مدارس حلب الشهباء - المدارس في الإسلام




هذا جزء من مقالة واسعة للعلامة الطباخ ـ رحمه الله تعالى ـ بعنوان: المدارس في الإسلام، وهي من جملة مقالاته المتناثرة التي قام بجمعها المشرف على هذا الموقع ونقدم للقراء الكرام بداية مقالته ثم حديثه بعد ذلك عن مدارس حلب الشهباء وما آلت إليه لنعطي صورة من صور التاريخ المجيد في تلك المدينة التليدة.
المدارس في الإسلام

بقلم المؤرخ الأستاذ محمد راغب الطباخ
كان الصحابة رضي الله عنهم، يتلقون العلم عن النبي ^، في مسجده وبيته وعند مرافقتهم له في الغزوات وغير ذلك، وعلى هذا نسج التابعون في تلقيهم عنهم وكذا تابعوا التابعين تجد ذلك مصرحاً به في الحديث النبوي وفي كثير من تراجم الصحابة والتابعين.
ظل الحال على هذا، حتى آخر القرن الرابع وأول الخامس، فبني لتلقي العلوم دور خاصَّة على شكل خاص، دعيت بالمدارس.
أول بلدة بنيت فيها المدارس
وأول بلدة بنيت فيها المدارس هي :«نيسابور» قال ابن خلكان في ترجمة أبي إسحق إبراهيم بن محمد الإسفرايني الفقيه الشافعي، وبنيت له المدرسة المشهورة بنيسابور وكانت وفاته سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
وفي الخطط للمقريزي ج4ص192: والمدارس مما حدث في الإسلام ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها المدرسة البيهقية ([1]). وبنى بها أيضاً الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة ([2])،
وبنى بها أخوه السلطان محمود بن سبكتين مدرسة، وبنى بها أيضاً المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضاً مدرسة رابعة.
المدرسة النظامية:
وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد، لأنها أول مدرسة قرر بها للفقهاء معاليم وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي وزير ملك شاه بن الب ارسلان السلجوقي في مدينة بغداد، وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الفيروز أبادي، صاحب كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي t، فاقتدى الناس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر ، وفي بلاد الجزيرة وديار بكر.
ثم قال بعد حديثه عن المدرسة المستنصرية في بغداد ودور العلم في مصر والمدرسة الناصرية فيها ثم المدارس في دمشق:
المدارس في حلب
أول مدرسة بنيت فيها
قال ابن الأثير في حوادث سنة 517: في هذه السنة بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي، وفي «الدر المنتخب» المنسوب لابن الشحنة نقلاً عن ابن شداد في الكلام على المدارس.
المدرسة الزجاجية
أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب،وهي أول مدرسة بنيت بها ابتدأ في عمارتها في سنة عشرة وخمسمائة، وعلى حائطها مكتوب سنة سبعة عشر، ولما أراد بناءها لم يمكنه الحلبيون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع.
قال ابن الشحنة: أخبرني شيخي أبو الوفا «هو الحافظ الكبير المشهور بالبرهان الحلبي المتوفى سنة 841»، غير مرة: أن أهل حلب كانوا كلهم سنية وكلهم حنفية حتى قدم شخص إلى حلب فصار فيهم شيعية، وصار فيهم شافعية، فقلت: يا سيدي من هو؟ قال: الشريف أبو إبراهيم الممدوح«ممدوح أبي العلاء المعري» قال: فكان كلما بنى فيها شيئاً نهاراً أخربوه ليلاً إلى أن أعياه ذلك فحضر الشريف زهرة بن علي بن أبي إبراهيم الإسحاقي الحسيني، وهو الشريف أبو إبراهيم الذي أشار شيخنا عنه والتمس منه أن يباشر بناءها ليكف العامَّة عن هدم ما بني فباشر الشريف البناء ملازماً له حتى فرغ منها، وكان هذا الشريف من أكابر الأشراف وذوي الرأي والأصالة والوجاهة مقدماً في بلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه، وكان معظَّم القدر عند الملوك، ولما توجه عماد الدين زنكي إلى الموصل في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة أخذه معه فمات بالموصل.
وقال في «الزبد والضرب»: وفي سنة ست عشرة وخمسمائة ولى بدر الدولة سليمان الوزارة بحلب أبا الرجاء سعد الله بن هبة الله وجدد (والصواب: أنشأ أو كمل) المدرسة التي بالزجاجيين بحلب المعروفة ببني العجمي بإشارة أبي طالب بن العجمي، وذكر لي أنه عزم على أن يقفها على الفرق الأربع قال ابن الشحنة وهذه المدرسة هي الآن خراب دائرة قد عمر بها دور للسكن اهـ.
وفي تاريخي «إعلام النبلاء» ج4ص250، في ترجمة أبي طالب شرف الدين عبد الرحمن بن العجمي الحلبي المتوفى سنة 561، فصل منقول عن «كنوز الذهب» لأبي ذر يفيد أن المدرسة من بناء ابن العجمي هذا وقلت ثمة: والذي يغلب على الظن أنهما اشتركا في بنائها، ولذا كان ينسب بناؤها لسليمان تارة ولابن العجمي تارة، وإليك ما ذكره أبو ذكر عنها قال:
«سميت باسم السوق الذي هي فيه، وكان هناك معمل للزجاج، ولما حفر أساس الفرن الموجود الآن تجاه الحمام وجدوا آثار المعمل المذكور ،وهذه المدرسة أول مدرسة بنيت بحلب، وكانت قديماً تدعى بالشرفية باسم بانيها شرف الدين أبي طالب ابن العجمي، وترجمته مذكورة مع أقاربه وكذا أخبرني شيخنا ابن الضياء بذلك، ورأيت في تاريخ ابن خلكان أنها من بناء الربيع سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب، ورأيت في كلام الصاحب ابن العديم في «زبدة الحلب»: وجدد بدر الدولة المدرسة التي بالزجاجين بحلب المعروفة ببني العجمي بإشارة ابن العجمي، وذكر لي أنه عزم أن يقفها على الفرق الأربع انتهى.
وبدر الدولة هو سليمان المذكور، ووجدت في تاريخ الإسلام للذهبي، ما يشهد أنها من بناء عبد الرحمن بن العجمي المتقدم ذكره لأنه قال في ترجمته: وبنى بحلب مدرسة مليحة ووقف عليها وفي كلام ابن السبكي في ترجمته أيضاً وبنى بحلب مدرسة تعرف به.
وبعد أن ساق العلامة أبو ذر في «كنوز الذهب» من درس بها من العلماء بما يطول ذكره قال: وهذه المدرسة عظيمة كبيرة، ولها إيوان من أعاجيب الدنيا، ولها قبلية عجيبة وشمالية ، وأرضها مفروشة بالرخام الأبيض والأسود، ولها أعمدة أخذ تغري برمش كافل حلب من أعمدتها بدلالة ابن الحصوني مباشرة فجعلها أحجاراً للمكحلة التي عملها ليرمي بها على القلعة فلم ينجح بسبب ذلك، وفي طرازها مكتوب بالكوفي: كملت عمارتها في سنة سبع عشرة وخمسمائة.
ثم قال: ووقف صاحب الزجاجية عليها قرية كارس وكانت الجمعة تقام بهذه القرية.
ولم تزل هذه المدرسة قائمة الشعار عامرة إلى محنة تمر فانهدم غالبها، وبقي أبوابها وسيأتي في الحوادث متى خرب وقد غير أساسها الأمير علاء الدين علي بن الشيباني.
ثم قال: والمدرسة الآن خراب والضيعة عامرة، وقال في الكلام على درب الزجاجين: وبهذا الدرب حمام يعرف الآن بالزجاجين وبه مسجد غربي المدرسة أمر بعمارته العادل أبو بكر محمد بن أيوب بتولي أحمد بن عبد الله الشافعي في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
أقول: هذا المسجد لم يزل موجوداً إلى يومنا هذا وبابه مؤلف من ثلاثة أحجار سود كبار كتب على أعلاها:
1ـ البسملة أمر بعمارته مولانا الملك العادل سيف الدنيا والدين.
2ـ ركن الإسلام أبو بكر محمد بن أيوب خليل أمير المؤمنين.
3ـ أدام الله أيامه بتولي الفقير أحمد بن عبد الله القصري الشافعي في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وشرقي هذا المسجد خان كبير يعرف الآن بخان الطاف، ويقال له أيضاً: خان الشيباني نسبة إلى المتقدم ذكره، ويظهر أنه اشتراه بعد ذلك أحمد مطاف باشا أو كمل بناءه ووقفه فنُسب إليه، وأحمد مطاف باشا مدفون في تربة خاصَّة شرقي باب الخان يأتي إليها قراء القرآن في كل يوم إلى يومنا هذا ومعظمهم من العميان والمتولي على هذا الخان وبقية وقف أحمد مطاف باشا آل الغنام.
وكان شرقي هذه التربة دار للحديث والحمام التي قدمنا ذكرها، وكانت قد تخربت فبيعتا أواخر القرن الماضي واتخذتا كنيسة عظيمة دعيت كنيسة مار فرنسيس للآباء الفرنسيين، وذلك سنة 1867م 1295هـ وتعرف بين الناس بكنيسة الشيباني نسبة للمتقدم ذكره، ومنذ ثلاث سنين 1361 بيعت هذه الكنيسة لبعض الأهلين، وعمر بائعوها كنيسة غيرها قرب السبيل غربي حلب، والذي اشتراها خربها وباع أنقاضها ولم يبق منها الآن إلا جدارها الشرقي والشمالي والباقي عرصة كبيرة وبيعت لشركة الدخان وستبنيها مستودعا لها على ما ذكر .
سلمت مما سبق أن هذه المدرسة تعرف بالزجاجية، وذلك الدرب يعرف بالزجاجين. وأن معمل الزجاج كان هناك وقد أفردت مقالة مسهبة لصناعة الزجاج الحلبي الذي اشتهر في الآفاق نشرت في مجلة «الزهراء» المصرية في السنة الرابعة ص405 سنة 1346هـ.
والحوانيت الشمالية من هذا الدرب (الزقاق) اتخذت على ما يظهر من نحو 300 سنة خانات ودير، ومنذ أربع أو خمس سنين أخرج من هذه الخانات والدير حوانيت اتخذت للخياطة والحلاقة وغير ذلك فعاد سوقاً إلى ما كان عليه في القديم.
تتابع بناء المدارس بعد الزجاجية
وبعد مدة يسيرة تتابع بناء المدارس في حلب، وذلك على أثر استيلاء السلطان نور الدين الشهيد على حلب، وذلك في سنة 541 وبنى فيها عدة مدارس والمارستان الكبير الذي في محلة الجلوم وبابه لم يزل باقياً من ذلك العهد، وبنى الربط واقتفى أثره نوَّابه في بناء المدارس والخانقاهات، ونكتفي هنا بذكر المدارس التي بناها هو ونوابه والجميع مبسوط في تاريخنا «إعلام النبلاء».
وإلى تتمة الحديث عن مدارس حلب في الحلقة القادمة بعون الله تعالى .


([1]) نسبة إلى الحافظ أبي بكر احمد بن الحسين البيهقي كانت وفاته سنة 454 ويظهر أنها المدرسة التي بينت لأبي إسحاق الاسفرايين ونسبت بعده للبيهقي لاستقراره في تدريسها بعده سنة 441.


([2]) له ذكر في ترجمة أخيه السلطان محمود بن سبكتين في تاريخ ابن خلكان ولم أقف بعد على تاريخ وفاته وأخوه السلطان محمود كانت وفاته سنة 421أو 422.