يا ليتني كنت معهم... !
كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الطاعة للمسلم كالماء والهواء، وهو دومًا حريص على طاعة مولاه، وإذا حُرِم منها وحيل بينه وبينها صار كالسمك إذا أُخرج من الماء، أو كمن يَصَّعَّدُ في السماء؛ تضيق نفسه، ويتألم قلبه، وتدمع عينه، وهذه دلائل الحب الصادق والإيمان الراسخ؛ خلافًا لأهل النفاق والمعاصي يتألمون من العبادات ويستثقلونها، ويتمنون سرعة انقضائها -عياذًا بالله من حالهم-، ودليل ذلك من كتاب الله ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما من الكتاب: فقوله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:91)، فمع أن الشرع قد عذرهم، لكنهم تولوا وأعينهم تفيض من الدمع، وقلوبهم تتقطع حسرة وألمًا على فوات الطاعة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءته عصابة من أصحابه فقالوا يا رسول الله: احملنا، فقال لهم: والله لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدوا نفقة ولا محملاً، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنزل عذرهم في كتابه" (تفسير ابن كثير).
وأما الدليل من السنة: فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا كَانُوا مَعَكُمْ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ) (رواه البخاري). وفي رواية: (إِلا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ) (رواه مسلم).
فهؤلاء عزموا على الجهاد، ولكن حال بينهم وبينه مرض أو فقر؛ فلم يفرحوا بتخلفهم وعدم خروجهم، بل حزنوا وتألموا، فكان أن اشتركوا مع المجاهدين في الأجر والثواب.
ومثل ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) (رواه مسلم).
فهل إذا حيل بيننا وبين الحج لسبب أو لآخر قامت القلوب بواجبها من الشوق والحنين إلى أداء هذه الفريضة العظيمة فنال العبد مثل أجر فاعليها؟!
هل يبلغ حبنا لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولشعيرة الحج مثل ما بلغ حب هؤلاء الأصحاب فنتألم ونحزن لفواتها؟!
هل كانت منا عزيمة على الحج، ونية وقصد حتى إذا لم يتيسر السبيل ولم تكن استطاعة؛ تولينا وأعيننا تفيض من الدمع حزنًا ألا نكون مع الحجيج؟!
من ذا الذي يبيت باكيًا حزنًا على تخلفه عن الحج هذا العام؟!
من الذي يتقلب على فراشه متألمًا على أنه لن يكون من أهل عرفات العام؟!
من ذا الذي يشارك الحجيج بقلبه في مناسكهم وتنقلهم وسائر أحوالهم وإن كان هنا في بلده؟!
من ذا الذي يشاركهم الثواب العظيم والأجر الكبير الذي رتبه الشرع على عبادة الحج؟!
من ذا الذي يتوقف مع ما ورد من فضل هذه العبادة الجليلة يتجول بقلبه في ظلالها تشويقًا له وتحفيزًا؛ ليحقق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِلا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ)؟!
هذا ولا يتسع مقالي لاستيعاب ذلك كله، لكنها إشارات سريعة، وأمنيات حبيسة أبثها لتنطلق القلوب اشتياقًا ليكون لنا مع الحجيج اشتراك في الأجر، فأقول:
يا ليتني كنتُ معهم... فمن حج البيت الحرام ولم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه.
يا ليتني كنت معهم... فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
يا ليتني كنت معهم... فالحج يهدم ما كان قبله من الذنوب.
يا ليتني كنت معهم... فالحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد.
يا ليتني كنت معهم... فالمتابعة بين الحج والعمرة تنفي الفقر والذنوب.
يا ليتني كنت معهم... فالحج المبرور أحسن الجهاد وأجمله.
يا ليتني كنت معهم... فالحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم.
يا ليتني كنت معهم... فإن الحاج إذا خرج من بيته يؤم البيت الحرام لم يرفع قدمًا إلا كُتب له بها حسنة، ولم يضع الأخرى إلا حُط عنه بها خطيئة.
يا ليتني كنت معهم... فمن أحرم وبات على إحرامه غربت الشمس بذنوبه.
يا ليتني كنت معهم... فمن لبى بُشِّر بالجنة، ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو مدر أو شجر.
يا ليتني كنت معهم... فأكحل عيني بالنظر إلى بيت الله -"الكعبة"-.
يا ليتني كنت معهم... فأمسح حجرًا من الجنة -الحجر الأسود-، والركن اليماني؛ فإن مسحهما يحط الخطايا، وليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق.
يا ليتني كنت معهم... فأطوف بالبيت، فمن طاف به أسبوعًا -سبعة أِشواط- ثم صلى ركعتين كان له كعدل رقبة، ولم يرفع قدمًا ويضع أخرى إلا كُتب له عشر حسنات، وحُط عنه عشر سيئات، ورُفع له عشر درجات.
يا ليتني كنت معهم... فصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه.
يا ليتني كنت معهم... فأشرب من زمزم الماء المبارك؛ خير ماء على وجه الأرض، شفاء سقم وطعام طعم، وهو لما شرب له.
يا ليتني كننت معهم... فالسعي بين الصفا والمروة كعتق سبعين رقبة.
يا ليتني معهم... فلمن حلق رأسه ثلاث دعوات بالمغفرة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وله بكل شعرة حسنة، وتكون له نورًا يوم القيامة.
يا ليتني كنت معهم... فكنت ممن يباهي الله بهم الملائكة في عرفات وأُعتقتُ فيمن عتق، فهو أكثر يوم يعتق الله فيه العباد من النار.
يا ليتني كنت معهم... فغُفِر لي مع أهل عرفة، وكنتُ ممن قال الله عنهم للملائكة: عبادي جاءوني شعثًا من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له!
والله يتفضل على أهل عرفات فيهب المسيء للمحسن، ويعطي المحسن ما سأل!
يا ليتني كنت معهم... فعندما يرمون الجمرات لهم بكل حصاة تكفير كبيرة من الموبقات.
يا ليتني كنت معهم... فمِن أحب الأعمال إلى الله في يوم النحر إراقة -إسالة- الدماء، وهي مذخورة للعبد عند الله.
يا ليتني كنت معهم... فكنت في أفضل أيام الدنيا بأفضل بقاع الأرض، وأحبها إلى الله وإلى رسوله -صلى لله عليه وسلم-.
يا ليتني كنت معهم... فأقمت بمنى ففيها مسجد الخيف صلى فيه سبعون نبيًا، وذكرتُ الله في الأيام المعلومات.
يا ليتني كنت معهم... فعندما يطوفون طواف الوداع يخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
يا ليتني كنت معهم... فكَمُل إسلامي بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام.
يا ليتني كنت معهم... فأفوز فوزًا عظيمًا.
فهل نكون معهم إخواني بقلوبنا... بأشواقنا... بهممنا وعزمنا؟!
هل إذا تعطلت عبودية الجوارح أعملنا عبودية القلوب؟! أيرضي أحدنا أن يُحرم من العمل والأجر كذلك؟!
أين الاعتناء بالقلوب؟!
كم من واصل ببدنه إلى البيت وقلبه منقطع عن رب البيت؟!
وكم من قاعد على فراشه لعذر، وقلبه متصل بالمحل الأعلى؟!
شأنه وحاله كمن قال:
جـسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن
والقائل:
يا سائـرين إلى البيت العـتيـق لقد سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحًا
إنا أقـمـنـا عـلى عـذر وقـد رحـلوا ومـن أقـام عـلى عـذر كـمن راحـا
إخواني... لئن كنا قد حبسنا عن الحج، وحيل بيننا وبينه؛ فعندنا جهاد آخر هو أيضًا من أفضل الجهاد، وهو جهاد النفس والهوى.
لئن أحصرنا عن أداء النسك؛ فلنذرف على تخلفنا من الدموع ما تيسر، ولا نحلق ديننا بالذنوب فإن الذنوب حالقة الدين، وليست حالقة للشعر.
ولنقم لله في مقام الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء المشعر والخيف، ومن كان قد بَعُد عن حَرَم الله فلا يبعدن نفسه بالذنوب عن رحمة الله.
ومن عجز عن حج البيت وكان البيت منه بعيد؛ فليقصد رب البيت فهو ممن دعاه أقربُ من حبل الوريد.
من فاته القيام بعرفه؛ فليقم بحق الله الذي عرفهُ.
من عجز عن المبيت بمزدلفة؛ فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه.
ومن لم يقدر على نحر هديه بمِنى؛ فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى.
إن لم نصل إلى ديارهم؛ فلنصل انكسارنا بانكسارهم.
إن لم نقدر على عرفات؛ فلنستدرك ما فات.
إن لم نصل إلى الحجر؛ فليكن منا كل قلب حجر.
إن لم نقدر على ليلة جمع ومنى؛ فلنقم بمأتم الأسف هاهنا.
أين المُنيب المُجد الصادق... ؟! هذا يوم يُرحم فيه الصادق.
فيا همم العارفين... بغير الله لا تقنعي.
ويا عزائم الناسكين... لجمع أنساك السالكين اجمعي، ولحب مولاك أفردي، وبين خوفه ورجائه اقرني، وبذكره تمتعي.
يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروة المروة اسعي وأسرعي، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي، فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح ولا تمنعي، لقد وضح الطريق... ولكن قلَّ السالك على التحقيق، وكثر المدعي.
نعم، قلَّ السالك، وكثر المدعي...
فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.