تدارك المبارك


للشيخ عبيد الطوياوي




الحمد لله الواحد القهار ، حكم بالفناء على هذه الدار ، وبالبقاء في دار القرار ، ] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [ . وأشهد أن لا إله الله العزيز الغفار ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار ، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الليل والنهار .
أما بعد عباد الله :
أوصيكم بتقوى الله U ، كما أمركم ربكم فقال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ . فاتقوا الله يا عباد الله ، واعلموا ـ رحمكم الله ـ بأنه لم يتبق من شهر رمضان إلا القليل ، يوم أو يومان ، ونودع شهر رمضان ، انتهى رمضان ـ أخي المسلم ـ سوف يرحل بما أودعته من عمل ، سوف يرحل وينتهي إما شاهدا لك أو شاهدا عليك ، سوف تجد أيامه ولياليه وما عملت بها من أعمال ، محفوظة في كتاب : } لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا { :
يا غافلا ً وليالي الصوم قد ذهبت
زادت خطاياك قف بالباب وابكيها
واغنم بقية هذا الشهر تحظ ، فما
غرسته من ثمار الخير تجنيها
وتب لعلك تحظى بالقبول عسى
أن تبلغ النفسُ بالتقوى أمانيها
وقل إلهي ، أنا العبد الذليل وقد
أتيت أرجو أجورا فاز راجيها
فلا تكلني إلى علمي ولا عملي
واغفر ذنوبي ، فإني غارق فيها
من أبرز وأهم صفات المسلم ، أنه مهما بلغ تقصيره ، ومهما بلغت ذنوبه ، فإنه لا يقنط من رحمة الله تعالى ، فكلما أحدث ذنبا أحدث له توبة ، المسلم يكون دائما توابا أوابا رجاعا إلى ربه U . وما زال أخوتي في الله ، في الوقت فسحة ، فأبواب الجنة ما زالت مفتحة ، وأبواب النارـ أعاذني الله وإياكم من النارـ ما زالت مغلقة ، والشياطين ما زالت مصفدة ، وما زال الملائكة يستغفرون للصائمين ، ولله عتقاء من النار في كل ليلة ، فاجتهد يا عبد الله ، اجتهد لعلك تكون في ليلة من الليالي الباقية ، أحد المعتقين من النار ، ففي الحديث يقول النبي r : (( أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة قبلهم : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا ، ويزين الله U كل يوم جنته )) تأمل أخي في الله ، كل يوم من أيام رمضان ، يزين الله جنته ، باقي الآن ـ كما ذكرت ـ يوم أو يومان من رمضان (( ويزين الله U كل يوم جنته ، ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة ، ويصيروا إليك ، وتصفد فيه مردة الشياطين ، فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ، ويغفر لهم في آخر ليلة )) أنتبه يا عبد الله ، ما زال في الوقت فسحة ، وما زالت الفرصة مهيأة ، يغفر لهم في آخر ليلة . قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : (( لا ، ولكن العامل يوفى أجره إذا قضى عمله )) . يعني المغفرة تكون في آخر ليلة من ليالي رمضان ، في آخر ليلة ، تكون المغفرة من الله للصائمين . فاجتهد يا عبد الله فيما بقي من هذا الشهر ، واغتنم هذه اللحظات ، وتلك الساعات القليلة ، التي سوف تمر وتنتهي وبسرعة .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومهما فعل العبد من معاصي وآثام وذنوب ، فإنها بين يدي كريم ـ أي والله كريم ـ فقط المطلوب هو التوبة ، يقول تبارك وتعالى : ] قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ وفي الحديث عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله e : (( لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ، ثم تبتم لتاب عليكم )) . وفي حديث آخر عن ابن مسعود t قال e : (( للجنة ثمانية أبواب ، سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) . ‏وروى الترمذي عن أنس بن مالك ‏ ‏قال‏
‏سمعت رسول الله ‏ ‏e ‏ ‏يقول : (( قال الله تبارك وتعالى ‏ ‏يا ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏لو بلغت ذنوبك ‏‏ عنان ‏‏ السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏إنك لو أتيتني ‏ ‏بقراب ‏ ‏الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك ‏ ‏بقرابها ‏ ‏مغفرة )) .
فالتوبة التوبة ؛ عبد الله ؛ إنك إذا تبت إلى الله U وصدقت في توبتك ، ليس فقط تغفر ذنوبك ، بل يفرح الله لذلك ؛ والله ـ أيها الأخوة ـ لو ذكر شيئ يفرح مسؤلا ؛ لبادرنا بالبحث عنه ولبذلنا جهدنا لتوفيره ، ليحصل لنا الشرف بإفراح ذلك المسؤول ؛ فكيف يا عبدالله تبخل بالتوبة ، والله جل جلاله يفرح بذلك ، هل تريد أخي أن تعرف مقدار فرح الله بتوبتك ؟ أنت يامن فرطت في أيامك الماضية ! أنت يامن تركت صلاة الجماعة من أجل مسلسل تافه ، أنت يامن لم تقم رمضان إيمانا واحتسابا ، وقضيت ليلك لمضايقة المسلمين في أعراضهم أو سرقت أموالهم ، أنت يامن لم تحفظ لسانك عن الغيبة والنميمة ، أنت يا من لم تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل ، ترابي وترتشي وتزور وتكذب وتحتال وتغش وتخادع ، أنت يامن تعصي الله U ويستر الله عليك ، أنت يا قاطع الرحم ، أنت يا شارب الخمر ، أنت ياعاق والديه ، أنت ياظالم أنت يا خائن ، هل تريد أخي أن تعرف مقدار فرح الله بتوبتك إذا تبت ؟ تأمل هذا الحديث : يقول النبي e : (( لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها ، قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح )) . فتب يا عبد الله ، وارجع إلى ربك ، تدارك المبارك ، واختم شهرك بأوبة صادقة خالصة . اسأل الله أن يتوب علي وعليك .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :
] وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أيها الأخوة المؤمنون :
اعلموا رحمني الله وإياكم ، بأنه يشرع لكم في ختام شهركم ، زكاة الفطر ، وهي فريضة فرضها رسول الله r على المسلمين ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، ففي الحديث يقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين .
وزكاة الفطر ـ أخوتي في الله ـ طهرة للصائم مما وقع فيه من لغو ورفث ونحوه ، ونحن والله بحاجة لمثل هذه الزكاة ، قليلة المقدار عظيمة الفائدة .
نحن أخوتي في الله ، أشد حاجة لهذه الزكاة ، من حاجة المساكين لها ، وإن كان المساكين يحتاجونها لتسد جوعتهم يوم العيد ، فنحن نحتاجها لتكون طهرة لنا مما سمعتم في الحديث السابق .
فالله .. الله .. أخرجوا زكاة فطركم من طعامكم ، عن أنفسكم وعمن في بيوتكم ، وما هي إلا صاع مما تطعمون منه ، كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري t قال : كنا نخرج في عهد النبي r يوم الفطر ـ يعني قبل الصلاة ، صلاة العيد ـ صاعا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر .
اسأل الله U أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، وان يرحمنا برحمته فهو أرحم الراحمين .
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم اجعلنا في هذا الشهر العظيم من عتقائك من النار . اللهم اجعلنا من الذين وفقوا لقيام ليلة القدر، واجعلنا فيها وفي غيرها من الليالي من الفائزين .
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لهداك ، واجعل عملهم برضاك ، وارزقهم البطانة الصالحة وابعد عنهم بطانة السوء يارب العالمين . اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره تدميرا له يارب العالمين . اللهم إن للصائم دعوة مستجابة ، فاللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا ، وتستر عيوبنا ، وتهدي قلوبنا ، وتشفي مرضانا ، وترحم موتانا ، وتسدد ديوننا ، وتعافي من ابتليته منا برحمتك يا أرحم الراحمين .] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ .

عباد الله :

] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [

فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .