تاريخ ما بعد الراشدين والتحليل النقدي


أ. د. عبدالحليم عويس






تاريخ ما بعد الراشدين والتحليل النقدي





لقد عالج كثيرون - مسلمين وغير مسلمين - تاريخَنا بمنهجٍ غير علمي، وقد جاء تقويمهم جانحًا؛ يميل إلى الإفراط أو التفريط، وقد غلبت على بعضهم نزعاتٌ مذهبية جعلتهم يحلِّلون النُّظم والدول والوقائع وَفْقًا لرؤية مسبقة، وقلما ينجحون في كَشْف حُجُب التاريخ، ورَصْد الوقائع رصدًا موضوعيًّا.
لكنَّ مثقفي الأمة وجمهور مؤرِّخيها استطاعوا - بمنهج النقد المستفيد من منهج علم الحديث إلى حدٍّ كبير - رَصْدَ الخلْفية المذهبية لهؤلاء، ومن ثم تحليل كتاباتهم التاريخية، وتقويمها تقويمًا علميًّا.
وفي هذا السياق رصَد المنهج التاريخي الإسلامي تلك المصادرَ التي يتحرك مؤلِّفوها بخَلْفية مذهبية مسبقة، تَحُول دون تحقيق القدر المقبول من الموضوعية، ولم يترك تاريخنا دون تحليل نقدي كما يزعم أركون وتلامذته!
وبدءًا من تدوين السيرة، كان ثمة تقويم خضع له رجال التدوين الأوَّلون، بعيدًا عن التعصب والهوى.
فقد قيل عن شرحبيل بن سعد (ت 123هـ): إنه يميل إلى العبَّاسيين لأسباب مصلحية.
وقيل عن وهب بن منبه (ت 114هـ): إنه شَغُوف بالطرائف التي أوقعتْه في الإسرائيليات.
وقيل عن الواقدي (207هـ): إن له ميولاً لآل البيت.
وقيل عن أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي (157هـ): إنه يميل لآل البيت ولقبيلة الأَزْد[1].
أما كاتب السيرة الكبير الموضوعي ابن إسحاق (ت 151هـ)، فقد هاجمه المحدِّثون؛ لأن الفروق بين منهجي الحديث والتاريخ لم تكنْ وضحت، وكان المحدِّثون - جزاهم الله خيرًا - يريدون أن تكون درجةُ روايات التاريخ في مستوى درجة روايات الحديث، وأن يخضع المؤرِّخ لشروط المحدِّث؛ ولهذا فإن وقائعها تحاكم إلى ما ورد في القرآن والسنة الشريفة، لكن المراحل التالية يصعب أن تخضع لمنهج الجرح والتعديل الذي خضع له رجال الحديث، وإن كان هذا مطلبًا كريمًا يجب أن يعمل المؤرخون على تحقيقه!
ولئن كان هذا الجيل من التابعين وتابعي التابعين قد تعرضت رواياته لبعض النقد، فقد اتجه النقدُ إلى المؤرِّخين الذين جاؤوا بعدهم من باب أَولى.
فقد ذكر المؤرِّخون أن المسعودي (ت 345هـ) كان ذا ميول لآل البيت، دفعته إلى التحيز ضد الأمويين، ومع ذلك تمتَّع بقدر من الاعتدال والموضوعية عندما تحدَّث عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وعن عبدالملك بن مروان، وغيرهما من رجال بني أمية!
وكان اليعقوبي يمضي في الطريق نفسه، بل كان واضحَ التحيُّز لآل البيت!
أما أبو الفرج الأصفهاني (356هـ) صاحب "الأغاني"، فقد كان أجيرًا لبني بويه (الشيعة)، وقد كتب لهم "الأغاني" بُغْيةَ الأجر والمكافأة، وقد عَرَف ما يرضيهم؛ فأدان الأُمَويين، وبعض العباسيين، وبعض آل البيت من أجلهم، وبالغ في ذلك حتى ينسى الناس أصله الأموي!
بينما كان ابن حوقل (ت 367هـ) صاحب "صورة الأرض"، جاسوسًا للفاطميين، يحرِّضهم ضد الأندلس، ويسبُّ الأندلسيين والأُمَويين في الأندلس من أجلهم.
وكان المؤرخ المغربي عبدالواحد المراكشي (ت 630هـ تقريبًا) صاحب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" - يعمل موظفًا لدى الموحِّدين، وقد كتب كتابه: "المعجب" من أجلهم، وليس لنا أن نتوقَّعَ منه إنصافًا للمرابطين، الذين قضى الموحِّدون عليهم بطريقةٍ دموية آثمة!
والأمثلة كثيرة لا نريد أن نستطرد في ذكرها، من أجل تأكيد حقيقة ثابتة، وهي أن المؤرخ المسلم الذي يضرب بجذوره في أرض "علوم السنَّة"، والذي تشكَّل أساسًا على منهج إيمانيٍّ نقدي إبداعي باحثٍ عن الحق المجرد، لم يكن مؤرخًا تقليديًّا نمطيًّا استسلاميًّا سكونيًّا، كما يحاول خصوم الحضارة الإسلامية أن يصوِّروه!
وما كان العقل النقدي المسلم - لو كان عقلاً سكونيًّا تقليديًّا - قادرًا على إفراز عمالقة في علم نقد الرجال، وفي نقد المتن (المضمون) يُعَدون بالآلاف في حضارتنا، وعلى رأسهم أئمة الحديث المعروفون، وعلى رأسهم البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي، وابن ماجه، وعدد كبير من الفقهاء، وعلى رأسهم أئمة المذاهب الثلاثة عشر[2] الذين انتشر من بينهم فقهُ أقطاب المذاهب الأربعة: أبو حنيفة (ت150هـ)، ومالك (ت 179هـ)، والشافعي (ت204هـ)، وابن حنبل (ت 241هـ)، ثم الظاهرية بقيادة داود الظاهري، وأبي محمد علي بن حزم (ت 456هـ)، ثم الإمام (أحمد بن عبدالحليم بن تيمية) (ت 728هـ)، والمؤرخ الاجتماعي الكبير/ عبدالرحمن بن خلدون (808هـ)، الذي يعده المؤرخون الأوروبيون المنصفون أولَ مَن وضع نظرية في علمية (علم التاريخ) وفي قوانين (تفسير التاريخ)!
وعبر تاريخنا الممتد في الزمان أربعة عشر قرنًا، والممتد في المكان إلى مساحة كبيرة من أكبر قارات الأرض، والتي شملت - في قرون كثيرة - دولاً تقترب من نصف العالم، وتسيطر على العالم المتحضر ما يقرب من عشرة قرون.
عبر هذا التاريخ، ظهر آلاف من المشتغلين بعلوم النقد المنهجي، بدراسة علوم الحديث، وفروع السيرة والتاريخ، وبرَصْد الجوانب الإصلاحية والحضارية.
وكان هؤلاء جميعًا يتعاملون في الإطار البشري، بمعنى أنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكل إنسانٍ غيرِهِ يؤخَذُ مِن قوله ويُترَك، والمهم أن يكون النقد منهجيًّا قائمًا على أصول علمية، ولا يكون مجرد دعاوى أو افتراءات واختلافات، وقد وضعوا كتبًا في أدب الاختلاف وأدب الحوار، وفي منهج الوصول إلى الحق من خلال النقد والتمحيص القائم على قواعدَ صحيحة، والهادف إلى الحق، وقد انطلقوا في ذلك من القاعدة النبوية الكريمة التي تعلِّمُهم أن المجتهدَ الذي تتوافر فيه مؤهلات الاجتهاد، والذي يلتزم منهج الحق مُثابٌ، سواء أصاب في اجتهاده أو أخطأ، وحتى يبذل المجتهد أكبر جهد في الوصول إلى الصواب؛ أعطى المجتهدَ المصيب أجرين، وأعطى المجتهدَ المخطئ أجرًا واحدًا!
وفي حضارتنا العلمية كانت الأحكام الإجمالية مرفوضة؛ فالعقل المسلم درج منهجه في علوم الحديث وأصول الفقه والتفسير واللغة والبلاغة على تفكيك القضايا وتحليلها، ومن ثم إعادة تركيبها.
وقد بالغ العقل المسلم في التحليل (التفكيك عند أركون) لدرجة جعلت بعض المستشرقين - والمستشرق جب[3] على رأسهم - يتهمون العقلَ المسلم بأنه عقل "ذري" (أي: جزئي غير قادر على التركيب والتقنين الكلي)!
وعندما كان المسلمون يمرون ببعض محطات التخلف، كانت تظهر فيهم - مثل غيرهم - بعضُ مظاهر التخلف التي يرصدها خصومهم، ويزيد بعضهم برؤية مضادة وظالمة، أن يجعل من هذه المظاهر سمة عصورهم كلها، وبالتالي سمة دينهم وحضارتهم!
وإن أمة تملِك علوم الجرح والتعديل، وعلوم النقد التاريخي قبل أن تعرفها البشرية، وتسبق العقلَ الحديث في التعرف على تفسير التاريخ، وعلوم العمران والحضارة - هذه الأمة لا تحتاج إلى من يلفتون نظرها - من خصومها - إلى ضرورة نقد أصولها، إنهم لا يريدون نقدًا؛ وإنما يريدون هدمًا.




[1] محمد ياسين مظهر الصديقي: قضايا كتابة التاريخ الإسلامي وحلولها، نشر الجامعة السلفية بنارس - الهند - جمادى الآخرة (1409هـ)، انظر: محمد السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص: 481، طبع دار طيبة بالرياض، الأولى (1406هـ)، وكل المسلمين يحبون آل البيت، لكن المراد بالميل هنا: الاقتراب مِن ظُلم مَن اختلفوا مع آل البيت، وليس مجرد تخطئتهم.
[2] من المذاهب الفقهية التي انتشرت: الظاهرية، ومذهب الأوزاعي، وسفيان الثَّوري، والليث بن سعد، ويحيى بن عيينة، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب.. وغيرهم، بالإضافة إلى أصحاب المذاهب الأربعة.
[3] انظر: كتابه: "وجهة الإسلام"، لكن (جب) تجاهَلَ في هذا الاتهام أمرين:
أولهما: أن الذرية التي لا تعود إلى التركيب من سمات كل عصور التخلف، وليست خاصة بجنس دون جنس.
وثانيهما: أن المسلمين أفرزوا مناهج علمية واكتشافات وقوانين وكليات وعلومًا ونظريات رائعة نظرية وتطبيقية في عصور ازدهارهم.