وصَفَهُ القرآن بأنه فتحٌ مبين وأنزلت سورة كاملة فيه - دروس من صلح الحديبية وفتح مكة



شهد شهر رمضان المبارك عددًا من الأحداث الكبيرة والمؤثرة في التاريخ الإسلامي، ومن أهم هذه الأحداث صلح الحديبية وفتح مكة، وهما حدثان يدلان على التمكين للإسلام والمسلمين، وفيهما من الدروس والعِبَر ما يعجِزُ مداد الحبر عن إحصائه، ولكن نقف على بعض من هذه الدروس لنستلهم منها العظات والعبر. ففي العام السادس للهجرة أراد الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - العمرة مع أصحابه، وذلك عندما رأى رؤيا أنه سيدخل مكةَ، ويطوف حول البيت، ويعتمر، فقصَّ الرؤيا على أصحابه؛ فاستبشروا خيرًا، وجهَّزوا أنفسهم للإقبال على بيت الله؛ فقد طالت فترةُ البُعد، وزاد الاشتياقُ، وقد وصلت الأخبار بمقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى مكة، فأبت قريشٌ أن تسمح للنبيِّ وأصحابه بأداء العمرة، وهذا الفعل يُعَدُّ جريمة كبرى في عُرْف العرب؛ إذ كيف يُصَدُّ عن البيت الحرام من جاء معظِّمًا له؟! وحدثت مناوشاتٌ كلامية، بل وصل الأمر إلى الالتحام بالمسلمين من قِبَل عصابة من قريش، وأرسلت قريش الرسلَ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تم الاتفاقُ على معاهدة، عُرِفت في التاريخ بـصلح الحديبية.
بنود صلح الحديبية
بنود صلح الحديبية كما وردت في كتب السنة والسيرة هي:
- وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض.
- أن من آمن وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون إذن وليه رده، ومن أتى قريشاً ممن كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه.
- أنه لا إسلال (لا سرقة) ولا إغلال (لا خيانة).
- أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
- أن يرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مكة عامه ذاك فلا يدخلها.
- أن تخرج قريش في العام القابل بعيدا عن الحرم ويدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى مكة ليعتمروا.
- ألا يكون معه في دخوله مكة غير سلاح الراكب وتكون السيوف في القرب.
- ألا يخرج من مكة بأحد من أهلها إن أراد أن يتبعه.
- ألا يمنع أحدا من أصحابه إن أراد البقاء بمكة والإقامة فيها.
دروس وعبر
وبالرغم من اعتراض بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وعلى رأسهم الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على بنود الصلح؛ حيث رأى أن فيها إجحافاً وظلماً، وأعلن ذلك صراحة؛ حيث قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَ نعطي الدنية في ديننا؟»، ولكن الأحداث أثبتت غير ذلك، وجاء القرآن الكريم ليؤكد للبشرية كلها أن اختيار الله لعباده فيه الخير دائمًا، وأن الصلح الذي اعتُرض عليه يصفه القرآن الكريم بأنه فتح مبين، وأنزلت سورة كاملة في هذا الحدث تسمى سورة الفتح يقول -تعالى- في أولها: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (الفتح: ١)، وفي هذه الحادثة العديد من الدروس والعبر نذكر من أهمها ما يلي:
1- اختيار الله لعباده كله خير
هذا الحدث النبوي وغيره يبين للأمة كلها أن ما يكرهه الإنسان قد يكون فيه الخير والسعادة، وأن ما يحبه قد يكون فيه الشر والشقاء، كما يؤكد هذا الحدث وجوب الرضا بحكم الله وقضائه ولو لم يتوافق مع رغباتنا؛ وذلك لأن ما يختاره الله لعباده يقع عن علم وحكمة، قال -تعالى-: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).
2- العفو النبوي الشامل والترفع
عن تصفية الحسابات
بعدما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أصدر - صلى الله عليه وسلم - عفواً شاملاً عمن وقفوا ضده، وضده دعوته، وعذبوه وعذبوا أصحابه، ثم بعد ذلك أخرجوه من أحب بقاع الأرض إلى قلبه، وهذا يدل على الترفع عن تصفية الحسابات والتشفي للنفس، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان لينتقم لنفسه أبدًا، هذه هي أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - التي يجب أن يتحلى بها أتباعه، عكس ما نرى أن من جاءته فرصة ليتشفى من خصمه ما تردد لحظة واحدة.
3- تأديب مثيري الفتنة والشغب
لم يمنع العفو العام الذي أصدره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قراره بإهدار دماء رجال من أكابر المجرمين الذين كانت عداوتهم وشرورهم أكبر من غيرهم، منهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة، وغيرهم، بلغ عددهم تسعة نفر ستة رجال وثلاث نساء، ولكن الرسول عفا عن بعضهم، وهذا التأديب لمثيري الفتنة لا يتعارض مع سماحة الإسلام وعفوه؛ لأن وجودهم سوف يحدث فتنة بين طوائف المجتمع ومعلوم أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن الاستئصال أفضل من العفو هنا، ولكل موقف تصرف يليق به تبعاً للحكمة وتحقيق السلم العام.
4- طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه بداية الانتصار الحقيقي
هذا الحدث يبين لنا وجوب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن خالف الأمر هوى النفس، ففي طاعته - صلى الله عليه وسلم - ومخالفتنا لأنفسنا النصر، فهذه الطاعة طريق الأمة للعودة لريادتها وعزها الحقيقي، ففي طاعته الرحمة والهداية، قال -تعالى-: {وَإن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، وقال -تعالى-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 132).
5- تكريم المرأة من أسس المنهج الإسلامي
العبارات الرنانة والشعارات الزائفة لا فائدة منها ولا طائل إن لم تتوج بعمل، وفي عصرنا الحاضر نسمع عن حقوق المرأة وتكريم المرأة ونرى خلاف ذلك، ولكن التكريم الحقيقي نراه من خلال التطبيق العملي في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد ظهر ذلك جليا في مشورة أم سلمة -رضي الله عنها- في القرارات المصيرية المتعلقة بالأمة، وذلك تكريمًا لرجاحة عقل أم سلمة تربية بيت النبوة، ولإظهار مكانة المرأة في المنهج الإسلامي.
قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ
كما يظهر هذا التكريم للمرأة في صلح الحديبية عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم هانئ: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، تقول أم هانئ: «ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلمت عليه فقال: من هذه. فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال: مرحبا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. قالت أم هانئ وذاك ضحى».
6- التفاوض مع الأعداء لمصلحة الدين والدنيا لا حرج فيه
تفاوض صلح الحديبية وغيره دليل على مشروعية التعامل مع الأعداء وإقامة علاقات بشرط تحقيق المصلحة المعتبرة، وخدمة الدين وتحقيق القوة للمسلمين بعيداً عن الأغراض الشخصية.
7- سمو الإسلام يتجلى في أخلاق أتباعه وأفعالهم
الإسلام أقوال وأفعال وأخلاق، وقد ظهر ذلك في مواقف عدة في أثناء أحداث فتح مكة منها:
- فتح مكة كان في رمضان وكان في السفر الصائم والمفطر، ولم يعتب على أحد؛ وذلك دليل ظاهر على يسر الشريعة الإسلامية.
- إقالة عثرة الكرام، وفضل أهل بدر، وقد تجلَّى ذلك واضحاً في العفو عن حاطب بن أبي بلتعة بعد عتابه.
- تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لربه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه؛ إذ دخل مكة وهو مطأطئ الرأس، حتى إنَّ لحيته لتمس رحلَ ناقته تواضعاً لله وخشوعاً، فلم يدخل - وهو المنتصر - دخول الجبارين.
- في أثناء طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكعبة جاء رجل من قريش اسمه فضالة بن عمير، وكان جريئاً، وأراد أن يغتال النبي وهو في الطواف، ولكن الله -تعالى- أطلع رسوله على الأمر، فنادى الرسول على فضالة وأخبره بما في نفسه فأسلم فضالة من فوره.
8 - النظرة المتأنية وفقه المآلات
يجنبان الأمة كثيراً من الأخطار
ما النتائج المترتبة إذا صمم النبي - صلى الله عليه وسلم - على إتمام العمرة، ورفضه للصلح؟
النتائج الحتمية هي خروج المسلمين من المشهد وتحكم قريش في مجريات الأمور، وسيهدم ذلك التصميم كل ما بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة؛ لأن ذلك إعلان حرب على قريش، وساعتها طرف واحد فقط من له الحق في اتخاذ القرار، لكن بحكمة القائد وقراراته المتأنية والتعامل مع الواقع بفقه المآلات أصبح ندا لأكبر قوة، فهم لهم رأي، وهو - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لهم رأي، وبذلك أصبحت القوى متوازنة بالجلوس على مائدة المفاوضات، وهذا عكس ما يفعل من قبل بعض المتهورين الذين انعدمت عندهم الرؤية المآلية للأحداث؛ مما يترتب عليه خسائر قد تصل إلى فقدان المكانة والمكان، فقد رفض بعض المتهورين من شباب قريش وسفهائها إلقاء السلاح عندما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجميع الأمان مقابل عدم الصدام وسفك الدماء، وأصروا على مقاومة الجيش المسلم، واجتمعوا عند (منطقة الخندمة) لقتال المسلمين وجعلوا عليهم عكرمة بن أبي جهل، فكانت النتيجة أنهم خسروا أنفسهم وكبدوا قريشا خسارة رجال من الممكن الاعتماد عليهم في مرحلة قادمة.
9 - الوعود الإلهية لا تتخلف ولا تتبدل
يظهر ذلك في قوله -تعالى-: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (القصص: 85)، لقد ختم -سبحانه- السورة ببشارة نبيه - صلى الله عليه وسلم - برده إلى مكة قاهراً لأعدائه، فمن الذي كان يظن أن قوماً أخرجوا من ديارهم وأذوا وهم قلة أن يرجعوا إلى أوطانهم فاتحين منتصرين لهم الكلمة، ولكن الحسابات والتقديرات الإلهية لها الكلمة الأولى والأخيرة، فالوعود الإلهية لا تتخلف ولا تتبدل، ولكن لابد من القيام بما تقتضيه تلك الوعود من طاعة الله ورسوله والسير على منهجه وهداه كي ننال ما نرجوه.


اللجنة العلمية في الفرقان