قال العلامة القاضي ابو الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله في كتابه الشفاء:
[‏حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ‏]‏، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ‏. ‏ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ‏. ‏ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ»‏. ‏ قَالُوا‏:‏ لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ‏.‏

قَالَ أَئِمَّتُنَا‏ :‏ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ وَاجِبَةٌ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ سُلَيْمَانُ الْبُسْتِيُّ ‏:‏ النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَحْصُرُهَا‏.‏ وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ الْإِخْلَاصُ، مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ نَصَحْتُ الْعَسَلَ، إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنْ شَمْعِهِ‏.‏
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْخَفَّافُ ‏:‏ النُّصْحُ فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ، وَالْمُلَاءَمَة ُ، مَأْخُوذٌ مِنَ النِّصَاحِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ الثَّوْبُ‏.‏
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ نَحْوَهُ‏.‏

فَنَصِيحَةُ اللَّهِ تَعَالَى صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ لَهُ بِالْوَحْدَانِي َّةِ، وَوَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ، وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي عِبَادَتِهِ‏.‏

وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ، وَتَحْسِينُ تِلَاوَتِهِ، وَالتَّخَشُّعُ عِنْدَهُ، وَالتَّعْظِيمُ لَهُ، وَتَفَهُّمُهُ، وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْغَالِينَ، وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ .‏

وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ، وَبِذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ وَمُؤَازَرَتُهُ ، وَنُصْرَتُهُ، وَحِمَايَتُهُ حَيًّا، وَمَيِّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ، وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَنَشْرِهَا، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَآدَابِهِ الْجَمِيلَةِ‏.
وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ التُّجِيبِيُّ ‏:‏ نَصِيحَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالِاعْتِصَامُ بِسُنَّتِهِ، وَنَشَرِهَا، وَالْحَضُّ عَلَيْهَا، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ، وَإِلَيْهَا، وَإِلَى الْعَمَلِ بِهَا‏.‏
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ‏:‏ مِنْ مَفْرُوضَاتِ الْقُلُوبِ اعْتِقَادُ النَّصِيحَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ ، وَغَيْرُهُ‏:‏ النُّصْحُ لَهُ يَقْتَضِي نُصْحَيْنِ‏:‏ نُصْحًا فِي حَيَاتِهِ، وَنُصْحًا بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَفِي حَيَاتِهِ نُصْحُ أَصْحَابِهِ لَهُ بِالنَّصْرِ، وَالْمُحَامَاةِ عَنْهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، وَبَذْلِ النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ دُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏ :‏ 23‏]‏ الْآيَةَ‏.‏
وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَنْصُرُو َ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 8‏]‏ الْآيَةَ‏.‏

وَأَمَّا نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَالْتِزَامُ التَّوْقِيرِ، وَالْإِجْلَالِ، وَشِدَّةُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْمُثَابَرَة ُ عَلَى تَعَلُّمِ سُنَّتِهِ، وَالتَّفَقُّهُ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَمُجَانَبَةُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ، وَانْحَرَفَ عَنْهَا، وَبُغْضُهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَالْبَحْثُ عَنْ تَعَرُّفِ أَخْلَاقِهِ، وَسِيَرِهِ، وَآدَابِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ‏.‏
فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ تَكُونُ النَّصِيحَةُ إِحْدَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا كَمَا قَدَّمْنَا‏.‏

وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ أَحَدَ مُلُوكِ خُرَاسَانَ وَمَشَاهِيرِ الثُّوَّارِ الْمَعْرُوفَ بِالصَّفَّارِ رُئِيَ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ غَفَرَ لِي، فَقِيلَ‏:‏ بِمَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ صَعِدْتُ ذُرْوَةَ جَبَلٍ يَوْمًا فَأَشْرَفْتُ عَلَى جُنُودِي، فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ، فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَنْتُهُ، وَنَصَرْتُهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لِي ذَلِكَ، وَغَفَرَ لِي‏.‏

وَأَمَّا النُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَتُهُمْ فِي الْحَقِّ، وَمَعُونَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ، وَكُتِمَ عَنْهُمْ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَتَضْرِيبِ النَّاسِ، وَإِفْسَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَالنُّصْحُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ :‏ إِرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ، وَمَعُونَتُهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَتَنْبِيهُ غَافِلِهِمْ، وَتَبْصِيرُ جَاهِلِهِمْ، وَرَفْدُ مُحْتَاجِهِمْ، وَسَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَدَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَجَلْبُ الْمَنَافِعِ إِلَيْهِمْ‏.‏