حامل الجينات المتكلسة
السيد شعبان جادو



ارتديتُ ملابسي مسرعًا، حتى الحذاء وضعته في قدمي كيفما اتفق، فيما كنت في القطار هالني أن واحدة منه تعود لزوجتي، عرفت هذا حيث شعرت بأنني غير متزن، حاولت أن أتخلص من أشيائها التي تتبعني، ربما هي قدري الذي لا أستطيع التخلُّص منه.

دارت في رأسي أفكار شتى، على كلٍّ هي منظمة جدًّا، فلأبتعد عن هذا اللفظ، إنهم يراقبون شارات الأعين، حركات الأصابع، أجهزة التصنت تقبع في كلِّ مكان، أعمدة الإنارة، ماكينات الصراف الآلي، بائعو الفول، درج المترو الكهربائي تحصي ألوان الملامسين له، تسجل ماركات الأحذية، يقال: إنها تعطي كلَّ جديد شارةً سريةً؛ ومن ثمَّ يسهل التعرف على القادمين للعاصمة، إنهم يستعدُّون جيدًا، لن يُباغَتوا على كل حال.



وحتى الأقلام هناك عداد في كل محبرة تتعرَّف على نوع الكلمات المخاتلة، إنهم في هذا ماهرون.

حين آويت إلى فراشي نظفت الآنية جيدًا، نظرت في زوايا الحجرة، وضعت الستائر، أريد أن أتمتع بساعات نوم لا يراقبني فيها أحد، نازعني شيطاني إليها، توضأت في عتمة الظلام؛ إمعانًا في التخفِّي، مسرعًا فعلت هذا!



قلت لها: لا تبدلي ثيابك، لا حاجةَ بي إلى هذا العطر، ولا أشتهي الثوب الأحمر، ذلك خداع، فالمقصلة دائمًا يتراقص تحتها من يرغمون على هذا اللون، بتُّ أكره الألوان دائمًا تخدع، عالمي صار ندوبًا من بقايا لون قرمزي، هي تدرك أنني أتوق إلى هذا، نزفت مني دمعة، كل الرغبات منظورة، ألف حسرة غرست في قلبي.



الوجوه مقنعة بتلك النظارات، أشبه بيوم احتفالي، أما أنا فصرت غريبًا، إنهم يتخفون بعضهم من بعض، سخرت منهم لما رأيتهم هكذا، نسيت أن أخبركم، تهمتي التي وجهت إليَّ هي أنني تافه!

لا يراعي الذوق العامَّ، يرتدي ثيابًا لا تليق بسنِّه، يهرف بكلمات ممسوسة، لا خطر منه، يحتسي الشاي وهو يتبلَّع ببعض قضمات من رغيف يابس؛ يعيش الأمس، بل يكره شروق الشمس.



نعم مكتوب عني هكذا: لا يراعي العرف، بدلت هذه الكلمة في معجمي، أنني ليس لي عرف!

نعم يحلو لي أن يقال عني: دجاجة، على الأقل لا صوت لي، أقنع بحبات من قمح، أتقممها من أي مكان.

القطار يوشك أن يدخل المحطة، كل يوم في تمام الثامنة يفعل هذا، إنه مراقب، السيارات الزرقاء تمتلئ بالوافدين الجدد، النجوم تتراقص في شمس الضحى، أنسحب إلى ثقب بالجدار حيث أمرُّ منه كدودة تتمطى.



لا أدري ماذا حدث؟

التمثال الحجري الواقف في استعلاء، قبضته المرعبة، صولجانه الكبير، إشارة للدجاج مثلي أن يصمت، نسيت أن أخبركم أنني لم أجد بطاقة هويتي، لا حاجة بي إليها؛ بصمتي تكفي، لقد تركت أثرها عندهم، مجرد أن أدلف من الممر الأرضي ستخبرهم بهمساتي، بل هي تعرف أنني لم أفعل ما يوجب الغسل، إنها تخبرهم بطهارتي.



عندما هممت بالعبور إلى الجهة المقابلة، وجدت لافتة مرفوعة حيث الأيادي المصلوبة أعلى البناية العتيقة، تذكرت أن هذا يوم حياة الوطن، إنها مناسبة سعيدة لأن توضع صورةُ الزعيم في كلِّ مكان، تصدر الصحف الملونة بوسامته، تتحدث الإذاعة بنغمته الساحرة، القنوات تتدفق فيها دماء جديدة؛ يوم أن جاء الزعيم، المجد لله وعلى الأرض السلام!



في هدوء حذر، ارتددت إلى الخلف، كان القطار لا يزال رابضًا في مكانه، اشتريت رغيف خبز، ساومت البائع على قطعة جبن، رفض أن أنطق هذه الكلمة، أوصاني من خوفه عليَّ أن أطلب قطعة لبن متجمِّد بالملح.

اللغة تغيرت هي الأخرى، إنهم يرصدون مفردات الناس، الهواتف الذكية مبرمجة على هذه الكلمات، اقتنعت في خوف بوجهة نظره، حين وضعت قدمي في القطار، صافرة الإنذار تصرخ، الأبواب أغلقت، تأبدت قدمي في أرضية العربة.



كان الحذاء يصدر إشارات ملونة، نظرت إلى حذائها كان هو الصامت في حرقة، أشبه بدموع تتساقط على جانبيه، تذكرت أنها فعلت هذا كثيرًا، حتى ملَّت مني.

في مرة أخبرتني أن الصغار لن يأتوا بالمراسلة، ساعتها فهمت لِمَ تبقَى دون طهارة أربعة أيام كل شهر؟



لو غفلوا ساعةً، يزهر طفل في أحشائها؛ أنى لنا أن نفعل هذه الحماقة المؤجلة منذ أربع سنوات، كلما هممنا بهذا تأتي ريح فيها نار، اختبأت في ثقب الباب حين أتوا رأيتهم، الوجوه الكالحة نفسها؛ لكن أجسادهم التي كانت مثل وحوش بريَّة صارت اليوم ضامرة هزيلة، لم يعد يعطيهم خبزًا، النهر يوشك أن يغور ماؤه، لا وقت لتلك الحكمة المخيفة، عليَّ أن أتبلَّغ بالصمت، في المرة القادمة ربما تكون الحكاية قد أخذت شكلًا جديدًا!