الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر


وليد عبدالحي



كتاب “الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر”، للمؤلف عيساني بلقاسم، الصادر عن منشورات الاختلاف ومنشورات الضفاف عام 2022 في كل من الجزائر ولبنان، هو دراسة تنتمي الى ميدان الترجمة، لكنها لا تقوم على ترجمة نص ما، بل هي تسعى الى وضع قواعد منهجية ضابطة لعملية الترجمة، وهي أقرب لمحاولة وضع “نظرية” للترجمة.

في دراسته “الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر”، حاول المؤلف الطواف حول ميادين شتى كالأدب الجاد والأدب الساخر ، والفلسفة، والشعر، والنصوص الدينية المقدسة ، مؤكدا على اشتراطات الترجمة شكلا ومضمونا، ومحاولا عرض مزايا وهنات أشكال الترجمة المختلفة من ترجمة حرفية(كلمة بكلمة) أو الترجمة السياقية (مراعاة سياق النص الاجتماعي والتاريخي عند الترجمة) ومحاولة التمييز بين المعنى الظاهر للنص والمعنى الباطن أو الكامن بين سطوره لا سيما في نطاق الأدب الذي كثيرا ما تصدرته الأبعاد النفسية التي نستشعرها في النص لكنها لا تعلن عن نفسها فيه، ولعل الأسطورة مثال على ذلك.
وعند الانتقال للتفاعل الترجمي نجد الكاتب يثير المناقشة حول أدوار وحدود الكاتب للنص، والمترجم له، والقارئ ثم النص ذاته، وتزداد الأمور تعقيدا في بعض الحالات مثل إذا كانت الترجمة عبر وسيط لغوي (مثل رواية انجليزية تمت ترجمتها للفرنسية ثم تمت الترجمة من الفرنسية إلى العربية)، كما يعالج خبرات ترجمية معينة مثل أن يترجم المؤلف نصه إلى لغة ثانية، وهنا لا بد من قواعد تراعي مثل هذه الحالات الخاصة في الترجمة.
ومع أن الكاتب تناول في دراسته عن”الفكر الترجمي” موضوع الترجمة للنصوص الدينية المقدسة، إلا أنه بدأ متهيبا في الغوص نحو أصداف هذه النصوص، وازداد تهيبه في الربط بين معاني النص وسياقه التاريخي والاجتماعي رغم انحياز الكاتب لهذا المنهج على حساب الترجمة الحرفية.
ولجأ الكاتب إلى تقديم أمثلة لترجمات معينة لتوضيح مقاصده في عرض وجهة نظره، لكني أعتقد أن الدراسة تجنبت الخوض في ترجمة المفاهيم والأدوات التقنية في العلوم الطبيعية أو الرياضية لا سيما أن تحديد السياق في هذه الموضوعات أمر أكثر تعقيدا، فالتكنولوجيا والنظريات الفيزيائية والكيميائية أفرزت مفاهيم غاية في التعقيد عند ترجمتها، فمثلا في الإحصاء هناك مصطلح Normalization ، ولكني عدت لكتب الإحصاء باللغة العربية فوجدت له ترجمات لا ينظمها أي ناظم، ثم مصطلحات الخيال العلمي، وكذلك التنبؤات التقنية مثل cyborg(مخلوق نصفه بشري والآخر تقني) أو المناهج الجديدة في الدراسات المستقبلية ..
خيانة المترجم

وهنا نسأل ما هو السياق الذي تبحر فيه هذه المفاهيم؟ ما هي قواعد ترجمتها…الخ، وهنا نجد الدراسة تجنبت ذلك كثيرا. وأزعم أن أغلب ما ورد في الدراسة مبثوث في الدراسات الترجمية، وليت الكاتب أغنى الترجمة للعلوم الطبيعية لا بقاموس لها بل بقواعد ناظمة كما فعل مع العلوم الأدبية والاجتماعية.
من جانب آخر، لم أجد الكاتب يولي المجامع اللغوية أي دور في مهمة الترجمة، فهذه المجامع تضم المنتمين لمعارف متنوعة، وهو الأمر الذي يساهم في بناء جسور الترجمة التي تربط بين فروع المعرفة العلمية المختلفة.
إن مناقشة الكاتب لموضوع “خيانة المترجم” هو موضوع تناولته الدراسات بقدر كبير. ذلك يعني أن هذه الدراسة تبدو متنا في بعض الأحيان القليلة، لكنها شرح على المتون في أغلبها.
تقع هذه الدراسة (الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر) في 524 صفحة (و3 صفحات لقائمة المراجع)، لكن الدراسة لا تتبع تبويبا واضحا (بدون أبواب أو فصول أو مباحث)، بل وضع عناوين بخط كبير وأخرى –فرعية- بخط صغير، وشملت العناوين بالخط الكبير 25 عنوانا.
تبدأ الدراسة بمقدمة تتناول بعدين هما الترجمة الحرفية من جانب وإدراك الخصائص الأسلوبية، ويحدد مهمة الدراسة في تعيين حجم المعرفة التي نحتاجها للترجمة (أسلوب المقارنة، النحو المقارن، القاموسيات المقارنة، التوظيف السياقي للمفهوم بين لغتين، الأنثروبولوجيا اللغوية، التأويل (من خلال الهرمينوطيقيا).
وبعد الإشارة لإشكاليات الترجمة للنصوص المقدسة يحاول تتبع تطور الترجمة تاريخيا من شيشرون إلى هولدولين، ثم من شلايرماخر إلى فاليري لاربو، مرورا بمدرسة براغ وصولا إلى الوقت الحالي الذي وصفة بمرحلة تضارب الاجتهادات في الترجمة، ويعالج الآراء المختلفة حول مدى الالتزام بالنص والأسلوب والمفهوم والإيحاء والرمزية.
بين النص المصغر والنص المكبر

ينتقل بعد ذلك إلى التمييز بين النص المصغر (الكلمة أو المفردة) والنص المكبر( السياق)، ويحدد خطوات الترجمة في فهم النص ،ثم بناء النص الثاني
(المُترجَم) وبناء على ذلك يدرس نظريات الترجمة(نوع النص- نوع القارئ-نوع المترجم)، ويحاول تقديم تصوير لما أسماه المقاطع المتوازية
(المقطع الذي تلتبس ترجمته فنستجليه من مقطع آخر في نفس النص، ثم يتناول ما أسماه مدرسة التلاعب (حيث يركز المترجم على الرموز في النص).

ومن خلال استعراض النظريات والأساليب للترجمة ،فإنه يشترط امتلاك المترجم القدرة الاستيعابية والملكة النقدية وبخاصة حين نواجه النصوص الدينية أو النصوص القديمة بمدلولاتها التاريخية الخاصة، مع التركيز على تباين اللغات فيما بينها من حيث ما أسماه الحيل البلاغية، ولتوضيح ما سبق قدم الكاتب نماذج لمفردات أو بعض الفقرات القصيرة لترجمات قاموسية واقترح ترجمته الخاصة لها وحاول تفسير ما أسماه (المغايرات الترجمية)، وأطلق على الترجمات التي لا يراها سليمة ب”الترجمة المجهضة”، أي الترجمة المعرضة للنقد، وقدم أمثلة قليلة عليها، ثم تطرق إلى موضوع خيانة المترجم، وعالجها من خلال المقارنة بين النص الأصلي والنص المترجم من حيث الحجم، وترجمة المجرد بنفس الدلالة، وضمان الحفاظ على قصد المؤلف، والأسلوب، وهي مهمات تجعل من الخيانة “حتمية” نتيجة لما اعتبره الفروق الأنثروبولوجية بين اللغات.
ويتناول المؤلف في كتابه “الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر” موضوع ترجمة الضمائر وتحديد مرجعيتها بين اللغات، وبعد معالجة انعكاسات الفروق الثقافية على الترجمة، ينتقل إلى ما أسماه الترجمة الذاتية (أن يترجم الكاتب نصوصه إلى لغة أخرى)، ليربط ذلك بموضوع التناص، فهل ترجمة السيرة الذاتية من لغة لأخرى ومن نفس صاحبها تعد تناصا؟
التأويل في الترجمة

ويقوم بعد ذلك بعرض موضوع التأويل في الترجمة مركزا على نظرية شتاينر: الموثوقية (دقة الفحص للنص)، والتغلغل (وعي المنظومة الذهنية للغة)، والتجسيد (التصريح بمضمون النص) وطبق هذه النظرية على كليلة ودمنة. ثم تناول ما أسماه التناص غير المكشوف والمرتبط بالخيال مدللا على رأيه من خلال مقارنة مقاربات سارتر وهايدغر ومن خلال النصوص الدينية.
وقارن بين التناص في الأدب الغربي والإفريقي مع توضيح الفارق بينهما، ثم يتعرض للنصوص الساخرة ودور الحدس في المساعدة على ترجمتها لا سيما أن سياقها الثقافي والاجتماعي متباين، وتنتهي الدراسة بتناول ترجمة الشعر(وهو الأصعب) والتعدد الترجمي(ترجمة لترجمة)، ثم علاقة الترجمة بالفلسفة (خاصة تحولات المفاهيم الفلسفية عبر التاريخ) والنصوص الدينية واشتراطات الأقدام على ترجمتها(ضرورة إيمان المترجم عند مارتن لوثر)، وينتهي بنقد نظرية طه عبدالرحمن في الترجمة ثم شروط المترجم الناجح وبخاصة القدرة المعرفية للغة وبيئة النص وسياقها السوسيوثقافي، مع ضرورة تجنب التبسيط.
ثراء معرفي وفقر منهجي

رغم ثراء النص معرفيا، لكني أراه فقيرا منهجيا، وتتمثل أبرز هنات الدراسة من هذه الناحية في:
أ*- عدم التبويب وهو ما أشرت له في بند سابق، فالدراسة غير مقسمة إلى فصول أو أبواب أو مباحث، بل إنها غير مرقمة العناوين، ويختلط العنوان الفرعي بالرئيسي .
ب*- التكرار لنفس الفكرة ولو بصياغة مختلفة بعض الشيء (قارن فقط على سبيل المثال صفحة 235-240 مع ما ورد في الصفحات السابقة لها)، فموضوعات خيانة المترجم والترجمة الحرفية والتناص والسياق يجري تناولها وبنفس الدلالة في كل مرة، وقد بدأ الكتاب لي على شكل سرد تتكرر موضوعاته عند كل انتقال، ولم أشعر بهندسة التراكم المعرفي الذي تتضح معه نظرية الكاتب أو توجهاته.
ونظرا لأني مارست الترجمة في حدود معينة، فاني كنت أقرب لفهم ما تثيره الدراسة، لكن القارئ العادي سيجد صعوبة في تنظيم أثاث منزل المترجم بشكل تبدو فيه جمالية التنظيم.
ت*- غياب مشكلة الترجمة في العلوم الطبيعية غيابا يكاد أن يكون تاما، وكما تحتاج الترجمة الأدبية إلى معرفة ببيئة النص وسياقه وتأويلاته، فإن النص العلمي يحتاج أيضا إلى آليات ومعارف كثيرة، ويبدو أن الفجوة المعرفية في حقل العلوم الطبيعية بين المترجم في الدول المتخلفة –أو العربية- وبين النص العلمي المباشر أو روايات الخيال العلمي تجعل المترجم بحاجة لمترجمين آخرين يعاضدوه مستفيدين من خزائن معارفهم الطبيعية أو الرياضية، وأرى أن تجنب الكاتب لهذا الموضوع أمر لا يجوز التغاضي عنه، إن غياب ترجمة الدراسات العلمية الطبيعية والطبية أضحت عائقا أمام تطور اللغة العربية، وهي مهمة غض الكاتب الطرف عنها إلا من بضع سطور.
ث*- كما تحدث الكاتب عن المترجم كان عليه أن يتحدث عن مجامع اللغة ودورها في تطوير الترجمة، ويكفي أن أعطي مثالين فقط رغم وفرة الأمثلة في هذا المجال : نحن نترجم forecast و Prediction بالتنبؤ، لكنهما في حقل الدراسات المستقبلية لكل منها مدى زمني مختلف، فكيف نميز بينهما، فإذا استخدمنا الشروحات –كما ورد في الدراسة- ظهر فارق الحجم في النصين عند الترجمة، وأظن أن دور مجامع اللغة أمر يستحق النظر فيه، لكن باحثنا غيبه.

والمثال الثاني نأخذه من مناهج الدراسات المعاصرة، ففي مناهج التحليل نجد تعبير (Holistic) وهو لا يعني الكلي أو الشمولي بل يعني أن الكل أكبر من مجموع أجزائه، ألا يحتاج مثل هذا مناقشة لدور مجامع اللغة حيث تترافد المعارف…الخ
ج*- الأمثلة التوضيحية: كان الكاتب في دراسته “الفكر الترجمي: حيثيات المعنى الحائر بين الأنا والآخر”يقدم أمثلة توضيحية من ميدان الترجمة لتوضيح الفكرة، لكن ذلك كان محدودا من ناحية ومقتصرا على الآداب بشكل شبه كلي، فنجد بعض الأمثلة في الصفحات 138(ترجمة أسماء أو رواية الضياع أو لزوميات المعري) أو في صفحة 145-146(نقد ترجمات فرانك درويش دون تقديم نصوص توضيحية على مشكلات الترجمة) كما فعل مع ترجمة السياق (صفحة 162 أو التجارب الترجمية صفحة 172-190).