ورق وقدر
فاتن الرقب


كانت حرارةُ الشمس، تضربُ محيَّاه، وعيونه التي تأطَّرت بنظارة طبيَّة، تلمع بحدة، شعره الأشهب، ووجنته قانية الحُمرة، ملامحُ صنعت منه قسوة وحِدَّةً، وضيم الزمان بدا على تلك التجاعيد الساكنة أعلى جبهته، جعلته يكبرُ وهو ما زال في ريعان شبابه، تلك التجاعيد التي تحنَّطت فوق جبينه، شاهدة على كلِّ ما عاناه في حياته، حتى بات لا يعرف كيف يبتسم الناس، كيف يضحكون؟

هو قبل بزوغ الفجر بسويعات، يرتدي ثيابه الرثَّة، التي أكل الزمان عليها وشرب، يتوجه إلى السوق المركزيِّ، يعتلُّ سحارات الخضرة والفاكهة على ذلك الظهر الذي احدودبَ من تلك الأحمال الثقيلة التي يعتِلها، كأنما يحاول أن يقاوم الضنك الذي يعيش فيه، سحارة تلو أخرى، وأكياس تلو أكياس، حتى يبزغ نور الصباح، وترمقه الشمس بنظراتها الحارقة القاسية، فيتصبب عرقًا وقهرًا.

ابنته التي تعود من مدرستِها باكيةً، لرحلة مدرسية لم تسجل بها، أو لطلبات معلمة التربية الفنيَّة، وتوبيخها لها لعدم إحضارها ما طلبته، وبكاؤها الذي يمزِّق كبده، وابنه الذي يعود مكتئبًا؛ لأن صديقه سيلتحق في نادي الكراتيه، تلك الرياضة الذي تمنَّى أن يلتحق بأحد المراكز ليتعلَّمها، وصديقه الآخر الذي ابتاع هاتفًا خلويًّا غاليًا، وهو لا يزال على ذلك الهاتف الصغير، ذي الأزرار القاصرة.

ما عساه يفعل... أخذَ يكلِّم نفسه، فهو يحاول جاهدًا أن يؤمِّنَ لهم لُقْمة عيشهم، ويحرم نفسه؛ لِيُلَبِّي ما يستطيع أن يلبيه من طلبات أبنائه المتواصلة.
خرج في تلك الليلة، كان الجوُّ قارصًا، والبرد كأنه جلاد يجلد ظهره وأطرافه، وهو يرتدي "جاكيته" الرثَّ، و"كنزة" صوفية بهت لونها، خرجت بعض خيوطها من مكانها، سبقه أولاده على باب المنزل، وكلٌّ منهم أعطاه قائمة طلبات واحتياجات مدرسية، أخذها وخرج.

وصل السوقَ، وبدأ يَعتِل الخضرة والفاكهة، وهو يشدُّ من أزره، فأولاده ينتظرونه ليلبِّي لهم ما يستطيع من حاجاتهم، تجمَّدت أطرافه وتصلَّبت أذناه من البرد وأخذ يسعل، وأنفه أصبح قطعة ثلج أحمر، فقد أصيب بأنفلونزا حادة منذ أيام، وأوصاه طبيب المركزي بالراحة التامَّة، وكتب له مجموعة من الأدوية المناسبة لحالته، فأدوية المركز هنا لا تجدي له نفعًا، ولكن حاله لم تسمح له بشراء تلك الأدوية، فأولاده أولى بتلك النقود التي يبتاع بها أدوية لنفسه، اشتدَّ سعالُه حتى أعجزه عن مواصلة عمله، أخذ نفسًا عميقًا، وأسند ظهره قليلًا إلى حائط محلات السوق، وهو يحاول أن يوقف تلك النوبة التي انتابته، كان صوتُ حشرجةِ صدره مسموعًا بشكلٍ ملحوظ، وأخذت تغزوه الحرارة، وتنتشر بين أوصاله.


أخرج قائمةَ طلبات أولاده، يتمعَّنها ويُحصي ما يستطيع شراءه لهم قبل عودته، وأخرج ورقة الطبيب الذي وصف له الأدوية، أحكم قبضته على الورق الذي يحمله، أخذ نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه.
قاربت الساعة الظهيرة، وهو ما زال على نومته تلك، جاء أحد أرباب العمل؛ ليوقظه بصوته العالي، ناهرًا إياه؛ لتأخره عن عمله، وأخذ يتوعَّد ويتهدَّد بطرده، نكزه بعصا كانت بيده، فإذا به يقعُ أرضًا، فاقدًا حركته وأنفاسه، وتلك الورقات لا تزال في يده، محكمًا قبضته عليها.