أمير الحي (قصة قصيرة)
د. شريف عوض الدخميسي












كان الشارع أمَّه وأباه، مستقرَّه ومأواه، كان يعرف الكلاب الشاردة، والقطط الضَّالَّة، ويعرفونه، يشعر بهم، وكذلك هم، يأنَسُ لهم ويحومون حوله، يلجؤون له؛ بَيْد أنَّه مثلهم هائمًا وشاردًا.



الناس ينادونه (رضا)، لا يذكُر مَن سمَّاه، قد يكون لرضاه بأيِّ شيءٍ حتَّى لو بالقليل، لا تعرف له سنًّا محدَّدةً، أو ملامح مُميَّزةً، أو حِرفة بعينها، فأنَّى له وهو يمتِهُن كلَّ حِرفةٍ؟! متى طلبتَه تجدْه لا يخذلك.







سمعهم يقولون: (فتحية) الراقصة أمه - ولد زنا - وضعته أمام الجامع واختفت من يومها، وقال آخر: (صفية) الشحَّاذة أمه ماتت بعد حادث سيرٍ وتركته للشَّارع يتولَّاه، لم يأبه كثيرًا لقولهم، ولم يبحث طويلًا كيف جاء؟ جُلَّ تفكيره أن يعبث بالأشياء، يُكوِّر دُنياه ويضربها بقدمه كلاعبٍ بِكُرةٍ، ينفُثها في سيجارته، يُلقي بها خلف ظهره، ويشيح عنه بناظريه ازدراءً، يدُسُّها في ورقته بقلمه الذي يحمله دومًا؛ عجبًا! ما حاجته إليه وهو الأُمِّيُّ؟!
لا يعرف الحزن طريقًا إلى قلبه، ولا دمعة يومًا ربضت تحت جفنه، لا يُقلقه أيٌّ من الأمور؛ فكلُّ الأمور عنده صغائر، الضحكة مُبتغاه، والمُزحة ضالَّته، والابتسامة قسمات وجهه؛ لذا أحبَّه الناس، وكيف لا؛ وهو ملاكهم الحارس ليلًا، خادمهم المُتفاني نهارًا، بلا كلَلٍ أو ملل؟! دائم الحركة لا يهدأ، شراع قاربٍ يفتح صدره لكلِّ رياح النِّداءات والاستغاثات، يحمل عن هذا حمله، يقضي لهذه حاجيات السوق، في الحيِّ أينما تُولِّ وجهك تَرَه.







الكلُّ يعطف عليه ويُعطيه، يستقرُّ في قرارة نفسه أن مراكب الحيِّ السَّائرة بدونه حتمًا رابضة متوقفة، دومًا يطرح رأسه إلى الخلف واهبًا عينيه للسماء، ويُلقي سؤالًا في الهواء، ما الفارق بيني وبين الأمير؟! وأطرق هُنيهةً يفكِّر، يداعب شعره الأشعث الطويل كشبكة عنكبوت، ثم ينتفض فجأةً ويتقافزُ فرحًا يهتف: "أنا أمير الحيِّ بأعلى صوتٍ يهتف ويُقهقِه".



ملابسه تَنُمُّ عن فقرٍ، شقوقٌ سوداءُ تملأُ كعب قدميه الحافيتين، واشية ببُؤسٍ، وعلى الرَّغم من ذلك كانت عيناه تفيض رضًا، قلبه ساجدٌ في محراب القناعة، وكأنه استطاع عروجًا لسماء السعادة.







كل هذا تذكَّره وهو مُمسك بمقود سيارته الفارهة التي عبثًا تحاول أن تتعرف على نوعها أو بلد صنعها، يُجيل عينيه الواسعتين من خلف عويناته الشمسيَّة ذات الماركة العالميَّة، مُمدًّا رأسه، تكاد تخرج من زجاج السيارة الأماميِّ يتفرَّس في ملامح الحيِّ الذي كان يومًا أميره!



يبحث عن بطَّانية صوفٍ مُهترئة ذات رقاع، ومرتَّبة مُهلهلة كثيرة الفجوات، كان جالسًا عليها يرسم، كان يقول عنها والمحيطون به: شخبطة، رأى ذلك الرَّسَّام الشهير فيه موهبة لو تولَّاها لطاولت السماء بيدها، فأخذه وتبنَّاه، وفى أحضان الشُّهرة والمجد ألقاه.







انتفخت أوداجه التي طالما كانت ذابلةً، كما انتفخت حافظة نقوده التي لم يفكِّر قبلًا أن يمتلك واحدة، تزوَّج من بنت عائلة كُبرى، أضحى وسيمًا في العشرين هكذا، تقول صادقًا حين تراه: وكأنَّ الدُّنيا جاءت جاثيةً عند قدميه وقالت: هَيْت لك، فنبت له ألف يد ويد، واغترف.







كان ثمَّة سؤالٌ كشبح داكن، خفيٍّ رابض، يُطارده في صحوه ونومه، في نهاره وليله، يسمع همسات، تُلاحقه نظرات مُستفهِمة في غدوِّه ورواحه، حتى في غُرفة نومه، زوجته تسأل: مَن أمُّك؟ امتلأت دفاتر إجاباته عن أمه كذبًا، صار ينطِق كذبًا، يعيش كذبًا، كان كذبًا؛ أدرك قديمًا أن قليل الماء يُنقذ، والآن أدرك أن كثير الماء يُغرق.

ما زال يبحث عن مرتبته، سأل أحد المارَّة، مِن رثَّة هيئته وغلالة بؤسِه خالَه يعرف مَرتبته؟ أجاب بصوتٍ خافتٍ: لا أدري، ثم تذكَّر: آه، (رضا) أرهف سمعَه، علَت معه دقَّات قلبه، ولونه ازداد شحوبًا، ثم عاد المارُّ ليُكمل، يقولون: أم رضا تقيَّة نقيَّة عابدة، دعاؤها مستجاب، وجده أبوه مصادَفة؛ لذا (رضا) أحكم لجام الفنِّ، وامتطى صهوة الشُّهرة والأموال، وسار إلى قمَّة المجد.

أشاح (رضا) بوجهه دونه، وتنهَّد الضِّيق، وعاد يعبث فيما أمامه، يبحث عن مرتبته المُهلهلة، يبحث عن بطَّانيته الصُّوف المُهترئة، يبحث عن (رضا)!