طفلة في الأربعين
مي عباس


تصببت عرقًا، وبدأت تشعر بأنها تود مغادرة صالون التجميل بعد أن سألتها مصففة الشعر للمرة الثانية أي لون اختارت من الكتالوج، شعرت بالحيرة مجددًا، وازداد ضيقها وهي تسترجع البحث، والسؤال، وطول التفكير الذي أرقها على مدار شهرين لتقرر أن تصبغ شعرها، وتختار لونًا جميلاً مناسبًا، وقالت لنفسها: "لم يفلح بحثي وتفكيري .. فها أنا أحتار من جديد وقت اتخاذ القرار".

قامت مرتبكة لتغادر، والإحباط يعلوها، وقالت للفتاة: "أرجو المعذرة، سآتي مرة أخرى".
ابتسمت لها الفتاة بلطف وقالت: "يمكن لك أن تجربي ما تميلين إليه من الألوان، وإذا لم يعجبك، أو لم يعجب زوجك سأعدله لك .. لا تقلقي فالأمر بسيط".
شعرت ببعض الهدوء، ودارت في عقلها الكلمات: "الأمر بسيط .. أحقًا هو بسيط؟!".
قالت بتشكك: "ولكن تغيير اللون أكثر من مرة ألن يؤذي شعري .. أنا أريد أن أغير لونه منذ سنين ولكن منعني الخوف عليه".
قالت الفتاة بلهجة مطمئنة: "لن نغيره مرتين، ستختارين اللون الأساسي الذي تفضلينه، وسأعدل لك درجته إذا أردت، ولا تقلقي فنحن نستخدم صبغات خالية من الأمونيا"، وأردفت: "لدي زبونات يصبغن شعورهن بشكل دائم، ولا يؤدي الأمر لأذى الشعر لأنهن يعتنين بها، ويستخدمن خامات جيدة"، وختمت حيرة زبونتها بقولها: "هيا لن نستغرق طويلاً، وستسعدين بالنتيجة - إن شاء الله -".
وبالفعل كانت النتيجة مرضية، سعدت بالتغيير، وبدت أصغر وأجمل، لم تصدق أنها أخيرًا فعلتها، وتصورت أنها في وقت مزدحم داخل هذا الصالون لم يكن ليبالي بترددها أحد، ومع عاملة أقل لطفًا وذكاءاً كانت ستعود بإحباطها، ليزداد إيمانها بعجزها عن اتخاذ أبسط القرارات.
استقبلها أبناؤها بحفاوة، وعبارات ثناء وإعجاب، لم يخرج زوجها عن صمته العنيد، ولكن يكفيها أنه لم يباغتها بنقده اللاذع، أو سخريته، وعثرت في عينيه على استحسان نادر كانت هي راضية عن نفسها، سعيدة بأنها نفذت القرار أكثر من سعادتها باللون الجديد.
دخلت فراشها بمشاعر فرحة قليلاً ما عاشتها، أغمضت عينيها فرأت فتاة مقيدة اليدين، وتسير في متاهة، كانت تشعر بالحيرة أي طريق تختار أكثر من ضيقها بالقيد في يديها، فتحت عينيها، نعم هذا هو حالها، الحياة بالنسبة لها متاهة كبرى، تتمنى دومًا لو يختار الناس لها، لو لم يكن هناك خيارات من الأساس .. وإن كانت أكثر معلومات، وأكثر خبرة، وإن كانت خيارات الآخرين لها كثيرًا ما أتعبتها.
لكنه القيد في يديها، والغشاوة على عينيها، يمنعانها من الثقة باتجاهاتها، وإيمانها بالقدرة على تغيير المسار، إنه قيد المثالية، ووهم الكمال، وغشاوة الخوف من الندم.
سقطت دمعة ساخنة على خدها، ها أنا ذي وصلت للأربعين، ولو أنني قضيت عشر معشار ما أمضيته في صراعات مع عقلي، وبحثي، وتساؤلاتي؛ في كل الأمور في عمل واحد، أو دراسة، أو حرفة لكنت حققت شيئاً يسر نفسي.
وفي لحظة مصارحة مع النفس تذكرت كم كانت في بداية طفولتها طفلة مندفعة، وجريئة، وتوالت على عقلها مشاهد إيقافها عن الأعمال التي قررت البدء فيها، وزعزعة خياراتها على مدار حياتها، كانوا يخافون عليها، ويريدون لها الأفضل، ويخشون من جرأتها، فوقعت في متاهة الحيرة والبحث عن قرار بلا خطأ، وحياة لا تعرف الفشل؛ فتجمدت.
ومع شريك حياة يسبق إلى لسانه النقد، ويتفنن في استخراج العيوب؛ رغم طيبة قلبه ومساندته؛ فقد ذابت قدرتها على اتخاذ قرار حاسم، وأمضت شطر عمرها في أحلام مؤجلة، وشك لا ينتهي.
لم يقطع حبل تفكيرها إلا صوت أذان الفجر بعد أن صلّت، تناولت فطورها، وارتدت ملابسها، وانتظرت ارتفاع الشمس، وفاجأت صديقتها في مكتبها والتي تعجبت من نشاطها، وزياتها المفاجئة، وازداد عجبها وسعادتها عندما أخبرتها أنها مستعدة لمشاركتها في مشروع حضانة الأطفال الذي طالما حاولت إقناعها به.
في طريق عودتها شعرت بضغط نفسي، وهجوم مباغت للحيرة واللوم، وبدأت المخاطر التي طالما كبلتها تتوالى أمامها، أغمضت عينيها وقالت: "الأمر بسيط، والخطأ قابل للإصلاح، وماذا لو فشلت .. لن تنتهي الدنيا!".
دُهش أبناؤها وزوجها من التغير المفاجئ، لم تعد تسألهم عشرات الأسئلة لتتأكد مما يريدون ويفضلون، كانت تختار وتقرر، وإذا اعترض أحد أجابته مبتسمة بأن المرة القادمة ستكون أفضل.
أرسل لها ابنها الأكبر على هاتفها جملة أعجبتها، وزادتها حبًا في حياتها الجديدة:
حكمة أعجبتني: “ستندم بعد عشرين عامًا، وتشعر بخيبة أمل كبيرة ندمًا على ما لم تفعله، وليس على ما فعلته".