تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,811

    افتراضي لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

    لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (1)



    عبد الحميد غانم



    1) توطئة

    توفَّر لعصر الرسالة خَصيصة حضارية لم تُتَح لغيره من عصور الإسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم يسمع ويرى، وبرغم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك خيراً إلا دلَّ عليه، ولا شراً إلا نهى عنه، ولا فتنة إلا حذَّر منها فقد بقيت مباشرته عصره مَيْزَة ارتفعت بالصحابة إلى رُتَب من الفعالية المبهرة بما تحمله تلك المباشرة من مددٍ يومي، وتطبيق عملي، ومعايشة متجددة، وتَمَثُّل حي لأكمل صور التقوى، فكان صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً يمشي بين الناس، وكان حبهم له واتِّباعهم إياه شيئاً يفوق حدود الوصف (1) وليس أدل على ذلك الحضور النبوي الفاعل من أن أبا بكر الصديق بكى لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
    فلَـتَحْدُثــَن َّ حوادثٌ من بعده=تُعْـنَى بهـن جوانـَِحٌ وصدور (2)
    وانتحبت صفية بنت عبد المطلب قائلة:
    لعَمْرُكَ ما أبكي النبي لفقده=ولكنْ ما أخشى من الهَرْج آتيا(3)
    وانْتَحَى أبو سفيان بن الحارث حزناً، وهو يقول:
    أرِقْتُ فبـات ليـلي لا يـزول=وليـلُ أخ المصيبة فيـه طــول
    فقد عظُمت مصيبتنا وجَلَّت =عشية قيل قد قُبِض الرسول
    فقدنـا الوحـي والتنـزيــل فينـا= يـَروح بـه ويَغْـدو جبرئيل (4)
    وبكت أم أيمن، فأراد أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب أن يعزياها، فقالا " ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم " فقالت " ولكني أبكي أنَّ الوحي قد انقطع من السماء " فهَيَّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (5)
    واتصل الصحابة بتلك الرُّتَب العالية من المعايشة النبوية، فثبت أن أبا هريرة قال " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ، رَقَّتْ قُلُوبَنَا، وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا، وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ
    واتصل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل وجه، وطال ذلك شُعَيْرات من رأسه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما سقطت قُلَنْسُوَة خالد بن الوليد يوم اليرموك 13هـ، جعل يَسْتَحِثُّ في طلبها، فعُوتِب في ذلك، فقال " إنَّ فيها شيئاً من شعر ناصِيَة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها ما كانت معي في موقف إلَّا نُصِرْت " (6)
    وقال أبو سعيد الخُدْري " لما قَدِم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء " (7) وما نَفَضْنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا " (8)
    وقال أنس بن مالك " لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها
    كل شيء، وما نفضنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم الأيدي، وإنَّا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا " (9)
    وقال أُبَي بن كعب " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما وجهنا واحد، فلما قُبِض نظرنا هكذا وهكذا " (10)
    وقالت أم سَلَمَة " كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يَعْدُ بصره موضع قدميه ـ يعني من الخشوع ـ فتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام احدهم يصلي لم يَعْدُ بصره موضع جبينه، فتُوُفِّيَ أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام احدهم يصلي لم يَعْدُ بصره موضع القبلة، وكان عثمان وكانت الفتنة، فتَلَفَّت الناس يميناً وشمالاً " (11)
    يقول ابن حجر العسقلاني 851هـ " مُرادهم هنـا أنهم وجدوا
    قلوبهم قد تَغَيَّرت عما عَهِدوه في حياته صلى الله عليه وآله وسلم من الأُلفة والصفاء والرقة؛ لفقدان ما كان يُمِدَّهم صلى الله عليه وآله وسلم به من التعليم والتأديب " (12)
    لقد حوت تلك الرعاية النبوية جوانب الوقاية والصيانة الروحية والفكرية والسلوكية لمشكلات عصر الوحي، وللحياة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم.
    فعلَّمهم صلى الله عليه وآله وسلم استصحاب قيم الوحي وموازينه في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، وعلمهم تنزيل معارف الوحي ومناهجه على الحادثات والمستجدات لسياستها وتصويبها.
    وحذَّرهم صلى الله عليه وآله وسلم من مخاطر العِلَل العَقَدِيَّة والقولية والعملية المكنونة في قول الله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 13]
    وتَجَلَّت تلك التطبيقات النبوية للوقاية والصيانة في جُمَل شتى من جوانب الإعداد الرِّسالي الذي طال أمهات مشكلات الحياة حتى تقوم الساعة.

    يتبع...
    ---------------------

    (1) البداية والنهاية ابن كثير 4/167 (2) التذكرة القرطبي 630،
    الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة القَنُوجي 67-69
    (2) التذكرة القرطبي 630،
    الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة القَنُوجي 67-69
    (3) البداية و النهاية ابن كثير 7/103 (3) صحيح مسلم 2454
    وَالْأَوْلَادَ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " لَوْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّكُمْ " (1)
    (4) صحيح ابن حِبَّان 7387
    (5) البداية والنهاية ابن كثير 7/4 وبعدها و113
    (6) البداية والنهاية ابن كثير 5/274
    (7) فتح الباري ابن حجر 8/149 وقال " أخرجه البَزَّار بسند جيد "
    (8) صحيح ابن حِبّان 6634
    (9) سنن ابن ماجة 1633، البداية والنهاية ابن كثير 5/274، وصححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة 1633)
    (10) سنن ابن ماجة 1634، البداية والنهاية ابن كثير 5/274، وصححه الألباني في (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة 1634)
    (11) فتح الباري ابن حجر 8/149
    (12) وانظر: آل عمران 19و105، النساء 46، الروم 32

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,811

    افتراضي رد: لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

    لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (2)



    عبد الحميد غانم



    التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة

    تعد التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة واحدةً من أهم القضايا التي حَظيت بعناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم طِوال عصر الرسالة، ويمكن للمتأمل فيها أن يقف على منهاج النبوة في توقع المَضار الفكرية والعَقَدِيَّة والسلوكية التي قد تقع للأمة، أو لآحادها، مع وصف علاجاتها.

    وقد يمكن إحصاء بعض هذه التطبيقات، وبيان طرق الانتفاع بها، وخصوصاً في عصرنا هذا، على النحو التالي:

    1) راعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَدَرُّج الأحكام بما يناسب استقرار التوحيد في القلوب، فجاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم " ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تُزَهِّد في الدنيا وتُرَغِّب في الآخرة " (1)

    وفيه ذِكر لِعِلَّة جواز زيارة القبور بغرض الزهد في الدنيا وتَذَكُّر الآخرة، وفيه سكوت عن عِلَّة المنع من زيارة القبور في أول الإسلام لصيانة جانب التوحيد وقطع التعلُّق بالأموات، وسد ذرائع الشرك التي أصلها تعظيم القبور والمباهاة بمآثر الموتى؛ فلما تمكَّن التوحيد من القلوب، واضمحل الشرك، واستقر الدين أَذِن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور ليحصل بها مزيد إيمان وتذكير بدار البقاء، وهكذا كان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور للمصلحة، كما كان إذنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور للمصلحة (2)

    ولذلك لما سأل رجل أحمد بن حنبل 241هـ قائلاً " كيف يَرِقُّ قلبي؟ " أجابه أحمد " ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم " (3)

    2) نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخَلْط بين عالمي الغيب والشهادة؛ لأن ذلك يُفقد الإيمان بالغيب أثره في مقابل عالم الشهادة، فلما سمع صلى الله عليه وآله وسلم قوماً يَتَدارَؤون (يتنازعون) القرآن أنكر عليهم قائلاً " إنما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً، فلا تُكَذِّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه " (4)

    ولما سمع صلى الله عليه وآله وسلم أصوات رجلين اختلفا في آية، خرج يُعرف في وجهه الغضب، وقال" إنما هلك مَنْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب" (5)

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إن هذا القرآن أُنْزِل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم فقد أحسنتم، ولا تماروا فيه فإن المِراء فيه كُفْر" (6)

    وعَلَّمهم صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتناولون القرآن، فقال" اقرؤوا القرآن ما ائتَلَفَت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (7)

    فدل ذلك على أن فهم القرآن الكريم مرهونٌ بتحقُّق شروطه، وهي: الوعي بالوحي لفهم الواجب الشرعي، والوعي بالعصر لفهم الواقع، والوعي بطرق تطبيق الواجب في الواقع.

    3) حَسَم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسألة التشاؤم، وما قد يترتب عليها من ضعف السعي، فحين قال رجل "يا رسول الله مِنّا رجالٌ يَتَطيَّرون " أجابه صلى الله عليه وآله وسلم " ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يَصُدَنَّهم" (8) فأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم الالتفات إلى تلك الرواسب، وإنْ بَدَت لها في بعض النفوس دواعٍ وآثار.

    4) أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تَخَلُّف الشروط الموضوعية لمفهوم القَدَر في العقل المسلم، مما قد يضر بقيمة الاختيار واثاره، ويضعف عافية المرجعية بين دلالات الحق والواجب والدور والجزاء والدنيا والآخرة.

    فأثمرت تلك الوقاية صحةً في وَعْيَ عقل المسلم بمفهوم تناول الأسباب، وإحسان الجمع بين الحرية والمسؤولية، والمغالبة بين القدر والقدر، والفرار من القدر إلى القدر.

    لذلك شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تَجَنُّب الخوض في القَدَر؛ لأنه سِرٌ من أسرار الله زَلَّت فيه أقدام، فكان الأوْلَى بنا الأخذ بالأسباب معه، وتَلَقِّيه على جَناب التسليم، وإطراح الاقتراح على العالم به سبحانه.

    فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج علينا ونحن نتنازع في القَدَر، فغضب صلى الله عليه وآله وسلم حتى احْمَرَّ وجهه، حتى كأنما فُقِىء في وَجْنَتَيْه الرُمَّـان، فقال " أبهذا أُمِرْتُم أم بهذا أُرسلت إليكم؟ إنما هلك مَنْ كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، إني عزمت عليكم، عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه " (9)

    5) صحح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قد بدا على بعض الصحابة من غَبَش في التصور بين التوكل والتواكل، فلما قال رجل " يا رسول الله أُرسل ناقتي وأتوكَّل؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم " اعْقِلْها وتَوَكَّل " (10)

    وضرب صلى الله عليه وآله وسلم لذلك مثلاً، فقال " لو تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تَغْدو خِماصاً، وتَروح بِطاناً " (11) فنَبَّه على أن الطير لم تلزم أغصانها تنتظر رزقها، وإنما لما غَدَت رُزِقَت.

    وسُئل صلى الله عليه وآله وسلم " فهل علينا جُناحٌ أن نتداوَى؟ " (12) فقال: " تداوَوْا فإن الله لم يُنْزِل داءً إلا وقد أنزل له شفاء إلا السام والهَرَم " (13)

    ورسم صلى الله عليه وآله وسلم أسباب التداوي في اجتماع: العلم والإصابة والتوكل، فكان مما قال " إن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل معه دواء جَهِله مَنْ جَهِله وعَلِمه مَنْ عَلِمه" (13) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل داءٍ دواء، فإذا أُصيب دواء الداء برأ بإذن الله " (14)

    فكان صلى الله عليه وآله وسلم أفضل المتوكلين؛ يأخذ بالأسباب، ويَتداوَى، ويلبس لباس الحرب، ويمشي في الأسواق، ويتعامل مع الناس (15) ليعلمنا أن التوحيد إنما يتم بمباشرة الأسباب التي نَصَبَها الله، وأن تعطيل الأسباب حمقٌ يَقْدَح في معنى التوكل، وأن ترك الأسباب عجز ينافي التوكل، وأن الأسباب مجرد أمارات على حصول النتائج وليست صانعةً لها، وأن حقيقة التوكل هي الأخذ بالأسباب، واعتماد القلب على الله في حصول النفع ودفع الضر، وترك نتائج الأمور بعد ذلك لله، وإلا صار العبد معطِّلاً للشرع، ومحروماً من الحكمة، فلا يجعل العبد من عجزه توكلاً، ولا من توكله عجزاً (16)

    وهكذا بان أن التوكل علم وعمل؛ وأن العلم أصله، والعمل ثمرته، وأن الإيمان أُس التوكل، وأن التوكل جِماع الإيمان.

    يتبع...


    ------------------------


    (1) صحيح ابن حِبّان 981

    (2) حاشية ابن القَيِّم 9/44وبعدها، تفسير الشنقيطي 9/78وبعدها

    (3) الفروع ابن مفلح 2/233

    (4) المسند أحمد 6741، وحَسَّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 237)

    (5) صحيح مسلم 2666

    (6) المسند أحمد بن حنبل 17855، السلسلة الصحيحة الألباني 1522

    (7) صحيح مسلم 2667

    (8) صحيح مسلم 537

    (9) سنن الترمذي 2133 وقال: هذا حديث غريب، وحَسَّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 98و99)

    (10) صحيح ابن حِبّان 731 (3) صحيح ابن حِبّان 730

    (11) صحيح ابن حِبّان 6061

    (12) صحيح ابن حِبّان 6064

    (13) صحيح ابن حِبّان 6062

    (14) صحيح ابن حِبّان 6063

    (15) شرح العقيدة الطحاوية 301

    (16) زاد المعاد ابن القَيِّم 3/67



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,811

    افتراضي رد: لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

    لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (3)



    عبد الحميد غانم


    6) لما كاد بعض الصحابة أن يحصر مفهوم العبادة في الشعائر، ويدع الحياة تمضي دون أن يُصْلح مَسارها، صحَّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك التوجه، فدلَّ على أن المفهوم الجامع للعبادة هو صحة التزود من الدين لعمارة الدنيا، امتثالاً لقول الله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبَة من الإيمان " (1)
    وجاء ثلاثة إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخْبَروا بها كأنهم تَقالُّوها، فقالوا " وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر " وقال أحدهم " أما أنا فإني أصلي الليل أبداً "، وقال آخـر " أنا أصوم الدهر، ولا أفطر "، وقال آخر " أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا " فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَنْ رَغِب عن سنتي، فليس مني " (2)
    7) وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمة عند الخَصيصة الأم للإسلام، وهي أن يُعْبَد الله وحده على الوجه الذي شَرَع، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " صَلُّوا كما رأيتموني أصلي " (3)
    وكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يرمي الجمرات على راحلته يوم النَّحْر ـ " لِتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " (4)
    فأنشأ صلى الله عليه وآله وسلم منظومة المفاهيم في الامتثال والتأسِّي بالقول والعمل، وأبقى الأمة عند حدود التحرِّي والتحلِّي بمهام عصر الوحي؛ باعتباره المثال الكامل لمقتضيات الإسلام لله رب العالمين.
    8) بَيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة العلم وأن معنى ذَهابه هو ذَهاب العمل به، فكان مما قال " هذا أوان رفع العلم " (5) فقال لَبيد بن زياد " يا رسول الله يُرفع العلم وقد أُثْبِت ووعته القلوب ؟ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " إنْ كنت لأحْسَبُك أفقه أهل المدينة " (6) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضلالة اليهود والنصارى رغم ما في أيديهم من كتاب الله، قال شداد بن أوْس " أول ما يُرْفَع الخشوع، حتى لا ترى خاشعا " (7)
    9) أرْسَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موازين قوة الأمة في تحذيرٍ بليغ، فقال "يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتها " فقال قائل " ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ ؟ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غُثاء كغُثاء السيْل، ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المَهابة منكم، ولَيَقْذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهْن" فقال قائل " وما الوَهْن ؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم " حب الدنيا وكراهية الموت " (8) فدل صلى الله عليه وآله وسلم على أن القوة تكمن في النوع والكيف، لا العدد والكم.
    10) في بيان مقاصد الوحي وأثر الزمان والمكان في تحقيق المَناطات ومراعاة المآلات، والجمع بين سد الذرائع وتعظيم المصالح، توقَّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الراجح واختار عليه المرجوح؛ لأن مراعاة المآلات من المقاصد المعتبرة (9) فقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة " لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدِم فأدْخَلْت فيه ما أُخْرِج منه " (10)
    وقال صلى الله عليه وآله وسلم " لولا أن قومك حديثو عهدٍ بشرك لهدمت الكعبة فألْزَقْتُها بالأرض، وجعلت لها بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، وزِدت فيها ستة أذرع من الحِجْر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " (11) ثم زاد صلى الله عليه وآله وسلم " ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه " (12)
    ولما قالت عائشة " ألَا أدخل البيت ؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم لها " ادخلي الحِجْر فإنه من البيت " (13) قال عبد الله بن عمر " ما أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك استلام الركنين اللذين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم " (14)
    وهكذا تَرْك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم لحداثة عهد قريش بالجاهلية، فخشي صلى الله عليه وآله وسلم تنفيرهم، وقَدَّم مصلحة التآلف.
    وكذا جَهْر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية أحياناً في صلاة الظهر وصلاة العصر، وجَهْر عمر بن الخطاب بدعاء الاستفتاح في الصلاة، وجَهْر بعض الصحابة بالاستعاذة في الصلاة، وجَهْر عبد الله بن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وقال " لتعلموا أنها سُنَّة " وصلى عبد الله ابن مسعود مُتِمَّاً خلف الخليفة عثمان بن عفان في السفر، فلما سُئِل في ذلك قال " الخلاف شر " ومنع مالك بن أنس 179هـ ومحمد بن إدريس الشافعي 204هـ صلاة جماعتين في وقتٍ واحد بمسجدٍ واحد بإمامين، ونَصَّ أحمد بن حنبل 241هـ وغيره على الجهر بالبسملة في الصلاة بالمدينة؛ لأن جمهوراً من الصحابة قد جهروا بها، وكذا نَصَّ أحمد بن حنبل على وصل صلاة الوتر، وكل ذلك إنما
    يدخل في باب استعمال الآثار على وجهها بالعدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاةً للأُلْفَة وتعريفاً بالسُّنَّة، وهو أصل كبير في سد الذرائع وجلب المصالح وتحقيق المقاصد (15)
    ولذلك سَوَّغ أهل العلم ترك الأفضل لتأليف القلوب، أو لتعليم السُّنَّة النبوية؛ لأنهما من أعظم المصالح (16)
    11) أسَّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإنزال المقالات عند أهلها بما يناسب أفهامهم، فنهى معاذ بن جبل وأبا هريرة أن يُحَدِّثوا الناس أن مَنْ لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ " لا تُبَشِّرهم فيَتَّكِلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تَأثُّماً (17)
    وهكذا راعى السلف منازل المخاطَبين، فقال علي بن أبي طالب "حَدِّثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله " (18)
    وقال عبد الله ابن مسعود " ما أنت بمُحَدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (19)
    وكان الحسن البصري110هـ يخص بعض طلابه في بيته بنوعٍ من الكلام في معاني الزهد والرقائق وعلوم الباطن التي قد تلتبس على مَنْ هم دونهم ممن لا تدركها أفهامهم (20)
    وكتب محمد بن إسماعيل البخاري 256هـ في كتاب العلم من صحيح البخاري باباً بعنوان " مَنْ خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا " (21)
    وكتب مسلم بن الحجاج 261هـ في صحيح مسلم باباً بعنوان " النهي عن الحديث بكل ما سمع " (22)
    وشرح ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة751ه ذلك بقوله " فلا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم، إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تَلَقِّي السلوك عن السلف، ولو برز لهم حالهم أنكروه، فهؤلاء لابد محجوبون عن معرفة مقادير السلف الصالح وعُمْق علومهم وقِلَّة تكلفهم " (23)
    ونقل أبو إسحاق الشاطبي790هـ مسألة عند أهل الأصول مفادها " ليس كل ما يُعْلَم مما هو حق يُطْلَب نشره " (24)
    وذهب جمهرة أهل العلم إلى أن من العلم ما هو مَضْنون به على غير أهله (25) وصار من المشهور عند العقلاء أنه ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حضر وقته، وليس كل ما حضر وقته حضر أهله.
    12) نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المآلات وجعلها باباً مرعِياً في بناء الأحكام، فامتنع عن قتل المنافقين رغم استحقاقهم ذلك، من ذلك أنه لما أشار عمر بن الخطاب بقتل شيخ النفاق عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول قال صلى الله عليه وآله وسلم " دَعْه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " (26)
    ولما بال أعرابي في المسجد قام الصحابة ليزجروه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " دَعُوه " حتى إذا فَرَغ الأعرابي أمر صلى الله عليه وآله وسلم بماء فصُبَّ على البول، ثم قال لهم" فإنما بُعِثْتُم مُيَسِّرين ولم تُبْعَثوا مُعَسِّرين" (27) وقـال للأعرابي " إن هذا المسجد لا يصلح لشيء من القَذَر والبول، إنما هو لقراءة القرآن، وذِكر الله، والصلاة " (28) فترفَّق صلى الله عليه وآله وسلم به ليعلمه ما جهل من الإسلام.
    ولما قال شاب " يا رسول الله اِئذن لي في الزنا " زجره القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشاب " اُدْنُه " فدنا، فجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً " أفَتُحِبُّه لأمك، أفتحبه لابنتك، أفتحبه لأختك، أفتحبه لعمتك، أفتحبه لخالتك ؟ " كل ذلك والشاب يقول " لا والله جعلني الله فداءك " والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ولا الناس يحبونـه لأمهاتهم، ولا لبناتهم، ولا لأخواتهم، ولا لعماتهم، ولا لخالاتهم " ثم وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده عليه، وقـال " اللهم اغفر ذنبه، وطَهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه " فلم يلتفت الفتى لشيءٍ من ذلك (29)
    13) دَلَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على (تنبيه النص) في قضية أول مسلم سرق، فلما أتَوْا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال " اذهبوا بصاحبكم فاقطعوه " وكأنما أُسِفَ وجهه صلى الله عليه وآله وسلم رماداً، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده يخفيه، فقالوا " كأن هذا شَقَّ عليك يا رسول الله ؟ " فقال " لا ينبغي أن تكونوا أعوان الشيطان، فإنه لا ينبغي لولي أمرٍ أن يُؤْتَى بحدٍ إلا أقامه، والله عَفُوٌ يحب العفو " ثم قرأ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]
    وقال صلى الله عليه وآله وسلم للذي دَلَّ على ماعِز، فرجموه " يا هزال لو سترته بثوبك، كان خيراً لك " (30) فبنى معنى الستر في كليات الأخلاق.
    14) أمر صلى الله عليه وآله وسلم بتدوين القرآن، واتخذ كُتّاباً فوق الثلاثين يضعون كل كلمة في موضعها، فأسَّس صلى الله عليه وآله وسلم مرجعية للحماية، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تدوين السُّنَّة النبوية في بداية الأمر لئلا تَلْتَبِس بالقرآن الكريم (31)
    يتبع...
    --------------------------------------------
    (1) صحيح مسلم 35
    (2) صحيح البخاري 4776
    (3) صحيح البخاري 5662
    (4) صحيح مسلم 1297
    (5-7) صحيح ابن حِبّان 4572
    (8) سنن أبي داود 4297، السلسلة الصحيحة الألباني 958
    (9) المُوافَقات الشاطبي 4/162
    (10) صحيح البخاري 1509
    (11) صحيح مسلم 1333
    (12) سنن النسائي 2893و9234، المسند أبو عَوانَة 3167، وصححه الألباني في (إرواء الغليل 4/307)
    (14) صحيح مسلم 1333
    (15-16) تفسير القرطبي 8/257، نَصْب الراية الزَّيْلَعي 1/328، مجموع الفتاوى ابن تيمية 22/407-408
    (17) صحيح البخاري 2701 (4) صحيح البخاري 127
    (18) صحيح مسلم 5
    (19) سِيَر أعلام النبلاء الذهبي 4/579
    (20) صحيح البخاري - باب 49 (4) صحيح مسلم - باب 3
    (21) مدارِج السالكين ابن القَيِّم 1/159
    (22) المُوافَقات الشاطبي 4/189-190
    (23) سِيَر أعلام النبلاء الذهبي 19/329
    (26) صحيح البخاري 4622 و4624
    (27) صحيح البخاري 216و 217و5777
    (28) صحيح ابن خُزَيْمَة 293
    (29) المسند أحمد بن حنبل 22265، وقال الهيثمي في (مَجْمَع الزوائد 1/74) والعراقي في (المُغْني عن حمل الأسفار 2251): رجاله رجال الصحيح.
    (30) السنن الكبرى البيهقي 17390و18067، المسند أبو يَعْلَى 5155
    (31) موطأ مالك 1499، سنن النسائي 7274و7276و7280، سنن أبي داود 4377
    (31) المُحَدِّث الفاصل الرامَهُرْمُزِي 71، تقييد العلم الخطيب البغدادي 102





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,811

    افتراضي رد: لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

    لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (4)



    عبد الحميد غانم



    15) بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحس الحضاري للأمة وبسط عباءة الخلافة في الكون، فاعتنى بالحياة، فسقى الهِرَّة، وقال" إنها ليست بنَجَس، إنما هي من الطَوّافين عليكم والطَوّافات " (1) وزاد صلى الله عليه وآله وسلم " هي كبعض أهل البيت " (2)

    وحذَّر صلى الله عليه وآله وسلم من أدْنَى العدوان، فقال " دخلت امرأة النار في هِرَّة ربطتها فلم تُطعمها ولم تَدَعْها تأكل من خَشاش الأرض" (3)

    ورآه صلى الله عليه وآله وسلم جَمَلٌ، فحَنَّ إليه وذَرَفَت عيناه، فمسح صلى الله عليه وآله وسلم عليه فسكت، فقال لصاحب الجَمَل " أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعه وتُدْئِبه " (4)

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أُحُد " أُحُد جبل يحبنا ونحبه " (5) وحَنَّت إليه نخلة كان يخطب عندها، فقد صحَّ أن امرأة من الأنصار قالت " يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه، فإن لي غلاماً نجارا؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم " إنْ شئتِ " فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر الذي صُنِع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخذها فضَمَّها، فجعلت تَئِن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال جابر بن عبد الله الأنصاري " بكت على ما كانت تسمع من الذِّكْر " (6)

    وضمن ذلك الشمول العمراني التفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسرة باعتبارها اللَّبِنَة الأولى في بناء الأمة، فضم إليها جملة وصايا، فكان مما قال " إن الله حَـرَّم عليكم عُقوق الأمهات ووَأْد البنات ومَنْع وهات، وكَرِه لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " (7)

    16) أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وحدة المرجعية، فحذر من وُلوج مَظان التحريف أو التعرض للشبهات، ونبه على مضار تبعيض التناوُل؛ فحين أتى عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابٍ قد أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب صلى الله عليه وآله وسلم، وقال" أمُتَهَوِّكُون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نَقِيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتُكَذِّبوا به، أو بباطل فتُصَدِّقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وآله وسلم كان حَيّاً ما وَسِعَه إلا أن يَتَّبِعَني " (8)

    فلما تولَّى عمر بن الخطاب أُتِيَ برجل من عبد القيس، مسكنه ببلاد السوس، كان قد نسخ كتاب النبي دانيال عليه السلام، عن أهل الكتاب، فتـلا عمر بن الخطاب علي ذلك الرجل قول الله تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]. ثم قـال له " انطلق فامْحُه، ولا تقرأه، ولا تُقْرِئْه أحداً من الناس " (9).

    17) بَيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحِكَم والمقاصد المترتبة على شمولية المُباح والعفو في أحكام الوحي، فاعتمد صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق الطاقات وإنهاض الدوافع مع رعاية المقاصد، واعتبر الفوارق بين القيود والحدود، فأرْسَى معالم الضبط والتحذير في جُمَلٍ عريضة من المحرمات والمكروهات شملت " الخمر، والمَيْتَة، والخنزير، والأصنام " (10) و " مَنع وهات، وقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " (11) و" دماءكم، وأموالكم " و " الفواحش " (12)

    18) شدَّد صلى الله عليه وآله وسلم على خطر الغُلُو والتَّنَطُّع والتشدد والتَّعَمُّق في الدين، وما قد تسوق إليه تلك الآفات من مَظان الخلاف ودواعي الشِّقاق، فقـال صلى الله عليه وآله وسلم " إياكم والغُلُـو في الدين، فإنما هلك مَنْ كـان قبلكـم بالغُلُو في الدين" (13) وقال" فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فَدَعوه" (14)

    19) ذُكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجال يشتدون في العبادة، فقال " تلك ضَراوَة الإسلام وشِرَّتُه، ولكل ضراوة شِرَّة، ولكل شِرَّة فَتْرَة، فمَنْ كانت فَتْرَته إلى الكتاب والسُّنَّة فَلَأْمَ ما هو، ومَنْ كانت فَتْرَته إلى معاصي الله، فذلك الهالك " (15)

    ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم السداد، أو القرب منه على قدر الطاقة، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " إن الدين يُسْر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسَدِّدوا، وقارِبوا، وأبْشِروا " (16)

    20) شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خصوصية النوع البشري، وأثر هذه الخصوصية على سلامة وعي الإنسان بقيمته وموقعه ودوره؛ لئلا تضطرب موازين الفطرة وطبائع الحركة، فلعن صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (17) والمُخَنَّثين من الرجال والمُتَرَجِّلات من النساء (18) والمتبرجات من النساء (19).

    ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن دخول الرجال المتشبهين بالنساء على المرأة فقال "أخْرِجوهم من بيوتكم " (20).

    ولما أُتِيَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمُخَنَّث قد خَضَّب يديه ورجليه بالحِنّاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم " ما بال هذا ؟ " فقيل " يتشبه بالنساء " فأمر صلى الله عليه وآله وسلم به فنُفِي إلى البقيع، وهي ناحية كانت بعيدة عن المدينة حينذاك (21)

    21) أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما يجري في نفوس بعض الناس؛ ليُعَلِّم الصحابة أهمية تحرير النيَّة وتجديد الإيمان وإخلاص القصد ومَحْو الشبهات، فكان فيهم رجل أَتِيّ (غريب) اسمه قزمان (22) قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه" أما إنه من أهل النار" (22) فلما كان يوم خيبر 6هـ قاتل قزمان أشد القتال، فلما كَثُرَت به الجراح ووجد آلامها، أهْوَى إلى كِنانته فانتزع سهماً فانتحر بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "يا بلال قُمْ فأذِّن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (23)

    يتبع...

    (1) صحيح ابن خُزَيْمَة 104

    (2) صحيح ابن خُزَيْمَة 102

    (3) صحيح البخاري 3140

    (4) سنن أبي داود 2549، السلسلة الصحيحة الألباني 20

    (5) صحيح البخاري 1411و4160

    (6) صحيح البخاري 1989

    (7) صحيح البخاري 2277

    (8) المسند أحمد 15195، النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير 5/281، وحسّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 177)، وفي (إرْواء الغليل 1589)

    (9) حسَّنه الألباني في (إرْواء الغليل 1589)

    (10-12) صحيح البخاري 2221و 2277و4141و4922

    (13) صحيح ابن خُزَيْمَة 2867

    (14) صحيح مسلم 1337

    (15) المسند أحمد بن حنبل 6540، المسند البَزّار 2401 وفيه: (فَلَأْمَ ما هو) أي: يرجع إلى أصل عظيم، السلسلة الصحيحة الألباني 2850

    (16) صحيح البخاري 39

    (17) صحيح البخاري 5546

    (18) صحيح البخاري 5547

    (19) سنن النسائي 9251

    (20) صحيح البخاري 5547

    (21) سنن أبي داود 4928، السنن الكبرى البيهقي 16764، المسند أبو يَعْلَى 6126، فتح الباري ابن حجر 9/335، 12/160


    (22) البداية والنهاية ابن كثير 6/187

    (23-26) صحيح البخاري 6232








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,811

    افتراضي رد: لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة

    لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (5)



    عبد الحميد غانم



    22) أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَنِّيَّة القابلية للتعلُّم، فكان يُحَدِّث الناس عن أمر الآخرة، فإذا رآهم قد فَتَروا أخذ بهم في بعض أحاديث الدنيا، حتى إذا نشطوا أخذ بهم في حديث الآخرة، فلاءم صلى الله عليه وآله وسلم بين النفس والعقل، وقَصَدَ إلى تبديد الكف عن التعلُّم في النفوس، وحفظ الدرس من أن يضيع، ونَوَّع مادة الحفظ لمن يريد، وأعان العقول على التذكُّر، وثَبَّت المُراد في العقل والقلب، فحقق فيهم منهجية التربية مع التعليم وحسن الاتِّباع (1)

    23) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالاجتهاد فاجتهدوا بين يديه، وانتدب علي بن أبي طالب، ومصعب بن عُمَيْر، وعمرو بن العاص للنظر في نزاعات، وأرسل علي بن أبي طالب قاضياً في اليمن، وعَيَّن معاذ ابن جبل معلماً ووالياً على اليمن (2)

    24) تتابع التنبيه النبوي في ذُرْوَة التأسيس والبناء ليُخَوِّف الأمة من السقوط الحضاري إنْ هي استبدلت بسنن الله، أو عرَّضت نفسها لقساوة القلوب، أو اتِّباع الضَّوال، أو المُغالاة والانتحال، أو التأويل البارد الناقل عن فهم الوحي بشروطه التي خطها بذاته.

    فرسم صلى الله عليه وآله وسلم مناهج العافية باتِّباع معارف الوحي ومقاصده وهداياته، ومواعظ القصص القرآني ورقائقه، ودلالات أحاديث الفتن وأشراط الساعة ودواعي الزوال.

    وأوْجَد في العقل المسلم استبصاراً بالسنن الإلهية العاملة في صيانة الحياة، وصنع وعياً بالنَّسَق الصالح لطبيعة الإنسان، حتى إذا تعرضت الأمة لإصابةٍ ما بسبب تَرْكها واجباً، أو إتيانها منهياً عنه، أو تغافُلها عن شروط العافية، كان عليها أنْ تصحح موقعها بالإقلاع عن المعاصي، وإتيان الواجب، وتسخير السُّنَن المقابلة للترك، والأخذ بما تَخَلَّت عن شرط.

    ولا يزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الأمة أفضل الأعمال؛ فينهى صلى الله عليه وآله وسلم عن سَرْد الصوم، والوِصال فيه، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأواخر من رمضان، وعن العَزَبَة (ترك الزواج) للقادر، وعن تَرْك أكل اللحم، ويأمر صلى الله عليه وآله وسلم بتناول الطيبات، ويُوَجِّه إلى المُباحات بلا إسراف.

    فبان من لمحات هذه التطبيقات النبوية في الوقاية والصيانة والمعالجة أن مَنْ لم يَصُن نفسه في تَلَقِّي الإسلام على منهاج القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة يندم ويفوته خير كثير.

    وصار العابد بلا معرفة بكثير من هذه الوقايات والصيانات والمعالجات معذوراً مأجوراً، والمتجاوز لها على علمٍ بها مفضولاً مغروراً، والمبالغ في تَلَقِّيها من غير عمل منقوصاً مخسوراً.

    من ذلك أن يونس بن عبد الأعلى 264هـ بالغ في الارتفاع برُتَب بعض الرجال، فكان مما قال " لو جُمِعَت أمة لوسعهم عقل محمد ابن إدريس الشافعي 204هـ " (3)

    وتجاوز بعض أهل خُراسان حتى بلغ بأحمد بن حنبل 241هـ منزلة الملائكة، ومنهم مَنْ غلبه هواه، فقال " نظرة عندنا من أحمد ابن حنبل 241هـ تعدل عبادة سنة " (4)

    وبلغ الأمر بمحمد بن مُصْعَب 228هـ حداً جعله يقول " إن سَوْطاً ضُرِبه أحمد بن حنبل 241هـ في الله أكبر من أيام بِشْر بن الحارث 227هـ " (5)

    ووصل البعض بِعدد مَنْ حضروا مجلس أبي الفرج بن الجَوْزي 597هـ إلى مائة ألف، وأنَّ مَنْ أقْرَأهم أبو منصور الخياط 499هـ من العميان فقط بلغوا سبعين ألفاً؛ يريد أصحاب كل إمام، أو عالم أن يرتفعوا به فوق الناس (6)

    وهكذا لم تسلم تلك المبالغات وأشباهها من تعدٍ وشطحٍ، جاء الهدي النبوي له ولأمثاله بجُمَلٍ من الوقاية والصيانة والعلاج، اقتضت أمانة الدرس الوقوف عليها، والتوقُّف عند حدودها، واتِّباعها في كل عصر، خصوصاً هذا العصر.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    (1) الُمنْتَقَى من كتاب مكارم الأخلاق أبو بكر الخَرائطي 157

    (2) المسند أحمد بن حنبل 19361


    (3-6) سير أعلام النبلاء الذهبي 3/85، 10/15، 11/201وبعدها، 12/89، 19/223، 21/370








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •