السؤال

ذكرتم في الفتوى رقم: (20612 ) بأن موضوع طول آدم متعلق بقدرة الله تعالى، فإن الله تعالى على كل شيءٍ قدير، ولكن المشكلة التي لدي ليست متعلقة بالتعجب والغرابة، وانما متعلقة بصحة هذا الكلام علمياً ، ففيسيوليجياً هذا الكلام مستحيل، حيث إنه من المستحيل أصلا أن يكون هناك رجل بهذا الطول وهذه الضخامة؛ لأن جسد الإنسان صمم بحيث يستحيل أن يكون طوله أكثر من ثلاثة أمتار ويستطيع المشي، وجسد الإنسان ليس نسبة وتناسب، فإذا زدنا كل شيء لن يفرق، بل إن قلب الإنسان لن يستطيع أن يوصل الدم إلى جميع الجسد اصلا، لأنه حتى لو تم تكبيره بحيث أصبح متناسباً مع جسد بهذه الضخامة، لن يستطيع أن يضخ الدم بالقوة المطلوبة، وأما بالنسبة للحفريات التي ذكرتوها فإن علماء الفيسيولوجيا قالوا: بأن هذه لمخلوقات غير الإنس؛ لأن الإنسان يستحيل أن يعيش بجسد يتناسب مع طول أكثر من ثلاثة أمتار كما ذكر، فضلاً عن أن طول آدم ثلاثين متراً، لذلك تولدت لدي شبهة أراها صعبة التفنيد في مسألة التوفيق بين طول آدم وبين العلوم الحديثة قطعية الثبوت، لذلك أرجو منكم إراحة قلبي، والرد على هذه الشبهة.

الجواب



الحمد لله.
مسألة طول آدم من المسائل الشائكة التي أصبحت تثار كثيرا في النقاشات المتعلقة بنقد السنة، وصحة الإسلام، ونظرية التطور، وغيرها من النقاشات.
ويرجع ذلك للتفصيل الصريح والمباشر من النصوص حول هذه المسألة، بما يتشابك، أو قد يتعارض مع بعض الآراء والسرديات.
ولتحرير هذه المسألة فسوف نتناولها عبر أربعة محاور أساسية:
1- طول آدم في نصوص الوحي..
2- آدم عليه السلام ونظرية التطور..
3- ما الرأي الصحيح في المدة الزمنية بيننا وبين آدم..
4- كيف نجمع بين ما ورد بخصوص طول آدم والاكتشافات العلمية الحديث.؟

أولا: طول آدم عليه السلام في نصوص الوحي..
جاء في نصوص السنة تصريح بطول آدم عليه السلام، في عدة أحاديث وروايات منها..
ما رواه البخاري(6227)، ومسلم(2841) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، قال:
خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ علَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، جُلُوسٌ، فاسْتَمِعْ ما يُحَيُّونَكَ؛ فإنَّها تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم، فقالوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَزادُوهُ: ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حتَّى الآنَ.
وفي لفظ مسلم:
فَكُلُّ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ آدَمَ، وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حتَّى الآنَ.

ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله قال:
إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ؛ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ البخاري(3245)، مسلم(2834).

وجاء أيضا ذكر العرض في بعض الروايات كما عند أحمد(8524) عن أبي هريرة:
خلق آدم سبعون ذراعًا، في سبعة أذرع.(في تصحيح هذه الرواية خلاف).
أي كان عرضه عليه السلام سبعة أذرع..

وهذا يُظهِر بجلاء: أن مسألة طول آدم الذي خلقه الله عليه محسومة بالنص، على نحو صريح ، وهو نص ثابت صحيح، أيضا.
ثانيا: آدم عليه السلام ونظرية التطور.
لا شك أن الرواية الدينية السائدة فيما يتعلق بأصل البشر تختلف عن الرواية التطورية التي ترى أن الإنسان العاقل الحديث "Homo sapiens" تطور على مدى ملايين السنين من سلالات أخرى من البشر، كانت أدنى منه في المرتبة، وهم يدعمون هذا الزعم بالاكتشافات الأحفورية التي عُثر عليها، والتي تبين تقاربا واضحا بين الإنسان الحديث والسلالات الأخرى من أشباه البشر، وطبعا ينبني على ذلك حسب هذا المنظور: أن القول بأن آدم كان طوله 60 ذراعا = مجرد خرافة تخالف العلم؛ إن لم يكن لأن ذلك يخرم السلسلة التطورية، فلأن الاكتشافات الأثرية والأحفورية التي ترجع لعصور قديمة جدا، تثبت تكوينا تشريحيا للإنسان الحديث" Homo sapiens "، لا يختلف عن التكوين الحالي !..
ترفض الروايات الدينية لأصل الإنسان هذه الوجهة، وترى أن آدم عليه السلام هو أول البشر مطلقا، وهو مختلف عن سائر السلالات السابقة على وجوده، وأنه لم يتطور عن كائنات أدنى منه، بل خلقه الله خلقا مباشرا من الطين، ونفخ فيه من روحه.
ومع ذلك؛ فليس هناك ما يمنع - في الرؤية الدينية الإسلامية على الأقل - من وجود كائنات قريبة من البشر، انقرضت في الأزمنة السالفة، لكن مهما بلغ هذا التقارب على المستوى التشريحي، أو الجيني فسيبقى، كائنا مختلفًا عن البشر، الذين هم خلق مختلف في أصله عن ذلك تماما، كلهم من نسل آدم وحواء؛ لم يكن أحدهما أصلا، ولا فرعا عن الآخر.
وفق هذه الرؤية؛ فلا إشكال في خلق الله لآدم على صورة فريدة، ومميزة، من حيث الطول أو العرض، كما خلقه الله فريدا ومميزا، من حيث العقل والوعي..لكن لو كان الأمر كذلك فسيبقى هناك إشكال قائم، وهو إذا ما كان آدم مخلوقا على هذه الصورة، فإن عقبه سيكون كذلك لفترة تتيح حصول التناقص في الطول من نحو 40 مترا لحوالي 2 متر بحد أقصى في الأطوال الطبيعية..
وهذا يقودنا للمحور الثالث..
ثالثا: ما الرأي الصحيح في المدة الزمنية بيننا وبين آدم؟
هذه المسألة من المسائل المختلف فيها، حيث انقسم الناس فيها لفريقين:
الأول يرى أن المدة بيننا وبين آدم لا تزيد عن 25000 سنة على أقصى تقدير، وذلك بالنظر إلى بعض النصوص التي رويت في هذه المسألة.
ومن ذلك ما رواه بن حبان(14/69) والحاكم(2/262) عن أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: "نعم، مُعلَّمٌ مُكلَّمٌ ". قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: " عشرة قرون ". قال: كم كان بين نوح وإبراهيم؟ قال: " عشرة قرون ". قالوا: يا رسول الله! كم كانت الرسل؟ قال: "ثلاث مئة وخمسة عشر، جمّاً غفيراً".
ومنه ما رواه الحاكم(2/288) وغيره عن ابن عباس أنه قال:
كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق؛ فلما اختلفوا بعث الله النبيين والمرسلين، وأنزل كتابه؛ فكانوا أمة واحدة.
ومنها ما رواه البخاري(3732) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال:
فترة بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام: سِتّمِائَةِ سَنَة.
فإذا قمنا بحساب المدة بين آدم ونوح، والمقدرة بعشرة قرون - والقرن هو مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان – فسنجد أن المدة بين آدم ونوح تتراوح بين 10 آلاف و12 ألف سنة، إذ كان عمر آدم وذريته حتى نوح يبلغ 1000 و1200 عام وأكثر، وقد ورد ذكر بعض ذلك في سفر التكوين من العهد القديم، ونص القرآن على عمر نوح عليه السلام ..
وكذلك المدة بين إبراهيم ونوح عليهما السلام نجدها ستتراوح بين 3 إلى 8 ألف سنة، نظرا لحصول تناقص في معدل الأعمار بعد الطوفان حسب رواية سفر التكوين..
أما المدة بيننا وبين إبراهيم الخليل عليه السلام فتتراوح بين 3800 و4500 سنة..
فمن خلال بعض الحسابات، يكون أقصى تقدير للمدة بيننا وبين آدم هو 25 ألف عام، وقد تنخفض هذه التقديرات لتلبغ 10 أو 15 الف عام، وإنما قمنا بالحساب على أقصى التقديرات هذا هو الاتجاه الأول..
الاتجاه الثاني: يرى أن المسافة بيننا وبين آدم مجهولة وتقدر بمئات الآلاف أو بملايين السنين. واستدلوا على ذلك بأنه لم يرد في الوحي ما ينص على ذلك، وما ورد منه ينحصر بين الأحاديث الضعيفة والإسرائيليات..
وثمرة هذا الخلاف: أن الاتجاه الثاني يحاول تفادي العقبة الماثلة في قصر المدة الزمنية بيننا وبين آدم عليه السلام، خصوصا مع اكتشاف أحافير لأشباه البشر، ترجع لمئات الآلاف، بل لملايين السنين، حيث يرى بعضهم أن أشباه البشر هؤلاء إنما هم في الحقيقة بشر من بني آدم، يوجد فقط بعض الاختلافات التشريحية غير المؤثرة في انتمائهم للجنس البشري، فكيف مع ذلك يكون آدم هو أبو البشر، ثم يكون هناك بشر قد وجدوا قبله بمئات الآلاف وملايين السنين؟
فضلا عن صلة ذلك بموضوع طول آدم، إذ يوجد إشكال في تفسير ذلك، مع قصر المسافة الزمنية بيننا وبينه!! فضلا عما بين آدم وبين البشر القدماء الذين تم العثور على هياكلهم ومساكنهم، كقدماء المصريين، أو البشر في فترات ما قبل التاريخ؛ فلو قيل مثلا: إن ما بيننا وبين آدم هي فترة تبلغ خمس عشر ألف سنة؛ فكيف يستقيم أن يكون طول آدم نحوا من 18 ضعفا لذريته الذين قد تصل المدة الزمنية بينه وبينهم ألف أو ألفي عام، خصوصا أن القرن في زمنه يقدر بنحو ألف عام؟ وكيف يتناقص طول البشر مما يقارب 40 مترا إلى حوالي 2 متر على أقصى تقدير في فترة تتراوح بين 1000 و5000 آلاف عام، وهي فترة قصيرة من عمر البشرية! ولماذا استمر الطول البشري منذ ذلك حتى الآن على نفس المعدل؟
لكن الأظهر هو الاتجاه الأول الذي يرى أن المدة بيننا وبين آدم لا تزيد عن 25 ألف عام، على أقصى تقدير، وذلك هو ما تؤيده بعض النصوص كما رأينا.
ولكن يؤيده أيضا بقوة: ما قطع الوحي به من أن أول رسل الله هو نوح عليه السلام، فقد جاء في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يذهبون لنبي الله نوح عليه السلام؛ فيقولونَ: يا نوحُ أنتَ أوَّلُ الرسُلِ إلى أهلِ الأرضِ... أخرجه البخاري(3340).
وعلى ذلك؛ فلا يستقيم القول بامتداد الفترة بيننا وبين آدم عليه السلام لمئات الآلاف، وملايين السنين؛ إلا لو قلنا: إن نوحا أيضا تفصلنا عنه مئات الآلاف من السنين، وذلك لصعوبة بقاء البشر في فترات سحيقة تقدر بمئات الآلاف من السنين، دون إرسال رسل وأنبياء إليهم؛ لأن البشر سرعان ما ينحرفون عن الحق، ويحيدون عن التوحيد والإيمان والطريق المستقيم، وهو ما يقتضي إرسال الرسل فيهم لهدايتهم، لذلك سيستلزم القول بوجود هذه الفترات السحيقة بيننا وبين آدم أولا، أن تكون الفترة بيننا وبين نوح أيضا سحيقة، وعظيمة جدا؛ وأن في الفترة بين نوح وإبراهيم الذي نعرف قرب عهده نسبيا منّا = أنبياء كثر جدا جدا، وأجيال كثيرة جدا؛ وكل ذلك غير مرجح لأسباب عديدة لعل ذلك ليس المحل الأنسب لبسطها..
كما أن الحجج التي ذكرها الفريق المقابل يمكن الرد عليها، فنحن لا نسلم أن أشباه البشر هم من جنسنا بل هم مختلفون عنّا تشريحيا وجينيا، وهذا لا يخالفنا فيه التطوريون، ولا يلزمنا مع ذلك الإقرار بالتطور، لأن وجود الشبه لا يستلزم الصلة والارتباط بيننا وبينهم؛ بل قد يدل على العكس إذ إنهم مطالبون بتفسير كيف أن كائنا عاش لملايين السنين، بين طور وآخر، كالأنعام، لا يحسن إلا ما تحسنه الأنعام والبهائم = أن يتطور في ظرف عشرة آلاف عام، ليخترع الحاسب الآلي ويسافر للقمر؟
هذا التحول الرهيب في القدرات العقلية والمعرفية لا يمكن تفسيره بطريقة تطورية، لا من حيث الآلية، ولا من حيث التعقيد، خصوصا مع قصر المدة الزمنية.
كما أن مسألة طول آدم لا تستلزم افتراض وجود هذه الفجوة الزمنية الهائلة؛ فليس كل الناس يسلم بأن هذا كان طول آدم على الأرض. وحتى لو كان هذا هو طول آدم على الأرض، فإن الطوفان حدث محوري، قد يكفل لنا تفسير اختلافات جوهرية وحاسمة في هيئة البشر وأعمارهم، في فترة صغيرة انقرض فيها كل من كان على الأرض سوى أهل السفينة؛ على القول بأن الطوفان عمّ الأرض كلها.
رابعا: ما هي الاحتمالات في هذه المسألة وما معنى الأحاديث الواردة؟
لا شك أن القدر الذي قطعت به النصوص في هذه المسألة: يجب علينا أن نؤمن به، وهو أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا، وفي بعض الروايات = سبعون، وأن كون الأخبار التي وردت في ذلك من الآحاد، لا يبرر بأي حال من الأحوال ما يقوم به البعض من رد هذه الأحاديث ونفي نسبتها للنبي، بل الصواب أن يتم النظر في النصوص، وفي ما قد يعارضها -في نظر البعض- من المعارف المكتشفة حديثا، ومن خلال ذلك يمكننا فهم وتفسير ما ورد في النصوص..
لذلك يمكننا القول في تحليل هذه المسألة: إنه توجد أربعة مسارات أساسية في رؤية هذه المسألة
المسار الأول: عدم الامتناع العملي والعقلي، وأن عدم العلم ليس علما بالعدم.
يرى هذا الاتجاه أن المقصود بالحديث: أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا، وأنزله إلى الدنيا على هذه الصورة، بلا تغيير ثم تناقص طول الناس منذ ذلك، وقد يتبنى بعضهم الرأي الأول في المدة بيننا وآدم، وقد يتبنى البعض الآخر الرأي الثاني، ومستندهم أنه لا توجد أي مسوغات أو معارف أو حجج علمية أو عقلية تتناقض مع مسألة طول آدم عليه السلام، بل قد يدعمها بعض الاكتشافات الحفرية عثرت على بعض الهياكل لبشر عملاقة "Giants"، وقد سلك بعض الباحثين هذا المسار في الرد على هذه المسألة، إذ كل ما لدى المعارض في هذه المسألة هو عدم العثور على هياكل بشرية بهذا التكوين الجسماني الضخم الذي يبلغ الستين ذراعا، وهذا ليس كافيا في حقيقة الأمر، حتى لو عُثر على هياكل عادية تعود لفترات قريبة من آدم عليه السلام.
المسار الثاني: انقراض من كان على هذه الصورة في الطوفان..
وهذا المسار يتبنى القول بأن آدم عليه السلام نزل إلى الأرض على طوله وهيئته ستين ذراعا في السماء، وبقي الحال على ذلك في ذريته، يتناقصون بمعدلات تناسب توالي القرون حتى الطوفان فانقرض من كان طوله عظيما ممن لم ينج، وبقي من بقي من المؤمنين يتناقص جسدهم وهيئتهم، كما تناقصت أعمارهم، ولعل تعذر العثور على هياكل لمن انقرض لانجرافها مع الماء في البحار ونحو ذلك..
المسار الثالث: أن الله خلق آدم على هذه الصورة، لكن لما أنزله إلى الدنيا جعله على الهيئة الحالية..
يقول المعلمي اليماني: " قد يكون خلق ستين ذراعا، فلما أهبط إلى الأرض نقص من طوله دفعة واحدة ليناسب حال الأرض؛ إلا أنه بقي أطول مما عليه الناس الآن بقليل، ثم لم يزل ذلك القليل يتناقص في الجملة. والله أعلم" (الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن المعلمي اليماني، 187).
وبناء على هذا القول، فلا موجب للقول بوجود آدم على الأرض بالطول الذي خلقه الله عليه، بل يجوز القول أن الله خلقه على هذه الهيئة التي تناسب الجنة والتي ستناسب أيضا أهل الجنة إذا دخلوها، ولما أنزله الله من الجنة جعله على هيئتنا الحالية بما يتناسب مع حياته وحياة ذريته على الأرض، وأن التناقص في الخلق يراد به كل نقص يعتري الإنسان في مختلف المناحي، ينزل به عن الصورة الكاملة التي كرّم الله بها آدم عليه السلام.
وقد يشير إلى ما يقرره هذا المعنى من تناقص الخلق في الهيئة العامة الحسنة، لا في الطول فقط، تقريرات بعض شراح الحديث.
قال الطيبي: "قوله: (طوله): بيان لقوله على صورته؛ كأنه قيل: خلق آدم على ما عرف من صورته الحسنة وهيئته، من الجمال والكمال وطول القامة، وإنما خص الطول منها لأنه لم يكن متعارفا بين الناس" نقله عنه القسطلاني في "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" (13/229).
وقال القسطلاني " (فلم يزل الخلق ينقص) من طوله وجماله (بعد) أي بعد آدم (حتى الآن)؛ فإذا دخلوا الجنة عادوا إلى ما كان عليه أبوهم من الحسن والجمال وطول القامة" انتهى، من "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" (13/230)

فكأن المعنى من جنس قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (*) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) .
ووجود هذا المعنى يستفاد أيضا من تقريرات بعض الشراح قال بن بطال: "وقوله: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن): فهو في معنى قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين). ووجه الحكمة في ذلك: أن الله خلق العالم بما فيه دالا على خالق حكيم، وجعل في حركات ما خلق، دليلا على فناء هذا العالم وبطلانه؛ خلافًا للدهرية التي تعبد الدهر وتزعم أنه لا يفنى؛ فأبقى الله هذا النقص، دلاله على بطلان قولهم، لأنه إذا جاز النقص في البعض، جاز الفناء في الكل" من شرح البخاري(9/5-6).
وقال الكرماني " قال بعضهم هو في معنى ما قال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين، وفيه الإشعار بجواز فناء العالم كله، كما جاز فناء بعضه ".
غير أننا لم نقف ، في كلام أحد من العلماء أو شراح الحديث، على من صرح بأن هذا الطول – ستون ذراعا – إنما كان هيئة خلق آدم في الجنة، وأنه لم ينزل إلى الأرض على هذا الطول.
وقد ذُكرت وجوه أخرى لكنها لا تخلو من تكلف ولعل فيما أوردنا كفاية يحصل بها المقصود إن شاء الله.
والحاصل:
أن الإشكال الذي يورد على حديث طول آدم عليه السلام، مردود من نواح كثيرة، وليس هناك قاطع تاريخي، ولا علمي، يرد الحديث بالكلية، أو يمنع قضيته؛ سواء قلنا بآن آدم كان على هذا الخلق في الجنة فقط، أو نزل على ذلك الطول إلى الأرض، ثم لم يزل يتناقص بعد ذلك.
والله أعلم.


https://islamqa.info/ar/answers/4241...B5%D8%B1%D8%A9