شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 24 )
باب: ما يقال بين التكبير والقراءة
اعداد الفرقان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
280- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا منْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ « وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَك أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي « وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ « وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ « ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .
وفي رواية: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى آخِره «.
الشرح :قال المنذري باب: ما يقال بين التكبير والقراءة .
الحديث رواه مسلم في صلاة المسافرين ( 1/534 – 536 ) وبوب عليه النووي ( 6/ 57 -60 ) باب :» صلاة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيه وسَلَّم ودعائه بالليل .
قوله « كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ « أي من الليل، وهو من أدعية الاستفتاح فيها. قوله « قَالَ: « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ « أي: قصدت بعبادتي « لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» فطرها: أي ابتدأ خلقها .
قوله « حَنِيفًا « معناه: مائلا إلى الدين الحق وهو الإسلام، وأصل الحنف الميل. وقال أبو عبيد: الحنيف عند العرب منْ كان على دين إبراهيم صَلَّى اللَّه عَلَيه وسَلَّم، ونصب « حنيفا « على الحال .
قوله « وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ « هو بيان للحنيف وإيضاح لمعناه، والمشرك: يطلق على كل كافر، من عابد وثن وصنم، ويهودي ونصراني ومجوسي ومرتد وزنديق وغيرهم، قاله النووي .
وفيه تفصيل: فإن لفظ الكافر مشتق من الكفر، وهو الجحود لبعض ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان وغيرها، وأما المشرك فمأخوذ من الشرك، وهو جعل شريك مع الله تعالى، وقد يطلقان بمعنى واحد، وقد يفرق بينهما، فيختص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم بالله تعالى، ككفار قريش فيكون الكفر أعم من الشرك . قوله « إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي « النسك هو العبادة، والنسيكة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، وتطلق على الذبيحة التي يتقرب بها لله تعالى .
قوله « وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي « أي: حياتي وموتي « لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ « أي: خاصة لله تعالى، أو ملكا له سبحانه، فاللام لام الإضافة .
قوله « رَبِّ الْعَالَمِينَ « الرب فيه أربعة معان: المالك والسيد والمدبر والمربي، ولا يطلق على غير الله تعالى إلا بالإضافة، فيقال: رب المال ورب الدار ونحو ذلك. والعالمون جمع عالم، وهم كل ما سوى الله تعالى، من عالم الملائكة والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات.
قيل: مشتق من العلامة فهم علامة على وجود الخالق، وقيل: من العلم فيختص بالعقلاء, قوله «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ» الملك الحقيقي لجميع المخلوقات لله سبحانه .
قوله « لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ «أي: أنا مقرٌ ومعترف بأنك مالكي وسيدي، ومدبر أمري، وحكمك نافذٌ فيّ .
قوله «ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنتَ» فيه: اعتراف بالتقصير، وقدمه على طلب المغفرة تأدبا، كما قال آدم وحواء عليها السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإنْ لم تغفرْ لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )
قوله « واهدني لأحسن الأخلاق « أي أرشدني لأحسنها وأفضلها، ووفقني للتخلق بها . قوله « واصرف عني سيئها « أي: ابعد عني قبيحها . قوله « لبيك وسعديك « لبيك من لب بالمكان لبا وألب، أي: أقام به، فمعناه: أنا مقيم على طاعتك، إقامة بعد إقامة .
« وسعديك « من المساعدة، قال الأزهري: معناه: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، ومتابعة لدينك بعد متابعة .
قوله « وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ « كقول الله تعالى ( بيدك الخير ) آل عمران: 26 .
قوله « وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ « أي: لا ينسب الشر إليك، قال الخطابي: فيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى، ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين ) فأضاف الخير إلى ربه ثم قال ( وإذا مرضت فهو يشفين ) الشعراء. فأضاف المرض إلى نفسه، مع أنه بتقدير الله.
وفالت الجن ( وأنّا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) الجن.
وقال النووي: وأما قوله « والشر ليس إليك « فمما يجب تأويله، لأن مذهب أهل الحق: أنّ كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها، وحينئذ يجب تأويله، وفيه خمسة أقوال :
- أحدها: معناه لا يتقرّب به إليك، قاله الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وابن راهويه وابن معين وابن خزيمة والأزهري وغيرهم .
- الثاني: لا يضاف إليك على انفراده، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا رب الشر ونحو هذا، وإن كان هو خالق كل شيء، ورب كل شيء، بل يدخل الشر في العموم، قاله المزني وغيره .
- الثالث: معناه الشر لا يصعد إليك، إنما يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، كما قال سبحانه .
- الرابع: معناه: والشر ليس شرا بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة للمخلوقين .
- الخامس: أنه كقولك: فلان إلى بني فلان، إذا كان عداده فيهم، أو صفوه إليهم. (انتهى مختصرا ) قوله: أنَا بِكَ وَإِلَيْكَ «أي: التجائي وانتمائي إليك، وتوفيقي بك. وهو تبرأٌ من الحول والقوة» . قوله « تَبَارَكْتَ « من البركة وهي ثبوت الخير، أو استحقاق الثناء. قوله « وَتَعَالَيْتَ» من العلو، وكل أنواع العلو ثابتة له: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر للعباد .
- قوله: وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَك أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» فهو من أذكار الركوع في صلاة الليل .
- قوله: لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ « ملء بكسر الميم ونصب الهمزة بعد اللام، ومعناه: حمدا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض لعظمته.
- قوله: « وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» فهو من أذكار السجود في صلاة الليل .
قوله « ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» يقول هذا الدعاء بعد التشهد وقبل التسليم.
- وفيه: أن المقدم والمؤخر من أسماء الله تعالى، قال الخطابي: المقدم هو المنزل للأشياء منازلها، يقدم ما شاء منها، ويؤخر ما شاء، قدم المقادير، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيدة.
ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخّر من شاء عن مراتبهم وثبطهم عنها .
وأخر الشيء عن حين توقعه، لعلمه بما في عواقبه من الحكمة .
لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم .
قال: والجمع بين هذين الاسمين أحسن من التفرقة. ( الأسماء للبيهقي ص 86).