قرد عجوز
السيد شعبان جادو
لأوَّلِ مرة أفقد قدرتي على الكلام، إنها حالةٌ من التلاشي بدأت تضربُ جسدي حتى يخيَّل إليَّ أنني عبء على الأرض، يبدو هذا واضحًا في نظرة الآخرين إليَّ، يهتمون بي حين أشعر بوجودي، هذا لن يحدث على أية حال، فبائع الكتب يرضى بأن يحتل جزءًا من رصيف الشارع مرغمًا على هذا الموضع، شرطة المرافق متأكدة أن بضاعتي لن تحرِّك أحدًا، الكتب صارت مدجنة مثل أصحابها، اختفت العناوين الملهمة، وحلت مكانَها أخبارُ الوجبات السريعة، على أن أعطي مع كلِّ صحيفة حرفًا من ديوان المقصلة!

حتى هذه تجلب لصاحبها شهرة لا حد لها؛ الكتب الممنوعة تزيد في ربحي كثيرًا، حيث أضعها أسفل طاولة الكتب، لها الزبون الذي يعرف قيمتها، الآن تناقصوا كثيرًا؛ فبعضهم أكلته مرارة الاغتراب، والباقون لاذوا بالهروب وراء شعارات جارفة، ما عاد أحد يهتم ببائع كتبٍ فقير، فثيابي صارت ممزقة أتربة الشارع عدَتْ عليها، صرتُ مثلَ قرد إفريقي عجوز، القطة التي كانت تشاركني حبات الفول لم تعد تأتي صباحًا، بعد الساعة العاشرة تتمطى في زهوٍ؛ فقد امتلأ بطنُها بفضلات مطعم الوجبات السريعة، هي تأتي كل ضحوة لتُظهر شماتتها بي، هذا ما يثيرني ويجعلني أكثر حنقًا عليها، لَكَمْ أتمنى ألا تأتي، فالكثير يتجاهلون بائع الكتب الفقير، خاصَّةً لو كان منظره أشبه بقرد عجوز.

اليوم حدث شيء خارج سياق المعتاد؛ وقف قبالتي رجل ذو شعر أصفر وله عين صغيرة نافذة، نفحني مائة جنيهٍ مرةً واحدة، سُررت لهذا؛ فأنا في حاجة لأن أدفئ بطني بوجبة ساخنة حتى ولو كانت من مطعم "توم وبصل".

ليس لي بيتٌ يضم أطرافي التي نسيت أن أدثرها بغطاء، أو أُلَبِّي له بعض رغبات مجنونة، احترت هل أنا رجل أم امرأة؟
الإجابة عن هذا التساؤل تثير داخلي تمردًا قد يفضي بي إلى الجنون، على أن أحتفظ بطاولة كتبي، المعطف المتقيح صار علامةً على جسدي الذي يزداد تقزمًا كلَّ شتاء، وحده ذلك الرجل ذو الشعر الأصفر بدأ يأتي قبل القطة المتمردة يحمل لي طعامًا شهيًّا، يُسِرُّ إليَّ بطلب غريب؛ أن يشتري طاولة كتبي العتيقة، وسيجعلني عليها قَيِّمًا، ستتوسع كثيرًا، إنها ستضاء بالكهرباء، ستتحول إلى صالة عرض براقة، فقط هو يريد أن يغير من بزتي، يجعلني أرتدي معطفًا تتدلى منه رابطة عنق زرقاء، ويضع كتبًا جديدة تقف بجمالها في الصف الأول من الطاولة.

لا أُخفي عليكم أنني بعد مراودة صعبة وتحت ضغط الحاجة لأنْ أعرف من أكون؛ ذكرًا أم أنثى، عقدت النية السوء أن أستجيب له.

عشتُ زمنًا أقتات الكلمات التي لم تجلب لي غير الزراية، الناس في هذا الشارع ينظرون إليَّ على أنني زائدة دودية حانَ التخلص منها، فأنا أشوِّه جمال المدينة، القطة التي يومًا ظننت أنها تمرَّدت عليَّ كانت تسترق السمع، تسجل كلَّ ما يفوه به ذلك الرجل المتسلل إلى عقلي!

جاء طفل صغير يحمل كسرة خبز، ووراءه أمه تحمل كوبًا من ماء مصفَّى، أول مرة يشعر بي أحد، الماء كان به منبه لم أعهد مثله!

انتبهت جيدًا، إنها ابنة أخي وقد أعياها البحث، دلوها عليَّ، فالقابعون في شارع محمد محمود يحتفظون بهُويَّة كلِّ من يمر بسماء الوطن، ساعتها فرَّ ذو الشعر الأصفر، وجدت ثيابًا نظيفة، اعتدل ظهري، أشرقت الكلمات على شفتي.
الجموع تتابع على كتبي.