الفاتحة والمحبة

محمد بن سند الزهراني


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ولي الصالحين، والصلاةُ والسلام على مَنْ بعثهُ الله رحمةً للعالمين، أما بعد:
فاللهم إنَّا نسألك حبَّك وحبَّ مَنْ يحبك، وحب عملٍ يقرِّبنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد.
حديثنا في هذا المقام عن منزلةٍ عظيمة من منازل السائرين إلى الله،وعن مرتبةٍ عظيمة من أعظم مقاماتِ مراتب العبودية إلى رب العالمين، إنها محبة الله والشوق إليهِ، أشرف المقامات وأسمى الدرجات، وأعلى المراتب، أقرب طريق للوصول إلى أعظم محبوبٍ جل جلاله.
ففي سورة الفاتحة في قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، الإشارة إلى هذه المنزلة العظيمة، وهي منزلة المحبة، فالحمدُ هو الثناءُ على الله مع المحبة، فمحبةُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هي المنزلةُ اَلتِي يتنافسُ فيها المتنافسون، ويشخص إليها العاملون، هي قوت القلوبِ وغذاءُ الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة اَلتِي مَنْ حرمها فقد حُرِم الخير كلهُ، هي النور اَلذِي مَنْ فقدهُ فهو في بحار الظلمات، هي الشفاء اَلذِي مَنْ عدمهُ حلَّت بقلبهِ جميع الأسقام، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
ليس الشأن كما قال أهل العلم أنْ تحب الله، ولكن الشأن والله كل الشأن هو أنْ يحبك الله جل جلاله، يُحبك الله في أعمالك كلها، ظاهرها وباطنها، ينظر جل جلاله إلى مستقر الإيمان والمحبة والتعظيم والجلال، ينظر إلى قلبك أيها العبد، فلا يرى الله جَلَّ وَعَلَا في قلبك إلا أنوار التوحيد تتلألأ نورًا وإشراقًا، يرى الله جَلَّ وَعَلَا في قلبك مستقر إيمانك ويقينك بالله.
هذه العلاقةُ ما بين الإيمان والمحبة هي علاقة الصدق مع الله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ[الأنفال:70]، إذا امتلأ قلبك إيمانًا واستقامةً عكف في محراب العبودية لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فطيبُ الحياة والنعيم إنما هو في معرفة الله وتوحيدهِ جل جلالهُ.
إنهُ الأنس والشوق إلى لقائهِ، واجتماعُ القلبِ والهم عليه، فليس لقلبهِ مستقرٌّ يستقر عندهُ، ولا حبيبٌ يأوي إليهِ، ويسكن إليه إلا الله جل في علاه، وما ذلك إلا بالإيمان والتسليم لأمرهِ، وسماع كلامهِ جل في علاه.
فلو تنقل قلبُك في المحبوبات كلها، فلا والله لا يسكنُ ولا يطمئن إلى شيءٍ منها، حتى يطمئن إلى الله إلهه وربِّه ووليِّه اَلذِي ليس لهُ مما دونهِ وليٌّ ولا شفيع، ولا غنى له طرفة عين، ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
يقول بعض الواجدين في مقامات المحبة: (إنهُ ليمرُّ بالقلب أوقاتٌ أقول: إنْ كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب)، وقال آخر: (إنهُ ليمر بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها طربًا)، وقال آخر: (مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله، ومحبة الله، والأنس بهِ جل جلاله يُحبهم ويحبونه).
تأمَّل أيها المحب أسماء الله جل جلاله في كتابهِ، تزداد بها إيمانًا ومحبةً ورجاءً فيما عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أسماء الله جَلَّ وَعَلَا فيها أسماء الرحمة والود والعطف، ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ[البروج:14]، فيها الخلق والرزق والإحياء والإماتة ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:58].
في أسماء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى العلم والإحاطة، وكان بكل شيءٍ محيطًا، فيها القدرةُ والمغفرة، فيها أسماء الجمال والجلال والكمال، هو الرحمن الرحيم، الغفور، الودود، اللطيف، البر، الرؤوف، الرحيم جل جلاله، فلو تأملنا القرآن كله لَما وجدنا اسمًا تمخض للعقابِ والعذاب، ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
بهذا أيها الأخوة الكرام يَمتلئ القلب حبًّا وشوقًا للقاءِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فاللهم إنَّا نسألك حبَّك وحبَّ مَنْ يحبك، وحب عملٍ يقرِّبنا إلى حبك، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. والحمد لله رب العالمين.