الأخبار المستقبلية في القرآن الكريم




تتجلى أهمية هذا البحث في كونه يجمع وبمقال واحد اغلب التنبؤات المستقبلية في القرآن الكريم.
المشرف
المستقبل وما سيجري فيه من أحداث ووقائع هو غيب ، لا يعلمه إلا الله ، وقد وردت آيات صريحة في القرآن الكريم تتحدث عن أخبار مستقبلية وتجزم بأحداث قادمة . وقد وقعت تلك الأخبار كما أخبر القرآن ، الأمر الذي يدل على مصدر هذا الكتاب الرباني ، ولقد تحققت هذه الأخبار المستقبلية في القرآن الكريم من خلال مظاهر كثيرة نذكر منها ما يلي :
الوعد الجازم بهزيمة المشركين في معركة بدر :
يقول الله سبحانه وتعالى : (( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )) القمر : 44 نزل هذا الوعد الإلهي في مكة عندما كان مشركي قريش يسرحون في اوج قدرتهم , بينما كان المسلمون مستضعفين يشكلون قله قليلة بينهم ، إلا أن الوعد كان جازماًُ بأن هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بقدرتهم وشوكتهم وجمعهم سيهزمون ويولون الأدبار .. يقولون : نحن جماعة قوية متحدة و منتصرة : (( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ )) , الا ان القرآن يعقب على ذلك مباشرة بقوله : (( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )) روى ابن حاتم بإسناده إلى عكرمة أنه قال : لما نزلت (( سيهزم الجمع ويولون الدبر )) ، قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )) فعرفت تأويلها يومئذ.
ان من المسلم له هو عدم امكان حصول التوقع والحدس بالانتصار السريع للمسلمين وكسر شوكة اعداء الاسلام في ذلك الزمان وفي تلك المعركة إذ كيف سينتصر المستضعفون الأقلون عدداً وعدة على الاكثرين المتجبرين ؟ فلقد بلغ عدد جيش المشركين في معركة بدر كما في صحيح مسلم ( 3/1384) ألف رجل وكان معهم سبعون فرساً ، والعدة الكاملة والأعداد الكثيرة من الإبل للركوب والأكل ، على حين أن جيش المؤمنين كان 316 رجلاً فقط ، وكان معهم فرسان كما تذكر كتب السير وكما جاء في مسند الامام أحمد 1 / 422
إلا ان المعركة انتهت بنصر مؤزر للحق وهزيمة منكرة للباطل وضاعت هيبة قريش وتبين للجميع أن الحق مع محمد صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه .
وفي هذا قَالَ تَعَالَى ممتناً عَلَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بعد ذلك : (( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) آل عمران / 123 أي انكم كنتم أذلة بِقِلَّةِ الْعَدَد وَالسِّلَاح إلا أن الله نصركم فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعَمه .
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى قد سمى هذه المعركة بعد ذلك بيوم الفرقان أَيْ الْيَوْم الَّذِي فَرَّق الله فِيهِ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِل وكان يذكر المؤمنين بهذا اليوم العظيم فيقول كما في سورة الانفال : " إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ "
هذا وقد نقل بعض المفسرين : ان هذه الاية وهي قوله تعالى : (( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )) قد نزلت في ميدان معركة بدر , في حين ان الـمعروف والمشهور هو نزول سورة القمر باجمعها في مكة , والظاهر ان منشأ الاشتباه هو ان النبي صلى الله عليه وسلم كرر هذه الاية في ساحة بدر , فكانت اشارة واضـحة الى تحقق الوعد الالهي في ذلك اليوم , لهذا ظن البعض ان الاية نزلت في ذلك المكان , على كل حال فهذه هي احدى التنبؤات القاطعة للقرآن التي تحققت على حين غرة في فترة قصيرة .
الوعد بمجيىء الأحزاب وانهزامهم
يقول الله سبحانه وتعالى : (( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )) الاحزاب / 22
كان الله سبحانه وتعالى قد أخبر المؤمنين بأن الاحزاب وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود وغيرهم ستجتمع عليهم لمحاربتهم وأخبرهم المولى تبارك وتعالى بأن النصر سيكون لهم مع ما سيصيبهم من بلاء وشدة ، فجاء الأحزاب كما وعد اللّه ورسوله وكانوا عشرة آلاف وحاصروا المسلمين وحاربوهم محاربة شديدة إلى مدة شهر وكان المسلمون في غاية الضيق والشدة ، حتى ان المنافقين قالوا : (( ماوَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا )) الاحزاب / 12 أي ان الوعد بالنصر كان باطلا ولن يتم أما المؤمنون فقالوا : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وأيقنوا بالجنة والنصر. كما أخبر اللّه تعالى بقوله : (( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحزاب قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا )) الاحزاب / 22
ولو لم يكن هذا الوعد من الله للمؤمنين قد صدر لأعترض المؤمنون في ذلك الوقت على هذه الآية ولاهتزت قضية الدين واتهموا الرسول بالكذب حاشاه بأبي هو وأمي .
وبالفعل تحقق الوعد ودفع الله أكبر خطر قد حاق بالمسلمين في ذلك الوقت ورد الله الذين كفروا لم ينالوا خيرا ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم إلى بيوتهم ولسانهم يلهج : (( لا إله الا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده )) فأنزل الله بعد ذلك قوله ممتناً ومذكراً : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصيرا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا )) الاحزاب / 9
الوعد الجازم بنصرة الله للرسول والتمكين له
يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم : (( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )) [ آل عمران : 12 ] . والمعنى أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من مشركي مكة واليهود وغيرهم ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد . ولقد صدق الله سبحانه وتعالى وعده فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى نصره الله سبحانه وتعالى ومكنه من هؤلاء الكفار وطهر الجزيرة العربية من اصنامهم وشركهم . فسبحان من أنزل هذه المواعيد الصادقة .
ويقول الله تبارك وتعالى لرسوله والمؤمنين في شأن أهل الكتاب : (( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) البقرة / 137
والمعنى أي فإن آمن أهل الكتاب بمثل ما آمنتم به يا معشر المؤمنين - من جميع الرسل ، وجميع الكتب وأسلموا لله وحده ولم يفرقوا بين أحد من رسل الله فقد اهتدوا ، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدوا شقاقاً وحربا لله ورسوله ، لذلك قال الله تعالى لرسوله : (( فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) وهنا نجد وعداً من الله لرسوله أنه سيكفيه من عانده وخالفه منهم وقد أنجز الله لرسوله وعده ، حيث سلطه عليهم وأجلى بعضهم ، وشردهم كل مشرد فمكنه منهم ، والحق ان الاشخاص المحيطين علما بالتاريخ الاسلامي هم القادرون على الاطلاع على عمق مفهوم هذه الايـة الـتي يستشف من ظاهرها ان أهل الكتاب المعاندين والمتعصبين الجاهليين والذين تعرضت منافعهم اللامشروعة للخطر مع ظهور الاسلام , لم يدخروا جهدا في التدبير الخفي والمعلن للكيد بالرسول والقضاء على الاسلام في بداية ظهوره .
فـي الـوقت ذاته تعطي الاية وعداً صريحا بان اللّه تعالى سوف يدفع شرورهم , ويسفه احلامهم , ويفشل مؤامراتهم , ففعل الله بهم ذلك عاجلا وأنجز وعده , فكفى نبيه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم حتى قتل بعضهم وأجلى بعضاً وأذل بعضاً وأخزاه بالجزية والصغار . وهذه من احدى النبؤات الاعجازية . فلك اللهم ربنا الحمد على هذه المواعيد الصادقة .
الوعد الجازم باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وقد جاء هذا الوعد في وقت كان المؤمنون فيه قلقين خائفين لا يبيتون إلا بالسلاح كما سيأتي ، فأنزل الله وعده العظيم لهم بقوله كما في سورة النور آية : 55 : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا )) فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. )) قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد .
وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لايبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى ؟! فنزل قوله تعالى : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الأرض"
ولقد صدق الله عز وجل وعده فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى نصره الله وأعلى كلمته وفتح عليه مكه وسائر جزيرة العرب وأخزى المشركين وشركهم ، ثم تولى الأمر من بعده الخلفاء الراشدين الأخيار ، قَالَ النَّحَّاس : فَكَانَ فِي هَذِهِ الآية دلالة عَلَى نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لأنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْد . وقوله: (( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) يراد بهم بنو اسرائيل فقد كان الرب تبارك وتعالى يهبهم الأراضي فكانوا يفتحونها بمعونته سبحانه وتعالى ، وهذا الأمر مذكور في كتبهم الحالية كما في سفر التثنية و يشوع والقضاة من العهد القديم.
يقول الله سبحانه وتعالى: (( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) [ سورة الانفال : 26 ]
الوعد الجازم للرسول بأن يعود لمكة بعد أن أخرجه قومه منها
يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم كما جاء في سورة القصص : "إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْك الْقُرْآن لَرَادّك إلَى مَعَاد ". لقد اشتملت هذه الآية الكريمة - عزيزي القارىء - على أكثر من وعد للرسول الكريم طبقاً لما نقل عن الصحابة في تفسيرهم لها ، ففيها الوعد بالآخرة حيث الجنة والمقام المحمود للرسول الكريم وفيها الوعد الإلهي بعودته صلى الله عليه وسلم إلى مكة ظافراً بعد أن أخرج منها . فقد أخرج البخاري في التفسير من صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى : (( لَرَادّك إلَى مَعَاد )) قال مكة . وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه وابن جرير وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس " لرادك إلى معاد " أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها .
ان التنبؤ بعودة النبي الى مكة بصورة صريحة وقاطعة بعد أن اخرجه قومه منها غير وارد في تلك الظروف الحرجة والعصيبة , لكننا نعلم ان هذا الوعد الالهي تحقق في النهاية , وعاد النبي مع جيشه القوي المقتدر الى مكة منتصرا بعد عدة سنين , واخضع الحرم الالهي الآمن تحت راية الاسلام بدون اي قتل وقتال , وهذه هـي احدى النبؤات الاعجازية للقرآن التي اخبر فيها عن المستقبل بصورة صريحة وقاطعة , وبـدون اي قيد او شرط , هذا في الوقت الذي لم تظهر فيها القرائن والعلائم على تحقق النصراطلاقا.
يقول الفخر الرازي في تفسيره : قال اهل التحقيق : وهذا احد مايدل على نبوته صلى الله عليه وسلم لانه اخبر عن الغيب ووقع كما اخبر .
الوعد الجازم بدخول الرسول والمسلمين إلى المسجد الحرام آمنين
يقول تبارك وتعالى في سورة الفتح آية : 27 لرسوله والمؤمنين : " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا " وكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست ووقع انجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء فلله الحمد والمنة وسبحان الله علام الغيوب .
ونلاحظ أن في الآية وعداً آخر وقد تحقق أيضاً وهو قوله تعالى : (( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا )) وهو ما تحقق للمؤمنين بفتح خَيْبَر بَعْد انْصِرَافهمْ مِنْ الْحُدَيْبِيَة .
ان هذه الآية الكريمة قد كشفت لنا الستار عن اثنين من الحوادث المهمة الاخرى المرتبطة بمستقبل المسلمين :
الحادثة الاولى : انكم ستدخلون المسجد الحرام وتقيمون هذه الشعائر الكبرى في منتهى الامن والامان في المستقبل القريب بالرغم مما يحمله المشركون من فض واعتراض على دخول المسلمين الى المسجد الحرام وادائهم لمناسك الحج والعمرة , والاخرى تبين هذه الحقيقة لهم وهي : ان النصر الحقيقي سيكون حليفكم قبل ذلك .
وقد كان السبب في نزول هذه الاية الكريمة هو ان النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رآى في منامه رؤيا تعبر عن ان المسلمين سيدخلون المسجد الحرام للزيارة ولاداء مناسك العمره .
كان البعض يتصور ان هذه الرؤيا ستتحقق مباشرة في السنة نفسها , فعندما توجه المسلمون الى مكة للزيارة واعترض طريقهم مشركوا مكة في الحديبية ( وهي القرية التي تقع مسافة 20 كيلومتر عن مـكـة واشتق اسمها من البئر اوالشجرة الموجودة فيها ) مما ادى ذلك الى التوقيع على اتفاق الصلح الـمـعـروف بـصلح الحديبية , عندئذ اخذ البعض يراوده الشك والتردد في ان لا تكون لهذه الرؤيا مـصداقية , على مستوى الواقع , حتى انهم بدؤا يسالون النبي في هذا المجال عن السبب وراء عـدم تـحقق هذه الرؤية الرحمانية ؟ فاكد لهم النبي صلى الله عليه وسلم على انه لم يقل : ان ذلك يتحقق في هذه الـسـنـة وانما قصد وقوعه في المستقبل القريب في هذه الاثناء نزلت الاية المذكورة واول ما اكدت عليه هو صدق هذه الرؤيا بقوله تعالى : (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ )) , ثم اشارت بعد ذلك الى الجزئيات وقالت : انكم ستدخلون المسجد الحرام قـريـبـا وتـؤدون مـناسك الحج بكل حرية واطمئنان , كما ان النصر سيكون حليفكم قبل اداء هذه المناسك , وتحققت هذه النبؤة وفقا لما ذكرها جميع المؤرخين , واستطاع جمع غفير من المسلمين ان يـؤدوا مـنـاسـك الـعمرة في السنة التالية لواقعة ( الحديبية ) وهي ( السنة السابعة للهجرة ) ,وسـمـيت هذه المناسك (عمرة القضاء ) لانها في الواقع قضاء للعمرة التي اراد الجميع ان يؤديها في السنة الماضية .
نخرج من كل ماقيل سابقا لهذه النتيجة : انه قد تم الاعلان بقوة وحزم في هذه الآية الكريمة عن مسألة غـيـر مـتـوقعة الحدوث حيث كان الخلاف والنزاع شديد بين المسلمين والمشركين ثم ان هذا الاعلان قد اقترن بنصر قريب للمسلمين (( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا )) , وهذا في حد ذاته بيان مضاعف فيما يرتبط بهذا التنبؤ الهام. هـناك بحث ونقاش بين المفسرين حول المقصود (( بالفتح القريب )) فذهب الكثير من المحققين على انه فتح خيبر الذي تحقق في اوائل السنة السابعة للهجرة , اي بعد واقعة الحديبية بعدة اشهر وبه قال عطاء وابن زيد ومقاتل . وهو المروي عن ابن عباس . ومن المحققين من عمم فقال ان صلح الحديبية فتح ، وفتح خيبر فتح ، وفتح مكة فتح ، وكلها من الفتح القريب. اذا يمكن الخروج بهذه النتيجة بوضوح وهي : ان مثل هذه التنبؤات الصادرة بكل جزم وجدية , لا يمكن ان تتاتى الا من خلال الارتباط بعالم الغيب .
الوعد الجازم للمهاجرين بالخير والنصرة
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى للمهاجرين بأن يبوئهم بالدنيا حسنة حيث الخير والنصرة والتمكين بعدما أهينوا وعذبوا وظلموا في مكة ، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النحل وهي سورة مكية : (( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) النحل / 41
نـزلت هذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وأبي جندل بن سهيل حيث أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم وآذوهم، فبوأهم الله تعالى بعد ذلك المدينة. ( اسباب النزول للنيسابوري )
قال الطبري حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة في قَوْله : { وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّه مِنْ بَعْد مَا ظَلَمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ } قَالَ : هَؤُلَاءِ أَصْحَاب مُحَمَّد ظَلَمَهُمْ أَهْل مَكَّة , فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارهمْ حَتَّى لَحِقَ طَوَائِف مِنْهُمْ بِالْحَبَشَةِ , ثُمَّ بَوَّأَهُمْ اللَّه الْمَدِينَة بَعْد ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَار هِجْرَة , وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فلك اللهم ربنا الحمد على هذه المواعيد الصادقة .
الوعيد الجازم بأن أبي لهب وامرأته سيموتان على الكفر
لقد تنبأ القرآن الكريم بأن أبي لهب وامرأته سيموتان على الكفر، ففي سورة المسد يقول ربنا تبارك وتعالى : (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ )) وهنا سؤال مطروح : ألم يكن يستطيع أبو لهب وهو العدو الأكبر للرسول أن يحارب الإسلام بهذه الآية ؟ . .ألم يستطيع أن يستخدمها كسلاح ضد القرآن ؟ ضد هذا الدين . . قالت له الآية . . يا أبا لهب ستموت كافراً . . ستموت مشركاً . . وستعذب في النار . . وكان يكفي أن يذهب أبو لهب إلى أي جماعة من المسلمين ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . . يقولها نفاقاً . . ويقولها رياء . . يقولها ليهدم الاسلام بها . . لا ليدخل في الاسلام . . يقولها ثم يقف وسط القوم يقول : ان محمداً قد تنبأ أنني سأموت كافراً . .وقال أن هذا الكلام مبلغ له من الله . . وأنا أعلن اسلامي لأثبت لكم أن محمداً كاذب . . ولكن ابا لهب بقي كافراً مشركاً . . مات وهو كافر . . ولم يكن التنبؤ بأن أبا لهب سيموت كافراً أمراً ممكناً . . لأن كثيراً من المشركين اهتدوا إلى الاسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب وغيرهم . .كانوا مشركين وأسلموا . . فكيف أمكن التنبؤ بأن أبا لهب لم يسلم ولو نفاقاً . . وسيموت وهو كافر . . المعجزة هنا أن القرآن قد أخبر بما سيقع من عدو وتحداه في أمر اختياري كان من الممكن أن يقوله . . ولكن الذي قال هذا القرآن يعلم أنه لن يأتي إلى عقل أبي لهب تفكير يكذب به القرآن . . هل هناك أعجاز أكثر من هذا ؟ . .
الوعيد الجازم بأن الوليد بن المغيرة سيموت على الكفر
ولقد تنبأ القرآن الكريم أيضاً بأن الوليد بن المغيرة العدو الألد للإسلام سيموت على الكفر . . حيث أنزل الله فيه : (( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - إلى قوله - سَأُصْلِيهِ سَقَرَ )) [ سورة المدثر آية : 11 _ 30 ] قال الامام القرطبي : " والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي , وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه . وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام , وكان يسمى الوحيد في قومه " وقد مات كافراً ، وتحقق ما جزم به القرآن الكريم .
ان هذا التحديد القرآني لمصائر هؤلاء المشركين لهو من الأدلة الكثيرة الواضحة على أن القرآن الكريم هو كلام الله ، فلو كان من كلام محمد فمن يدريه أنهم سيموتون كفاراً ؟ وأنهم لن يستجيبوا لدعوته ولو نفاقاً ؟ رغم دعوته المتكرره لهم . وبالفعل فقد اسلم الكثير الكثير من المشركين الا هؤلاء الذين نص القرآن على موتهم على الكفر !
لقد كان أبي سفيان عدواً خطيراً لكنه آمن في نهاية الامر , وآمن الكثير من الافراد الخطرين والمجرمين ايمانا ظاهرياً امثال ( وحشي ) قاتل حمزة ، ان هذا التنبؤ القاطع عن مصير شخص كـ ( ابو لهب ) أو زوجته ( ام جميل ) أو ( الوليد بن المغيرة ) لم يكن يتاتى من الطرق العادية , فهذه النبؤة القرآنية لاتتاتى الا من طريق الاعجاز. ان الكثير من مشركي مكة آمنوا ايمانا واقعيا , والبعض آمن ايمانا ظاهريا لكن من الذين لم يؤمنوا لا في الواقع ولا في الظاهر هو : ابو لهب وزوجته ام جميل والوليد بن المغيرة , وقد صرح القرآن بوضوح انهما لن يؤمنوا ابدا , وهذه من الاخبارالغيبية للقرآن الكريم .
الوعد الجازم بأن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى بظهور وغلبة الروم على الفرس في بضع سنين كما في سورة الروم يقول المولى تبارك وتعالى : "غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ". وفي قوله تعالى : (( وعد الله لا يخلف الله وعده )) نجد التيقن والجزم بأن الأمر سيحدث ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : اعلموا أنه لا بد من وقوعه ... فسبحان الله علام الغيوب
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه لم تحدث معركة بين الروم والفرس .. أو لو أنه حدثت معركة وهزم فيها الروم أكان بعد ذلك يصدق أي انسان القرآن أو يؤمن بالدين الجديد ... ثم إذا كان القرآن من عند محمد فما الذي يجعله يدخل في قضية غيبية كهذه .. لم يطلب منه أحد الدخول فيها .. أيضيع الدين من أجل مخاطرة لم يطلبها أحد .. ولم يتحداه فيها انسان .. ولكن القائل هو الله .. والفاعل هو الله .. ومن هنا كان الأمر الذي نزل في القرآن يقيناً سيحدث .. ومن هنا حدثت الحرب .. وانتصر الروم على الفرس كما تنبأ القرآن ..
وقد حملت الآية نفسها - أخي القارىء - نبوءة أخرى وهي ان المسلمون سيفرحون بنصر الله ولقد صدق الله وعده وفرح المسلمون وتحققت نبوءتان في وقت واحد .
الوعد الجازم بعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد أثارت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام حفائظ المشركين وحميتهم كما أثارت حقد اليهود ومكرهم. وبعد الهجرة تشابكت أيادي اليهود مع المشركين فشكلوا خطرا حقيقياً على حياة الرسول ، وكثرت المؤامرات الهادفة إلى اغتياله أو قتله ، فتكفل الله بحماية رسوله وعصمته من أعدائه ، وأعلمه بذلك في قوله تعالى : (( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )) (المائدة:67). قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت : (( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )) فأخرج رأسه من القبة وصرف الحرس عنه ، وقال : " يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عزوجل ". وفي هذا أروع الأمثال على التصديق المطلق لوعد الله سبحانه وتعالى ، والثقة الكاملة التامة بإنجازه وتحقيقه ؛ فمن يومها لم يتخذ حراسا لحمايته الشخصية صلى الله عليه وسلم ، ثقة بصدق الوعد الإلهي ، وركوناً إليه ، ولا يمكن أن يغامر أي عاقل بحياته التي تحاط من أجلها المؤامرات من كل جانب إلا إذا لم يساوره أدنى شك في صدق ذلك الوعد. وقد جاءت الحوادث محققة لوعد الله بحفظ رسوله وعصمه من الناس فلم يمت عليه الصلاة والسلام حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونزل قوله تعالى في سورة المائدة : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"
الوعد الجازم بفتح مكة
تحقق وعد الله سبحانه وتعالى بفتح مكة فيقول الله سبحانه في سورة النصر : (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا )) والمعنى : إذا جاء نصر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه " والفتح " فتح مكة ، قال الامام الزمخشري رحمه الله : ( إذا ) هو لما يستقبل ، والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة . وقال الطبري رحمه الله : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا جاءك نصر الله يا محمد على قومك من قريش , والفتح : فتح مكة وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في قوله : { إذا جاء نصر الله والفتح } حدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قول الله : { إذا جاء نصر الله والفتح } : فتح مكة. وذهب العلامة عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - رحمه الله- مذهب جمهور المفسرين، إلى أن سورة النصر نزلت قبل فتح مكة إذْ أخبر الله بفتحها قبل وقوعه. وجاء مستقبل الزمان بتحقق الفتح، كما أنبأ الله تعالى من قبل وأخبر. فسورة النصر علم من أعلام نبوة سيد المرسلين وإلهية رسالته. ولقد استدل الحافظ ابن رجب على نزول سورة النصر قبل الفتح بدلائل أهمها :
1- ظاهر النص القرآني، فقد دلت اللغة العربية على أن "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان. وعوّلَ على هذا بعض أئمة اللغة كالزمخشري في كشافه.
2- روى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لما نزلت : إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة ، قال ابن عباس : نُعْيَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنُزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : "جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن" فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن"، قال : " قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان".
أقول : إن المقصود بـ "أهل اليمن" في الحديث هم الأشعريون، فإنهم طليعة وفود اليمن، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة عند فتح خيبر، ويدلك ذلك على نزول سورة النصر قبل فتح مكة. وهو قول الجمهور، وإليه ذهب الإمام ابن رجب رحمة الله عليه.
تكشف لك الدراسة العلمية أن هذه السورة الجليلة علم ساطع من أعلام نبوة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبرهان باهر على إلهية رسالته، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن سقوط معقل الشرك في المستقبل القريب، لتقرَّ عين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتطهير مكة من دنس الشرك والوثنية، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، تباركت أسماؤه وتعالت صفاته.
قال الإمام الجليل عبد الرحمن بن رجب الحنبلي في قوله تعالى: (( إذا جاء نصر الله والفتح )) : " أما (نصر الله) : فهو معونته على الأعداء، حتى غَلَبَ صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم". وقال الإمام الألوسي في قوله تعالى : (إذا جاء) : "المراد بالمجيء الحصول".
وفي قوله تعالى (نصر الله) : "أي إعانته تعالى وإظهاره إياك (يا رسول الله) على عدوك".
وقال الإمام أبو السعود العمادي : "والتعبير عن حصول النصر والفتح بالمجيء، للإيذان بأنهما متوجهان نحوه عليه السلام، وأنهما على جناح الوصول إليه عن قريب".
وذكر القاضي البيضاوي نحو ذلك وزاد عليه قوله : "وقد قرب النصر من وقته فكنْ مترقبًا لوروده، مستعدًا لشكره". ذهب الإمام ابن رجب الحنبلي مذهب جمهور المفسرين وفيهم ابن عباس وغيره إلى أن المراد بالفتح : "هو فتح مكة بخصوصها". ثم قال : " قال ابن عباس وغيره، لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على مكة ". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال : "وكانت العرب تلَوِّم [أي تنتظر] بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامه، فلما قدم قال : جئتكم والله من عند النبي حقا.." الحديث.
وقد استدل العلامة ابن كثير بفتح مكة على نبوة سيد المرسلين وساق استدلاله تمهيدًا لحديث عمرو بن سلمة الذي أوردناه آنفًا.
وعن الحسن قال : " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ قالت الأعراب: أما إذْ ظفر بأهل مكة؛ وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل؛ فليس لكم به يدان. فدخلوا في دين الله أفواجا ".
الإخبارعن كشوف علمية ستظهر في الكون على يد المكذبين :
لقد أخبرنا القرآن الكريم بأن هناك كشوف علمية ستظهر على يد المكذبين في آفاق هذا الكون وفي النفس البشرية ومن خلال هذه الكشوف العلمية ستتجلى لهم آيات الله الباهرة ، يقول ربنا تبارك وتعالى : (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) [ فصلت : 53 ] فتحقق هذا الوعد الإلهي في الأزمنة الأخيرة وكشف العلم للمكذبين وسوف يكشف لهم الكثير من آيات الله الباهرة في الآفاق وفي الأنفس ، فسبحان الله علام الغيوب .
وختاماً فإن هذا كان بعضاً للنبوءات القرآنية التي تحققت ووقعت كما أخبر القرآن الكريم وهي من دلائل مصدره الرباني وصدق الله إذ يقول : وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
منقول