتلبس به ذرة خير.
7- قد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فلو غلبه المؤمنون حينئذ قد يجد أنصارا من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس أبرياء لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى ينكشف عاريا أمام الناس، فيذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
8- قد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت الأمة حينئذ للقيت معارضة من البيئة، فلا يستقر لها معها قرار، ويستمر الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر واستبقائه.
9- قد يبطئ النصر؛ لأن تلك سنة الله في الدعوات، إذ لابد من الشدائد حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة.
10- قد يبطئ النصر؛ لأنه لابد أن يجيء بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، وحين يجيء النصر لا يكون إلا من عند الله بعيدا عن الأسباب.
11- قد يبطئ النصر كيلا يكون النصر رخيصا، فتكون الدعوات هزلا؛ إذ دعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولعبا، والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدّعوها، فإذا ادّعوها عجزوا عن حملها، فطرحوها يريدون أن يتخلصوا منها.
ومن أجمل ما يحضرني في هذا المقام كلمة رائقة لشيخنا ابن باز -رحمه الله-الذي قال: «الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله».
12- قد يبطئ النصر حتى يتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصامدون الذين لا يتخلّون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.
13- قد يبطئ النصر؛ لأن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة.
14- قد يبطئ النصر؛ لأنه على أصحاب الدعوة إلى الله أن يستيقنوا أن هذه الدعوة كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضا، ومن ثمّ لا تنضمّ إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله التي تؤثر هذا الدين على الراحة والسلامة و على كل متاعات الدنيا، وإن كان عدد هؤلاء الصفوة دائما قليلا جدا.
15- قد يبطئ النصر؛ لأنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون إلى النهاية على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون ألا نصر إلا نصر الله وعندما يشاء الله.
من أجل هذا كله قد يبطئ النصر، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه من حكم.
قد يبطئ النصر، نعم.
قد تتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، وتتضاعف المغارم مع دفاع الله عن الذين آمنوا..
ولكن، النصر في النهاية للإسلام، والعزة للمؤمنين، كونوا على يقين بذلك، وإياكم أن يهتز يقينكم. إن هذا الدين محمي منصور، وسيبقى إلى أن تقوم القيامة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» متفق عليه.
اعداد: الشيخ. محمد حسين يعقوب